الرئيسة - رد شبهات المجيزين - شبهات وردود عن حكم المولد النبوي
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

شبهات وردود عن حكم المولد النبوي

** الشيخ عادل بن علي بن أحمد الفريدان **

 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران:102].

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))[النساء:1].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبعد: فإن الله أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، وأمرنا جل ثناؤه بالتمسك بهذا الحديث حتى الممات، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[آل عمران:102].

وقال تعالى: ((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[البقرة:132].

وبين الله تعالى الحكمة من خلق الإنس والجن فقال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56].

وفي ذلك شرف لهم وسعادة لهم في الدارين والفائدة من هذه العبادة إنما هو راجعة لهم، فمن أبى أن يعبد الله؛ فهو مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره؛ فهو مشرك، ومن عبد الله وحده بغير ما شرع؛ فهو مبتدع، ومن عبد الله وحده بما شرع؛ فهو المؤمن الموحد.

ولما كان العباد في ضرورة إلى العبادة ولا يمكن أن يعرفوا بأنفسهم حقيقتها التي ترضى الله سبحانه وتعالى وتوافق دينه؛ لم يكلهم إلى أنفسهم بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب؛ لبيان حقيقة تلك العبادة كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36].

وقال: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ))[الأنبياء:25].

فمن حاد عما بينته الرسل ونزلت به الكتب من عبادة الله، وعبد الله بما يملي عليه ذوقه، وما تهواه نفسه، وما زينته له الشياطين الأنس والجن؛ فقد ضل عن سبيل الله، ولم تكن عبادته في الحقيقة عبادة الله، بل هي عبادة هواه، كما قال تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ))[القصص:50].

وهذا الجنس كثير في البشر وفي طليعتهم النصارى، ومن ضل من فرق هذه الأمة كالصوفية، فإنهم اختطوا لأنفسهم خطة في العبادة مخالفة لما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.. ويتضح هذا ببيان حقيقة العبادة التي أمر الله بها وحقيقة ما عليه الصوفية اليوم من انحرافات عن حقيقة تلك العبادة.

فالعبادة التي شرعها الله سبحانه وتعالى تنبني على أصول وأسس ثابتة تتلخص في الآتي:

أولاً: أنها توقيفية -بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها، بل لا بد أن يكون المشرع لها هو الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى لنبيه: ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا))[هود:112].

وقال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))[الجاثية:18].

وقال عن نبيه: ((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ))[الأحقاف:9].

ثانياً: لا بد أن تكون العبادة خالصة لله تعالى من شوائب الشرك كما قال تعالى: ((فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا))[الكهف:110].

فإن خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها كما قال تعالى: ((وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))[الأنعام:88] وقال تعالى: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ))[الزمر:65-66].

ثالثاً: لا بد أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ))[الأحزاب:21] وقال تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا))[الحشر:7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}، وفي رواية: {من أحدث في أرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وقوله صلى الله عليه وسلم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وقوله صلى الله عليه وسلم: {خذوا عني مناسككم} إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

رابعاً: أن العبادة محددة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديها وتجاوزها كالصلاة مثلاً، قال تعالى: ((إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا))[النساء:103].

وكالحج، قال تعالى: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ))[البقرة:197] وكالصيام، قال تعالى: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)) [البقرة:185].

خامساً: لا بد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله تعالى والذل له والخوف منه ورجائه، قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ))[الإسراء:57] وقال تعالى عن أنبيائه: ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))[الأنبياء:90] وقال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ))[آل عمران:31-32] فذكر سبحانه علامات محبة الله وثمراتها، أما أعلاها فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما ثمراتها فنيل محبة الله سبحانه ومغفرة الذنوب والرحمة منه سبحانه.

سادساً: أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلاً إلى وفاته، قال تعالى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[الحجر:99] تلكم الأمور الستة هي ضوابط العبادة الصحيحة التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وأمر بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يبلغها للناس أجمع، وأما حقيقة الصوفية وما هم عليه اليوم من انحرافات عن حقيقة العبادة الصحيحة... فذكر ذلك يطول جداً، وليس مكانه هنا، وإنما هو في تلك المؤلفات المطولة التي تصدت لها وكشفت زيغها.

وإنما نحن بصدد وقفات مع من يسمى: بالحبيب علي الجفري (الصوفي) الذي تكلم عن المولد النبوي في شريط مسموع في آخره بعنوان (مقاصد المؤمنة وقدوتها في الحياة) وقد ذكر عدة مسائل تتعلق بالمولد النبوي انتهى في آخره بأن عمل المولد النبوي وما يحصل فيه إنما هو سنة مؤكدة وليس ببدعة، واستدل على قوله هذا بأمور نذكرها إن شاء الله تعالى، وسأورد كلامه نصاً كما قال بألفاظه، وسأقف مع كل مسألة منها مبيناً بطلان ما ذهب إليه مستعيناً بالله وحده لا شريك له وبنصوص القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية الشريفة، وما أجمع عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من الأئمة الأعلام، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل، وأن لا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنه رؤوف رحيم.

قال الجفري: [المولد سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو سنة مؤكدة، لا نقول: مباح بل سنة مؤكدة].

ونقول: السنة ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم أو سنه أحد الخلفاء الراشدين لقوله صلى الله عليه وسلم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين... الحديث} المهديين هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، أما ما سوى ذلك فهو من المحدثات التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر أنها شر وضلاله. ومن ذلك المولد. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به ولم يفعله ولم يأمر به أحد من الخلفاء الراشدين، ولم يفعله أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعين ولا تابعيهم بإحسان، وعلى هذا فهو بدعة وضلالة يجب ردها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أي: مردود على صاحبه كائناً من كان. روى ابن حبيب عن ابن الماجشون قال: سمعت مالكاً رحمه الله يقول: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))[المائدة:3] فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً).

ويلزم على القول بأن الاحتفال بالمولد سنة مؤكدة ثلاثة لوازم سيئة:

أولاً: أن يكون الاحتفال بالمولد، هو الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم. وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن الله تعالى لم يأمر عباده بالاحتفال بالمولد، ولم يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، ولم يفعله أحد من الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، بل لم يكن معروفاً عند المسلمين إلى أن مضى عليهم نحو ستمائة سنة، فحينئذ ابتدعه سلطان إربل، وصار له ذكر عند الناس.وعلى هذا فمن زعم أن الاحتفال بالمولد من الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، والله تعالى يقول: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))[الأعراف:33] وقال صلى الله عليه وسلم: {من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}.

ثانياً: من اللوازم السيئة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، قد تركوا العمل بسنة مؤكدة، وهذا مما ينزه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

ثالثاً: من اللوازم السيئة أن يكون المحتفلون بالمولد قد حصل لهم العمل بسنة مؤكدة لم تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه رضي الله عنهم، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل ودين.

رابعاً: ظاهر جداً من كلام الجفري أنه لا يعرف مصطلحات أهل العلم، فهو يهرف بما لا يعرف، فقوله عن المولد: سنة مؤكدة فالسنة المؤكدة عند أهل العلم هي التي عملها الرسول صلى الله عليه وسلم وداوم عليها، فهل يقول الجفري وأمثاله أن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل المولد وداوم عليه؟!

قال الجفري: [ما هو المولد؟ عبارة عن فرح لله ورسوله. ما حكم الفرح في الله ورسوله؟ قال تعالى: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)) [يونس:58] الله أمرنا بالفرح وذكر أهل التفسير فضل الله وفضل رسوله صلى الله عليه وسلم].

ونقول: تفسير الآية بما فسره به الجفري من قبيل تفسير كلام الله تعالى على ما لم يفسره به السلف الصالح، والذي ينبغي أن تفسر به الآية هو ما فسره الأئمة الأعلام، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (أي بهذا جاءهم من الله من الهدى ودين الحق، فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به) ولا يوجد في كلام السلف تفسير الآية بما فسربه الجفري.

ثانياً: لم يأمر الله تعالى عباده أن يخصوا ليلة المولد بالفرح والاحتفال، وإنما أمرهم أن يفرحوا بما أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، ويدل على ذلك الآية التي قبلها قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)) [يونس:57] ثم قال تعالى: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) [يونس:58].

وفضل الله هو الإسلام ورحمته القرآن، وقيل العكس، وكلاهما من فضل الله ورحمته، وبهذا فسرها ابن عباس وأبو سعيد الخدري وزيد بن أسلم والضحاك ومجاهد وقتادة.

ثالثاً: أن رحمة الناس لم تكن بولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت ببعثه وإرساله إليهم قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107] ولم تتعرض الآية لولادته صلى الله عليه وسلم.

ومن السنة ففي صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة}.

وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسناد حسن عن سلمان رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: {أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي؛ فإنما أنا من بني أدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة}.

قال الجفري: [الاحتفال بمناسبة النبي صلى الله عليه وسلم سنة، جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فيما سأل: ماذا تقول عن صوم فلان يوم الإثنين. قال: هو يوم ولدت فيه] اسمع. قبل أن يأتيك كلام المدللين الذين قالوا: إن الاحتفال بالصيام ما كان في المولد].

ونقول:

أولاً: لفظ الحديث كالآتي: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الإثنين؟ فقال: {فيه ولدت. وفيه أنزل عليَّ}.

ثانياً: يقال: إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول صلى الله عليه وسلم ربه به وهو الصوم، وعليه فلنصم كما صام صلى الله عليه وسلم. وإذا سئلنا، قلنا: إنه يوم ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فنحن نصومه شكراً لله تعالى، غير أن أرباب الموالد لا يصومونه، بل الصيام فيه مقاومة للنفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب، وهم لا يريدون ذلك، فتعارض الغرضان فآثروا ما يحبون على ما يحب الله تعالى.

ثالثاً: من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول _ إن صح _ وإنما صام يوم الإثنين الذي يتكرر مجيئه كل شهر أربع مرات أو أكثر، وبناء على هذه فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون يوم الإثنين من كل أسبوع يعتبر استدراكاً على الشارع، وتصحيحاً لعمله، وما أقبح هذا -إن كان- والعياذ بالله تعالى.

رابعاً: هل النبي صلى الله عليه وسلم لما صام يوم الإثنين شكراً على نعمة الإيجاد والإمداد وهو تكريمه ببعثته للناس كافة بشيراً ونذيراً إضافة إلى الصيام احتفالاً، كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات، ومدائح وأنغام، وطعام وشراب؟

والجواب: لا، وإنما اكتفى بالصيام فقط، إذا ألا يكفي الأمة ما كفى نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ويسعها ما وسعه صلى الله عليه وسلم؟ وهل يقدر عاقل أن يقول: لا؟ وإذا فلم الأفتيات على الشارع والتقدم بالزيادة عليه، والله تعالى يقول: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا))[الحشر:7] ويقول جل ذكره: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))[الحجرات:1] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة} ويقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمه من ربكم فاقبلوها} وهذا لفظ الدارقطني في سننه.

قال الجفري: [انتظر، فكرة المولد مسألة ذات شقين: الشق الأول: فكرة الاحتفال بمولد النبي هل يحتفى بها أو لا؟ هل هي محل استحسان في الشريعة أو لا؟ الشق الثاني: ما يدور داخل المولد.

أولاً: الاحتفال بالمولد: الفكرة لها مشروعيتها قال صلى الله عليه وسلم: {هو يوم ولدت فيه} ليس فقط نحن نحتفل به، الكائنات كلها تحتفل بالمولد]

ونقول: تقدم قريباً للرد على هذا الاستدلال وبينت ما فيه من الخطأ مما يغني عن إعادته مرة أخرى هنا.

ثم قال الجفري: (الجهلة مطموسي البصيرة يقولون أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ميزة، لكن الميزة في بعثته، هؤلاء لم يفقهوا عن الله، فأقول لهم: بالله عليكم ملك كسرى سقط في ليلة الولادة أم البعثة، النار التي اطفأت وكانت تعبد من دون الله أطفأت يوم الولادة أو البعثة؟ الأصنام التي اكفأت على وجوهها ليلة البعثة أو الولادة؟ المظاهر في الكون التي اهتزت كلها بعد أن بزغ صلى الله عليه وسلم لم تحصل إلا لتكون لصالح يوم الولادة).

ونقول: ما ذكره الجفري قد ذكر بعض أهل العلم منهم ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية وذكره غيره. وحدوث هذه الأمور لا يدل إطلاقاً على مشروعية إقامة المولد فلا صلة بينهما، ويقال أيضاً: هل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا عالمين بما حدث عند مولده صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فإن كانوا عالمين _ ولا أظن الجفري _ يقول: غير عالمين -فلماذا لم يقيموا المولد المبدع الذي عليه الجفري وأتباعه، أترى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عالماً بالفضل المترتب على ذلك أم يقال: إن الصحابة لم يعرفوا قدر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقيموا له مولداً تكريماً له صلى الله عليه وسلم؟! إن ما دعاه الجفري من الربط بين المولد وتغير بعض الأحوال الكونية والحوادث الأرضية ثم الاستدلال بذلك بمشروعية إقامة المولد لا يصح الاستدلال به أبداً.

قال الجفري: (وبعد ذلك، هل بلغت هذه الأمة من التردي والجدوى من الإساءة في معاملتها للنبي صلى الله عليه وسلم أنها تتساءل هل يستحق أن نفرح بولادته صلى الله عليه وسلم أو لا نفرح؟ ما هذا التدين الذي وصلت إليه الأمة، هذه منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا حتى نرى هل يستحق أو لا يستحق أن نفرح بولادته؟ ماهذا الكلام؟).

ونقول: إن الجفري -هداه الله- يريد منا أن نشرع شرعاً لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق تحريك مشاعرنا تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر سابقاً أن المشرع هو الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا بالذوق والعاطفة.

ثم إن كنا قد أسأنا كما زعم الجفري للنبي صلى الله عليه وسلم فإن الصحابة والتابعين وتابع التابعين قد أساءوا أيضا للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم إقامة المولد، فهل يقول بذلك الجفري؟!

وكذلك نقول: إن الأمة لم تتدن بسبب تركها لإقامة الموالد وإنما تدنت عندما نشأ فيها من لا يعرف دين الإسلام بالأدلة أمثال الجفري وأتباع الصوفية الذين يشرعون للناس أموراً ما أنزل الله بها من سلطان، ويتركون هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم وحقيقة الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم هو اتهامه صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ عن ربه عز وجل شيئاً أوحاه إليه، بل هذه هي حقيقة نسب الخيانة لجنابه صلى الله عليه وسلم -وينزه عنها- إن إحداث شيء في الدين ومنها إقامة الموالد لهو دليل واضح على اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هو لم يقم هذا المولد ولا صحابته من بعده... حتى جاء الجفري ومن قبله ومن بعده من يقول أن عدم إقامة الموالد إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، فأيهما أولى بالإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من شرع ديناً لم يشرعه الله ورسوله أم من اقتفى أثره واتبع سبيله فلم يحدث شيئاً في دين الله.

فإن كان للجفري حجة فليسمعنا إياها ويقول: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام المولد أو أحد من صحابته...، وننظر أينا المسيء لجناب المصطفى صلى الله عليه وسلم

وإن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم لدى المسلمين الموحدين في الدنيا وتوقيره وعدم رفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها واتباع سبيله والتأسي به وإقامة سنته صلى الله عليه وسلم وتعليمها للناس، فما صح عنه صلى الله عليه وسلم عملنا به ودعونا إليه، وما لم يصح؛ نفيناه عنه وتركناه وحذرنا منه.

قال الجفري: (هذه مقابلة تقابلها من قام على أطراف قدميه لينقذنا من نار جهنم. هذا الذي هو مشغول في قبره بي وبك؟! يستحق أن نحتفل به أو لا؟ أن نقوم بذكر ولادته أو لا؟! ما هذا الكلام، ما هذا الهراء الذي نال الأمة، ما هذا العبث والسفه الذي نال هذه العقول الضيقة. أين معاني الاتصال بمحبته).

ونقول: كلام الجفري هذا يحتاج منا أن نقف معه وقفات:

أولاً: وقوف المصطفى على أطراف قدميه في الصلاة كان كما قال صلى الله عليه وسلم: {أفلا أكون عبداً شكوراً} قام صلى الله عليه وسلم ليعلم أتباعه أن العبد مهما بلغ من العبادة إلا أنه ينبغي له أن يتذلل لربه وخالقه ولا يأمن مكر الله فيه، قام صلى الله عليه وسلم على قدميه الشريفتين وليس على أطراف قدميه كما قال الجفري -شكراً لله عز وجل كما ذكر ذلك لعائشة حينما سألته عن ذلك، فواجب الأمة بعده الاقتداء به والتأسي به.

لا أن نستدل بذلك على أنفسنا، فعمله صلى الله عليه وسلم لنفسه وعمل أتباعه لأنفسهم كما قال تعالى: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى))[النجم:39] فهل يقول الجفري أن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم على قدميه ينفع أتباعه فيزاد من حسناتهم وينجيهم من الحساب والجزاء؟! لا أظن عاقلاً يقول ذلك، وأظن أن الجفري واحداً من هؤلاء العقلاء، وما أشبه هذه المقولة بمقولة النصارى: إن عيسى عليه السلام صلب؛ لينقذ البشرية ويكون فداء لها.

ثم قوله: (لينقذنا من النار):

سبحان الله العظيم! ما أجرأ الجفري على الله تعالى حين نسب دخول الجنة والنجاة من النار للرسول صلى الله عليه وسلم، نعم الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، وبشير ونذير من عند الله سبحانه وتعالى، من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. أما أن نقول: قام على قدميه لينقذنا من النار.. فهذا غلط عظيم، وإلا ترتب على ذلك عدم قيامنا بما أوجب الله علينا من شرائع الدين اعتماداً على قيام الرسول صلى الله عليه وسلم على قدميه. روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {دلني على عمل، إذا عملته دخلت الجنة. قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا. فلما ولى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} هذا كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فهل يفهم الجفري وأتباعه حقيقة هذا الدين.؟!

ثانياً: قوله: (هذا الذي هو مشغول في قبره بي وبك) قال تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ))[الأنبياء:34] وقال تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ))[آل عمران:144] فرسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء -عدا عيسى بن مريم فقد رفع- قد جرت عليهم سنة الموت كبقية البشر. وأما حديث: {الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- أحياء في قبورهم} فهو حديث صحيح يدل على حياتهم البرزخية وأرواحهم عند الرفيق الأعلى، ولا يفهم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أحياء حياة حقيقية يأكلون ويشربون...وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ -يقولون: بليت- فقال: إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام} وقال صلى الله عليه وسلم: {ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام} فالحديث الأول فيه دلالة على عرض (الصلاة والسلام) على نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل دلالة واضحة على أن جسده صلى الله عليه وسلم طري مطرا، وروحه في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء. والحديث الثاني فيه دلالة على اتصال روحه الشريفة بجسده لرد السلام على من سلم عليه من قبره ومن بعد. فالروح لها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه، وتعلق به بحيث يرد سلام من سلم عليه وروحه في الرفيق الأعلى. ولا تنافي بين كونها في الرفيق الأعلى وجسده في الأرض، فشأن الأرواح غير شأن الأبدان، فإذا كان النائم روحه في جسده وهو حي، وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت إليه روحه إلى جسده؛ كانت له حال متوسطة بين الحي والميت كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت. فهذا حاله صلى الله عليه وسلم في قبره، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة في نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، فأين هذا من قول الجفري: (إنه مشغول بي وبك).

ولا ندري ماذا يقصد الجفري بشغل النبي صلى الله عليه وسلم في قبره، فإن كان غير ما ذكر فهو من أبطل الباطل.

ثالثاً: وصفه لكل من يمنع إقامة المولد (بالعقول الضيقة).

يا سبحان الله! كيف يزن الجفري الأمور المتعلقة بشرع الله، إن الذين يصفهم الجفري بالعقول الضيقة هم من وقفوا عند قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا بذلك، ولم يزيدوا على شرع الله شيئاً من مستحسن العقول، أما هو وأتباعه -بطريق الأولى- فهم أصحاب العقول الواسعة التي تشرع لأنفسها ولأتباعها كل ما يمليه عليه عقولهم و أهواؤهم الضالة المضلة. ويكفي في الرد على مثل هذه المقولة ما قدمته لك في مقدمة هذا الرد، ففيه الكفاية والبيان.

رابعاً: قوله: (أين معاني الاتصال بمحبته) لا ندري ماذا يقصد الجفري بقوله هذا، هل يقصد اتصال الروح بالروح، فهذا مذهب الاتحادية من الصوفية الباطلة، إن حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي: طاعته فيما أمر و اجتناب ما نهى عنه و زجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. فمن فعل هذا كانت محبته للرسول صلى الله عليه وسلم متصلة كاملة، ومن أخل بها أخل بمحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فحقيقة المحبة الطاعة و الاتباع كما قال تعالى ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[آل عمران:31].

ونقول: ما زال الجفري -هداه الله- يقيس الأمور الشرعية بعقله القاصر وذوقه الفاسد.

نعم الصحابة قدموا أرواحهم لله رخيصة ولإعلاء كلمة التوحيد لا لمقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإلا كانوا عابدين للرسول صلى الله عليه وسلم وحاشاهم من ذلك.

فإن كان الجفري يتأسف ويستكثر عدم إقامة المولد؛ فإن الواجب عليه أن يتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعلوا، فيقف حيث وقفوا، لا أن يبتدع عبادة من عقله ثم يقول:إذا لم نقدر أن نبذل الأرواح علينا أن نقيم الموالد.

قال الجفري: (هو الذي يفرج عني وعنك في ذلك اليوم، هو غياثنا في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة. بعد ذلك نشك في أن نفرح به أو لا نفرح....).

هذا الكلام له وقفتان:

الأولى: نقول: ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يشفع في أمته يوم القيامة -والشفاعة أنواع- ولكن هذه الشفاعة مشروطة بشرطين:

1- إذن الله للشافع.

2- رضا الله عن المشفوع له.

قال تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ))[البقرة:255].

فلا أحد يشفع ابتداء إلا بعد أن يأذن الله له في الشفاعة.

وقال الله تعالى: ((وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى))[الأنبياء:28] أي لا أحد يشفع له إلا بعد أن يرضى الله قوله وعمله، ولا يكون ذلك إلا لأهل الاتباع لا أهل الابتداع. فمن غيّر وبدل وزاد على دين الله وشرع شرعاً لم يشرعه الله ورسوله، كمن ابتدع الموالد بلا دليل ولا برهان؛ فقد حرم شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: {إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك} فيردون عن حوضه صلى الله عليه وسلم. فهل من ابتدع في دين الله �ياجفري- وزاد عبادة لم يأذن بها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وادعى علماً يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحابته من بعده؛ تصيبه شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!

الثانية: قوله: [هو غياثنا في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة] إن قصد الجفري فيما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم في حياته فلا اعتراض، أما بعد موته صلى الله عليه وسلم فلا؛ لأنه تقرر أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم مات كما يموت البشر، فلا يستغاث به، وإن أراد الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا كأن يقول: (بحق نبيك) يقسم على الله بأحد من مخلوقاته محذورين:

الأول: أنه أقسم بغير الله.

الثاني: اعتقد أن لأحد على الله حقاً.

والوجهين باطلين ولقد أحسن القائل:

ما للعباد عليه حق واجب                  كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا                   فبفضله وهو الكريم الواسع

وأما قوله: [في البرزخ] فهذا على معتقده الفاسد أن النبي صلى الله عليه وسلم يستجيب دعاء من يسأله، وأنه يكشف الضر من دون الله وأنه يستغاث به بعد الممات...إلخ، وهذا باطل جداً؛ لأن الله أرشدنا عند طلب القوت أن نطلبه منه سبحانه فقال تعالى: ((إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)) [الأنفال:9] وقال تعالى: ((وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ))[الأحقاف:17] وما ورد في القرآن قوله تعالى: ((فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ))[القصص:15] فهذا فيما يقدر عليه العبد، أما ما لا يقدر عليه إلا الله؛ فلا يجوز طلبه إلا منه سبحانه وتعالى. وأما طلب الغوث من الرسول بعد موته فممنوع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك غياثاً لأحد بعد الموت.

وأما قول الجفري: [ويوم القيامة] فقد تقدم الرد عليه ضمن الوقفة الأولى مما يغني عن إعادته هنا.

قال الجفري: (ثانياً: ما يجري داخل المولد: كل ما يحدث سنن، فالمولد قراءة القرآن، وصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم، هل يحتاج هذا إلى دليل من القرآن؟ هل ذكر يا أيها الذين آمنوا كل واحد يصلي لحالوا -لوحده- على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت منخفض. ولكن ذكر (صلوا على النبي) والواو هنا للجماعة، والأصل فيه الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة، فالصلاة دافع لهذا الأمر، فيأتي سفيه العقل ويقول: لا يجوز تصلون عليه إلا بالقلب، فهذه أصول فتحت للتقرب إلى الله، فلماذا نغلقها بهذه الأقوال؟).

ونقول: هذا القول يستدعي منا إلى وقفات لبيان باطله:

الوقفة الأولى: قوله:[إن كل ما يجري في المولد سنن] باطل بل ما يحدث فيه بدع ومحدثات، وتقدم رد ذلك في أول كلامه أن المولد سنة مؤكدة مما يغني عن إعادته هنا.

وأما قوله: [قراءة للقرآن وصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم] فنقول: إن قراءة القرآن الكريم مشروعة في كل وقت، وهو من أعظم ما ذكر الله به سبحانه وتعالى كلامه جل وعلا، وتخصيص ذلك في المولد في زمن معين بدعة في الدين، ومن نوى بقراءة القرآن إقامة المولد مستحباً له؛ فلا شك أن الابتداع متوفر فيه؛ فاتخاذ ذلك عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع، وقل مثل ذلك في الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس مخصوص بالمولد فقط بل هو عام، ويتأكد في مواطن ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر منها المولد المزعوم المبتدع في الدين، فمن تلك الأوقات يوم الجمعة كما في حديث: {من أفضل أيامكم يوم الجمعة.. إلى أن قال: فأكثروا علي من الصلاة فيه...} الحديث وفي كل وقت كما في حديث: {من صلى عليَّ واحدة صلى الله له بها عشراً} وبعد سماع المؤذن كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا سمعتم المؤذن؛ فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإن من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} الحديث، وعند التشهد الأخير من الصلاة، وفي خطبتي الجمعة والعيدين وفي صلاة الجنازة وعند الدعاء والدخول للمسجد والخروج منه وعند ذكره صلى الله عليه وسلم.

والأحاديث بذلك أكبر شاهد لمن هداه الله وأراد به الخير، وليس فيها حديث واحد ولو ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم خص الصلاة عليه في هذا المولد المزعوم المبتدع، فهل يعقل الجفري -وأتباعه ومن سبقه- دين الله فلا يقولوا على الله إلا ما يعلمون. أسأل الله تعالى أن يهدي قلوبهم إلى دينه وإلى سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. آمين.

وأما احتجاج الجفري بقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56] على مشروعية الصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم جماعة وبصوت مرتفع؛ فهذا باطل وبيان ذلك في الآتي:

أولاً: ليس في الآية إشارة إلى ما ادعاه الجفري فيها إطلاق الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبالصفة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.

ثانياً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى الدعاء له، والدعاء من العبادة التي ينبغي أن تكون خفية لا معلنة كما قال تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً))[الأعراف:55] والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ذلك، هذا من جانب ومن جانب آخر الاجتماع للدعاء بصوت واحد مرتب بدعة لم يرد بها النص.

ثالثاً: لم ينقل عن أحد المفسرين الموثوقين أنهم فسروا هذه الآية بما فسره بها الجفري، فيكون قوله هذا بدعة من القول لا مستدلة من القرآن ولا من السنة ولا من أقوال سلف هذه الأمة.

وقول الجفري: (فهذه أصول فتحت للتقرب إلى الله... إلخ كلامه) والسؤال يطرح نفسه هنا، ما هذه الأصول؟ هل هي من كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ ثم من فتحها هل هو الله أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذي أغلقها حتى تفتح؟؟!

أعجب كل العجب من رجل كالجفري يهرف بما لا يعرف!! يقول الله تبارك وتعالى: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ))[الشورى:21] فالآية دالة على أن من ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله؛ فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله. ومن اتبعه في ذلك؛ فقد اتخذه شريكاً لله، شرع له من الدين ما لم يأذن به الله. فهل ما يدعو إليه الجفري من إقامة الموالد أصل من أصول الدين، فنحن نطالبه بنص من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ودون ذلك ودون ذلك خرط القتاد. وعليه فما بني على باطل فهو باطل.

قال الجفري: (أيضا نصلي عليه في الموالد وبعد الصلاة عليه تأتي السيرة النبوية... إلخ كلامه).

ونقول:

أولاً: إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في كل وقت، ولا شك في ذلك؛ لكن تخصيصها في المولد بدعة مردودة.

ثانياً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بالاحتفال بمولده، ولم يأمرهم بذكر مولده وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصائله الكريمة في ليلة المولد بخصوصها، بل هذا من البدع التي أحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ستمائة سنة.

ثالثاً: معرفة مولد النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله ومعجزاته وسيرته وخصاله الكريمة متيسر لمن أراد الاطلاع على هذه الأمور ومعرفتها في أي وقت من الأوقات، ولا يتقيد ذلك بوقت معين وعلى هيئة اجتماعية مبتدعة، ومن يفعل ذلك؛ فإنما هو سائر على طريقة سلطان إربل وما أحدثه من الاحتفال بالمولد واتخاذه عيداً يعتادون إقامته في كل عام.

رابعاً: أن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به لا يتم إلا بتحقيق المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته وتقديم هديه على هدي غيره، فالإسلام مبني على أصلين عظيمين: أحدهما:- أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً.

الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نعبده بالأهواء والبدع. كما قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا))[الجاثية:18-19] فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب، ولا يعبده بالأمور المبتدعة.

قال الجفري: (أيضا يحدث في المولد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم. فعندما قال صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم} أي: لا تنظروا بمنظارهم حيث قالوا: المسيح بن الله، ثالث ثلاثة، المسيح هو الله. أما أن نمدحه فهذا لا شيء فيه؛ بل أجاز ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، من الذي أعطى كعب بن زهير البردة؟ أوليس الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال:

إن الرسول نور يستضاء به              وصارم من سيوف الله مسلول

فألقى الرسول صلى الله عليه وسلم البردة).

ونقول: مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو أهله لا معارضة فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: {أنت سيدنا، فقال: السيد الله، فقلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان} رواه أحمد وأبو داود، لكن المعارضة في تفسير الجفري لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء بهذا المعنى من عند نفسه ليتخلص مما يفعله وأتباعه في تلك الموالد، ومعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني...} الحديث. الإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه، فلا يغالى في مدحه كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادعوا فيه الإلهية، وإنما يوصف صلى الله عليه وسلم بالعبودية كما وصفه ربه تبارك وتعالى فنقول: عبد الله ورسوله. لكن أرباب الموالد أبوا ذلك وارتكبوا نهيه صلى الله عليه وسلم، فظهر فيهم الغلو والشرك في شعرهم ونثرهم ومصنفاتهم، حتى جوزوا الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء من أمورهم، وادعوا له صلى الله عليه وسلم علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وما قول البوصيري عنا ببعيد فقد قال في بردته:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به           سواك عند حلول الحادث العمم

وهذا شرك ظاهر وقال:

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي            فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم

وقوله:

فإن من جودك الدنيا وضرتها              ومن علومك علم اللوح والقلم

وهذا شرك ظاهر وقول البرعي:

يا رسول الله ياذا الفضل يا                   بهجة في الحشر جاها ومقاما

عد على عبد الرحيم الملتجي                 بحمى عزك يا غوث اليتامى

وأقلني عثرتي يا سيدي في           اكتساب الذنب في خمسين عاما

وهذا شرك ظاهر، إلى غير ذلك مما فيه خروج عن الشرع في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، فهل بعد هذا الشرك شرك، وهل يكف الجفري عن الخديعة والتلبيس على المسلمين في إيراد نصوص يستدل بها على باطله في جواز مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بها؟ إن حقيقة ما يقصده الجفري في دعوى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم هو من جنس ما تقدم من قول البوصيري والبرعي وأشباههما. فهل يقول مسلم أن ذلك توحيداً؟ حاشا وكلا.

وأما مدح كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من شعراء التوحيد الخالص فلا غبار عليهم، ولكن الغبار والشنار على من أشرك بالله تعالى ودعا إليه عامة المسلمين. والحاصل أن الشيطان أظهر لأصحاب الموالد هذا المدح الشركي في قالب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأظهر لهم التوحيد الخالص في قالب تنقصه، فعكس أصحاب الموالد ما أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً، وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله، فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال الجفري: (وألف الحافظ في كتاب (منح المدح) ذكر فيه (119) من الصحابة مدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم عمه العباس بن عبد المطلب فقد ألف مولداً في القصيدة التي ألقاها فيها عشر أبيات منها الشاهد وهو: وأنت يوم ولدت أشرقت الأرض وأضاءت بالنور).

ونقول: مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو أهله لا بأس به ولا معارضة، وإنما المعارضة في وصفه بالصفات التي لا تكون إلا لله وحده، وقد تقدم مثل ذلك والرد عليه، مما يغني عن إعادته هنا.

وما أشار إليه الجفري من مدح العباس رضي الله عنه ووصف يوم مولده صلى الله عليه وسلم من إشراق الأرض وإضاءتها بالنور ليس فيه مشروعية إقامة المولد ولا احتجاج به في مشروعيته، فكل ما في الأمر أن هذه الأكوان حصل منها ما حصل، لا دلالة فيه على مشروعية إقامة المولد..

إلى أن قال الجفري: (رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاد من غزوة من الغزوات، جاءته جارية فقالت: إني نذرت أن أضرب الدف على رأسك إن سلمك الله. ومتى يكون الوفاء بالنذر واجب؟! هل إذا كان الأمر معصية، أم كان مكروهاً، أم مباحاً، فلا يجب الوفاء بالنذر إلا إذا كان مندوباً وهنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أوفي بنذرك) رغم أن الدف مباح لكن لأنه اقترن بالفرح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح واجباً الوفاء به).

ونقول وبالله التوفيق: الدخول في النذر عند جمهور أهل العلم مكروه، وقد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل} فإن دخل فيه المسلم كان واجباً عليه الوفاء به، ما لم يكن معصية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه} فإذا خلي النذر من محرم، وكان في طاعة الله تعالى وجب الوفاء به، ويمدح من فعله؛ لقوله تعالى: ((يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا)) [الإنسان:7]، وأما ما استشهد به الجفري من قصة المرأة الناذرة على إباحة الضرب بالدف أولاً، ثم جعله واجباً ثانياً لاقترانه بالفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو باطل:

أولاً: الكلام في صحة ثبوت هذه القصة قد ضعفها بعض أهل العلم وتكلموا في سندها فهي سنداً لا تثبت.

ثانياً: القول بصحة الحديث، فقد ورد في الحديث الذي استدل به الجفري: {ثم دخل عمر فألقت الدف تحت أستها ثم قعدت عليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف} رواه أبو داود فالحديث مع ما فيه مختلف فيه كما ترى. فمنهم من أجاز ومنهم من منع، والمانعون من استخدام الدف يخصون مثل ذلك من عموم الأدلة الدالة على الجواز، ويقولون: إن استعمال الضرب بالدف مأذون فيه في مواطن منها: في العرسات: وهو من قبيل إعلان النكاح لا التلذذ بسماعه، ومنها في الأعياد: وهو خاص بالجواري وأن يكن من غير المغنيات، ومن ذلك أيضاً عند القدوم من الغيبة التي هي محل النقاش هنا. ويقال أيضا: ورد في رواية الترمذي - رحمه الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: {إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا} فالرسول صلى الله عليه وسلم علق الضرب بالدف بالنذر، وأهل المولد يضربون بالدف دائماً، ولم نسمع أن أهل المولد كلهم مطبقون على النذر بالضرب بالدف في الموالد، وكما يلاحظ من نص الحديث كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للضرب بالدف في قوله: {وإلا فلا} أي: لا تضربي بالدف فأين أهل المولد من هذا.

ويقال أيضاً: الضرب بالدف من الأمور المباحة التي ورد بها النص فهي من قبيل المباحات التي أباحها الشارع.

أما أهل المولد فإنهم يتعبدون الله بالضرب بالدف ويتقربون إلى الله بمثل هذا العمل، فالأصل في العبادات التوقيف وفي المباحات الحل ما لم يرد نص بالنهي عنه، والضرب بالدف من هذا القبيل.

ثم تهجم الجفري على أئمة الدين في هذا العصر فقال: (اليوم ينكرون علينا هذا الشيء، وهناك مناكر في الأمة لا أحد ينكر عليها، ملأ الناس الكلام عن المولد ولم نسمع كلام عن الربا).

ونقول: أخطأت يا جفري بزعمك هذا، فالعلماء ولله الحمد متوافدون بين المسلمين ممن عرف بالدين والعلم والاستقامة على شرع الله الموثوق بهم، فهذه فتاواهم وأشرطتهم وكتبهم تعلن صراحة بحرمة الربا، وتبين للأمة أنه محرم وكبيرة من كبائر الذنوب، وأن من فعله فهو محارب لله تعالى... وأما كون الجفري لم يسمع من ينكره، فهذا راجع للجفري وحده لا يجوز له تعميم ذلك على الأمة، فليس لأحد كائناً من كان أن يجهل علماً بين المسلمين ثم يدعي جهل الآخرين له.

قال الجفري: (أيضاً يوجد في الموالد الدعاء، والقيام فرحاً بخير الأنام صلى الله عليه وسلم، وألف النووي فيه إثبات صحة القيام لأهل الفضل، ويذكر الناس أن هذا العمل الذي نقوم به بدعة. فلم يقوم الصحابة بمثل هذا العمل من الترتيب، فنقول: لم يكن الصحابة عندهم حفل تخرج لحفظة القرآن الكريم، فلم يفعلوا مثل هذه الاحتفالات، لم يكن عند الصحابة جامعات إسلامية).

ونقول قول الجفري هذا يحتاج لوقفات:

الأولى: قوله [يوجد في المولد الدعاء] تخصيص الدعاء في المولد من البدع، فالله تعالى شرع لعباده الدعاء في كل وقت ولم يحدده بوقت معين قال تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60]، وقال: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)) [الأعراف:55] وغيرها من الآيات الدالة على عموم دعاء رب العالمين في كل وقت.

الثانية: قوله (القيام فرحاً لسيد الأنام صلى الله عليه وسلم) وهذه من المحدثات في الدين الداخلة في عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة} وقوله صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن القيام له، وأخبر أن ذلك من فعل الأعاجم، قال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا، فقمنا إليه فقال: {لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً} وعن أنس رضي الله عنه قال: {ما كان شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك} فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد كره القيام له ونهى عنه، وأخبر أنه من فعل الأعاجم، فكيف بالقيام عند ذكر ولادته وخروجه من الدنيا، فهذا أولى بالنهي لجمعه بين البدعة والتشبه بالأعاجم.

الثالثة: استدلاله بقول النووي رحمه الله في مسألة القيام، وذكر أن النووي صحح القيام لأهل الفضل...) ونقول: تفريق النووي بين أهل الفضل والخير وغيرهم في مسألة القيام لا دليل عليه، وفيما ذكر عن أبي إمامة الباهلي وقول أنس رضي الله عنهما أبلغ رد على من قال بهذا التفريق، قال إسحاق بن إبراهيم: (خرج أبو عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- على قوم في المسجد فقاموا له، فقال: لا تقوموا لأحد فإنه مكروه) وقيل لمالك رحمه الله: (الرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه، قال: أكره ذلك ولا بأس أن يوسع له في مجلسه). وأما قوله صلى الله عليه وسلم: {قوموا إلى سيدكم} أي: سعد بن معاذ رضي الله عنه عندما جاء ليحكم في بني قريضة، إنما أمرهم بذلك لينزلوه عن الحمار؛ لأنه كان مريضا بسبب الجرح الذي أصابه يوم الخندق، ويشهد لهذا رواية أبو سعيد: فلما طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فقال عمر: سيدنا الله عز وجل، قال: فأنزلوه} تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه.

الرابعة: قوله: [لم يكن الصحابة عندهم حفل تخرج لحفظة القرآن... ولم يكن عند الصحابة جامعات إسلامية].

ونقول: هذا الكلام من الجفري رد على من يفعل ذلك من أهل السنة والجماعة أتباع سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فإقامة حفل لحفظة القرآن الكريم إنما هو من أجل تشجيع الحفظة على حفظ كتاب الله تعالى. وأي غضاضة في ذلك فهو لم يقرن بمحرم ولا بدعة زمانية ولا بدعة مكانية، فهو من جنس المباحات التي أباحها الله. ثم ما يحصل في حفل لحفظ كتاب الله مخالف تماماً لما يحصل في المولد من البدع والمحدثات التي تقدم بيان شيء منها.

وأما وجود الجامعات الإسلامية فهذه ليست بدعة فأصلها هو التعليم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه في المسجد، ووجود المدارس والجامعات إنما هي لتنظيم العملية التعليمية لما يترتب على هذا التعليم من التخرج بعد التخصص والقيام بالأعمال المتنوعة كلاً في تخصصه، ولا يمكن أن يقول عاقل: إن إنشاء الجامعات ابتداع في الدين.

ثم استدل الجفري بقصة على أن أهل المولد هم الدعاة إلى الله تعالى. وملخص هذه القصة [أن هيئة تنصيرية قامت بتقديم الطعام والشراب لبعض المسلمين في قرية إندونيسية فتنصروا، ولما جاء المولد أخذوا الدفوف ومدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم.. ثم هددوا بقطع الطعام والشراب عنهم إذا لم ينتهوا عن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم فرفضوا وعادوا للإسلام...] ونقول: يا سبحان الله! أمثل هذا يستدل به على أن أهل المولد هم الدعاة للإسلام، أين العلم؟ أين القرآن وتفسيره وحملته؟ أين الحديث ورواته؟ أين الدعوة إلى الله بالعلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم... كل هذا ليس له اعتبار عند الجفري إنما الاعتبار عنده في ضرب الدفوف ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو يتبرأ من صلى الله عليه وسلم. وهل يقال- يا جفري- كل من أجاد الضرب الدفوف وحفظ بعض القصائد الشركية في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم يكون داعية إلى الله؟!! لا أظن - حتى الجفري - سيجيب بنعم إلا اللهم من كان ثلاثة وذكر (عن المجنون حتى يفيق) فهل يفيق الجفري وأتباعه من اتباع هذه البدع والمنكرات والقول على الله بغير علم.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا يجعله متلبساً علينا فنضل.

و صلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحابته ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.