الرئيسة - الاتباع دليل المحبة - محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الحقيقة والزيف
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الحقيقة والزيف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك، وليست ترجع في الحقيقة إلى اختلاف مقال، ولكنها اختلاف أحوال:

فقال سفيان: (المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه التفت إلى قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [آل عمران:3])..

وقال بعضهم: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاد نصرته، والذب عن سنته، والانقياد لها، وهيبة مخالفته.

وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب.

وقال آخر: إيثار المحبوب.

وقال بعضهم: المحبة: مواطأة القلب لمراد الرب، يحب ما أحب ويكره ما كره.

وقال آخر: المحبة: ميل القلب إلى موافق له.

وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها.

وحقيقة المحبة: الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه،كحب الصور الجميلة، والأصوات الحسنة، والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها، مما كل طبع مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة، كمحبة الصالحين والعلماء وأهل المعروف، والمأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم، والتشيع من أمة في آخرين، ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان، وهتك الحرم، واخترام النفوس.

أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له، وإنعامه عليه،وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها.

فإذا تقرر هذا: نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم، فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة: أما جمال الصورة، والظاهر، وكمال الأخلاق، والباطن فهو أعلى الناس فيها قدراً، وأكملهم محاسن وفضلاً.

وأما إحسانه وإنعامه على أمته، فقد ذكره الله في كتابه العزيز في مواطن عدَّة، والتي وصفه الله-سبحانه وتعالى- بأمور، منها:

رأفته بأمته، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، وشفقته عليهم، واستنقاذهم به من النار، وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، ورحمة للعالمين، ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه،وسراجاً منيراً، ويتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويهديهم إلى صراط مستقيم.

فأي إحسان أجل قدراً، وأعظم خطراً، من إحسانه إلى جميع المؤمنين؟

وأي إفضال أعم منفعة، وأكثر فائدة من إنعامه بعد الله سبحانه وتعالى على كافة المسلمين ؛ إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية، وداعيهم إلى الفلاح، ووسيلتهم إلى ربهم، وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم، فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً؛ لما ورد في ذلك من النصوص، كقوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ))[التوبة:24] .

وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين}  .

وقوله صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...}   الحديث.

وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال له عمر: {يا رسول الله! لأنت أحبّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبّ إليَّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر} .

وكذلك هو مستوجب للمحبة الحقيقية عادة وجبلة بما ذكرناه آنفاً لإفاضته الإحسان، وعمومه الإجمال، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً، أو استنقذه من هلكة أو مضرة- مدة التأذي قليل منقطع - فمن كان سبباً لمنحه ما لا يبيد من النعيم، وسبباً لوقايته مما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب.

قال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما رحمة الله عليهم: (المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته، قال ابن بطال رحمه الله: ومعنى الحديث أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ؛ لأن به صلى الله عليه وسلم استنقذنا من النار، وهدينا من الضلال.

فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، ومن علامات حبه صلى الله عليه وسلم:

أ - الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [آل عمران:31].

ب- إيثار ما شرعه عليه الصلاة والسلام، وحض عليه، على هوى نفسه، وموافقة شهواته، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...)) [الحشر:9].

جـ- كثرة الذكر له صلى الله عليه وسلم فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56].

د- ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم:محبة من أحب النبي عليه الصلاة والسلام من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم،فمن أحب شيئاً أحب من يحبه، قال صلى الله عليه وسلم: {الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه} .

وقال صلى الله عليه وسلم: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بُغض الأنصار} .

وقال عليه الصلاة والسلام: {الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله} .

هـ- ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم: بُغض من أبغض الله ورسوله ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته، وابتدع في دينه، واستثقاله كل أمر يخالف شريعته، قال تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) [المجادلة:22].

و- ومنها: أن يحب القرآن الذي أُنزل عليه صلى الله عليه وسلم ويحب سنته ويقف عند حدودها، قال سهل بن عبد الله: (علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بُغض الدنيا، وعلامة بُغض الدنيا ألاَّ يدَّخر منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة).

وإذا استعرضنا هذه العلامات، وجدنا أن الذين ابتدعوا الاحتفال بالمولد النبوي، لم تظهر عليهم أي علامة من هذه العلامات، ولم يتَّصفوا بإحداها، بل كانوا يتصفون بضدها، فلم يقتدوا به صلى الله عليه وسلم في القول والفعل، ولم يمتثلوا أمره بلزوم السنة، ونهيه عن الإحداث في الدين، بل طرحوا سنته جانباً، وقدموا ما تهوى أنفسهم وما يشتهونه على ما أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، واشتغلوا بالمعاصي والملذات عن ذكره صلى الله عليه وسلم، وسبُّوا صحابته وأنصاره -بل كفَّرُوهم-، وجاهروا بذلك، وقرَّبُوا أعداء الله ورسوله، وأظهروا لهم المودة، وولوهم أمور المسلمين، فهل يبقى أدنى شك في كذبهم فيما يزعمون من أن إقامتهم للمولد النبوي لأجل محبتهم له صلى الله عليه وسلم، وتعظيم ذكراه؟؟!! لأن المحبة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تكون بطاعته فيما أمر، والابتعاد عمَّا نهى عنه، والانقياد للشرع الذي جاء به، فلا يعبد الله إلا بما شرع، وكذلك الإكثار من الصلاة والسلام عليه، والتمسك بسنته، والعمل بها، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، وتقديم قوله على كل قول، فإنَّهُ لا أحد من الأمة معصوم من الخطأ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يؤخذ قوله كله ولا يُردّ منه شيء، وأمور الدين إنَّما العمدة فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا مكان للاعتماد على الهوى والاستحسان من غير دليل شرعي.

قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)) [النساء:59]، والله أعلم.