الرئيسة - الاحتفال بالمولد النبوي - بدعة الاحتفال بالمولد النبوي
 

بسم الله الرحمن الرحيم

بدعة الاحتفال بالمولد النبوي

من كتاب البــدع الحـوليــة

** للتـويجــري **

ويشتمل على ستة مباحث:

المبحث الأول: أول من أحدث هذه البدعة.

المبحث الثاني: حالة المجتمع في ذلك العصر.

المبحث الثالث: بعض الشبه التي عرضت للقائلين بهذه البدعة والجواب عنها.

المبحث الرابع: طريقة إحياء المولد.

المبحث الخامس: حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم.

المبحث السادس: موقف أهل السنة من هذه البدعة.

* المبحث الأول *

- أول من أحدث هذه البدعة -

مضت القرون المفضلة الأولى، الأول والثاني والثالث، ولم تسجل لنا كتب التاريخ أن أحداً من الصحابة، أو التابعين، أو تابعيهم ومن جاء بعدهم- مع شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وكونهم أعلم الناس بالسنة، وأحرص الناس على متابعة شرعه صلى الله عليه وسلم احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم.

وأول من أحدث هذه البدعة هم بنو عبيد القداح الذين يسمون أنفسهم بالفاطميين، وينتسبون إلى ولد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهم في الحقيقة من المؤسسين لدعوة الباطنية، فجدهم هو ابن ديصان المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وكان من الأهواز وأحد مؤسسي مذهب الباطنية، وذلك بالعراق، ثم رحل إلى المغرب، وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب، وزعم أنه من نسله، فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرافضة، ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فقبلوا ذلك منه، مع أن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق مات ولم يعقب ذرية، وممن تبعه: حمدان قرمط، وإليه تنسب القرامطة، ثم لما تمادت بهم الأيام، ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح، فغير اسمه ونسبه وقال لأتباعه: أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فظهرت فتنته بالمغرب.

قال البغدادي: وأولاده اليوم مستولون على أعمال مصر. اهـ..

وقال ابن خلكان: وأهل العلم بالأنساب من المحققين ينكرون دعواه في النسب. اهـ..

وفي سنة 402 هـ كتب جماعة من العلماء والقضاة، والأشراف والعدول والصالحين والفقهاء والمحدثين، محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين- العبيديين- وشهدوا جميعاً أن الحاكم بمصر هو: منصور بن نزار الملقب بـ (الحاكم) - حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار- ابن معد بن إسماعيل بن عبد الله بن سعيد- لا أسعده الله- فإنه لما صار إلى بلاد المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، وأن من تقدم من سلفه أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولا يتعلقون بسبب وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور. وأنهم لا يعلمون أحداً من أهل بيوتات علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبة، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب، منتشراً انتشاراً يمنع أن يدلس أمرهم على أحد، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه، وأن هذا الحاكم بمصر- هو وسلفه- كفار فساق فجار، ملحدون زنادقة، معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمر، وسفكوا الدماء، وسبُّوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية، وكتب في سنة اثنتين وأربعمائة للهجرة، وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير. اهـ..

وقد صنف القاضي الباقلاني كتاباً في الرد على هؤلاء وسماه: (كشف الأسرار وهتك الأستار). بين فيه فضائحهم وقبائحهم، وقال فيهم: هم قوم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض.

وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- عنهم، فأجاب: بأنهم من أفسق الناس، ومن أكفر الناس، وأن من شهد لهم بالإيمان والتقوى، أو بصحة النسب، فقد شهد لهم بما لا يعلم، وقد قال تعالى: ((ولا تقف ما ليس لك به علم...)) [الإسراء:36]. وقال تعالى: ((...إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)) [الزخرف:86].

وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الأمة، وأئمتها، وجماهيرها، أنهم كانوا منافقين زنادقة، يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، فالشاهد لهم بالإيمان، شاهد لهم بما لا يعلمه؛ إذ ليس معه شيء يدل على إيمانهم، مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم.

وكذلك النسب: قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود، هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم. وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم، حتى بعض من قد يتوقف في أمرهم؛ كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه، فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم.

وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين، حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه، فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي، وأبو شامة، وغيرهما من أهل العلم بذلك. حتى صنف العلماء في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم ة كالقاضي أبي بكر الباقلاني في كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك  أستارهم، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون إلهية علي أو نبوته، فهم أكفر من هؤلاء، وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه (المعتمد) فضلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي - رحمه الله- في كتابه الذي سماه (فضائل المستظهرية، وفضائح الباطنية) قال: ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض.

وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد، وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضلون على علي غيره، بل يفسقون من قاتله ولم يتب من قتاله. يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة، فهذه مقالة المعتزلة في حقهم، فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة؟!! والرافضة الإمامية - مع أنهم أجهل الخلق، وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة - يعلمون أن مقالة هؤلاء الزنادقة المنافقين ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شر من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهية علي -رضي الله عنه-.

وأما القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطوائف. وهؤلاء -بنو عبيد القداح- ما زالت علماء الأمة المأمونون علماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهم، لا يذمونهم بالرفض والتشيع، فإن لهم في هذا شركاء كثيرين، بل يجعلونهم من القرامطة الباطنية، الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية، وأمثالهم من الكفار المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، والذين أخذوا بعض قول المجوس وبعص قول الفلاسفة. فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان، فأقل ما في شهاداته أنه شاهد بلا علم، قاف ما ليس له به علم، وذلك حرام باتفاق الأمة، بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق، ومعاداة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: دليل على بطلان نسبهم الفاطمي، فإن من يكون من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم القائمين بالخلافة في أمته، لا تكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء، فلم يعرف في بني هاشم، ولا بني أمية: من كان خليفة وهو معاد لدين الإسلام، فضلاً عن أن يكون معادياً كمعاداة هؤلاء، بل أولاد الملوك الدين لا دين لهم يكون فيهم نوع حمية لدين آبائهم وأسلافهم، فمن كان من ولد سيد ولد آدم، الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق كيف دينه هذه المعاداة؟! ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الإسلام باطناً وظاهراً معادين

لهؤلاء، إلا من هو زنديق عدو لله ورسوله، أو جاهل لا يعرف ما بعث به رسوله، وهذا مما يدل على كفرهم، وكذبهم في نسبهم. اهـ..

فأول من قال بهذه البدعة -بدعة الاحتفال بالمولد النبوي- هم الباطنية الذين أرادوا أن يغيروا على الناس دينهم، وأن يجعلوا فيه ما ليس منه؛ لإبعادهم عما هو من دينهم، فإشغال الناس بالبدع طريق سهل لإماتة السنة، والبعد عن شريعة الله السمحة، وسنته صلى الله عليه وسلم المطهرة.

وكان دخول العبيديين مصر سنة 362 هـ، في الخامس من رمضان، وكان ذلك بداية حكمهم لها.

وقيل: يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر رمضان سنة 362 هـ، فبدعة الاحتفال بالموالد عموماً، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً، إنما ظهرت في عهد العبيديين، ولم يسبقهم أحد إلى ذلك.

قال المقريزي: ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم.

وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي:

موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات. اهـ..

ثم تكلم عن كل موسم، ومراسم الاحتفال فيه.

فهذه شهادة ظاهرة واضحة من المقريزي - وهو من المثبتين انتسابهم إلى ولد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومن المدافعين عنهم أن العبيديين هم سبب البلاء على المسلمين، وهم الذين فتحوا باب الاحتفالات البدعية على مصراعيه، حتى أنهم كانوا يحتفلون بأعياد المجوس والمسيحيين كالنوروز، والغطاس، والميلاد، وخميس العدس، وهذا من الأدلة على بعدهم عن الإسلام، ومحاربتهم له، وإن لم يجهروا بذلك ويظهروه. ودليل أيضاً على أن إحياءهم للموالد الستة المذكورة،- ومنها المولد النبوي-، ليس محبة له صلى الله عليه وسلم، وآله كما يزعمون، وكما يظهرون للعامة والسذج من الناس، وإنما قصدهم بذلك نشر خصائص مذهبهم الإسماعيلي الباطني، وعقائدهم الفاسدة بين الناس، وإبعادهم عن الدين الصحيح، والعقيدة السليمة بابتداعهم هذه الاحتفالات، وأمر الناس بإحيائها، وتشجيعهم على ذلك، وبذل الأموال الطائلة في سبيل ذلك.

فخلاصة ما سبق أن أول من احتفل بالمولد النبوي هم بنو عبيد القداح (الفاطميون)، ويدل على ذلك: ما ذكره المقريزي في خططه- وسبق وذكرته- وما ذكره القلقشندي في صبح الأعشى.

وقد رجح هذا وأخذ به جماعة من العلماء المتأخرين وصرحوا به.

وأما ما ذكره أبو شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث): من ثنائه على الاحتفال بالمولد النبوي، وأنه من أحسن ما ابتدع في زمانه ، وأن أول من احتمل بذلك بالموصل، الشيخ عمر بن محمد الملا  أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل : فلا يدل على أن أول من احتفل بالمولد النبوي، هو صاحب إربل؛ لأمرين:

أحدهما: أن أبا شامة -رحمه الله- قيد هذه الأولوية بقوله: (أول من فعل ذلك بالموصل . فكلامه يدل على أن أول من احتفل بالمولد النبوي في الموصل هو صاحب إربل، اقتداء بالشيخ عمر بن محمد الملا، وليس فيه دلالة على أن أول من احتفل بالمولد النبوي على الإطلاق هو صاحب إربل.

ولكن السيوطي  -رحمه الله- أطلق ذلك في كتابه حُسن المقصد في عمل المولد -الذي ضمنه كتابه الحاوي- فقال: وأول من أحدث فعل ذلك -الاحتفال بالمولد النبوي- صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى  بن زين الدين علي بن بكتكين، أحد الملوك الأمجاد. اهـ..

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: : وهذه البدعة -الاحتفال بالمولد- أول من أحدثها أبو سعيد كوكبوري في القرن السادس الهجري. اهـ. .

وقال الشيخ حمود التويجري : إن الاحتفال بالمولد بدعة في الإسلام أحدثها سلطان إربل في آخر القرن السادس من الهجرة، أو في أول القرن السابع. اهـ. .

فإذا عرفنا ذلك، فلا شك أن العبيديين هم أول من احتفل بالمولد النبوي، حسب ما ورد في كتب التاريخ والسيرة لأن العبيديين دخلوا مصر وأسسوا ملكهم في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، واستمرت دولتهم القرن الخامس، ونصف القرن السادس الهجري.

فقد دخل المعز معد بن إسماعيل  القاهرة في سنة 362 هـ  في رمضان، وكان ذلك بداية حكمهم في مصر . وقيل: في سنة 363 هـ .

وكان آخر خليفة فيهم هو العاضد ، توفي سنة 567 هـ .

وأما مظفر الدين صاحب إربل. فولادته كانت في سنة 549 هـ. وتوفي سنة 630هـ .

فهذا دليل قاطع على أن العبيديين سبقوا صاحب إربل -الملك المظفر- بالاحتفال بالمولد النبوي. فصاحب إربل ليس أول من احتفل بالمولد النبوي، وإنما سبقه إلى ذلك العبيديون لحوالي قرنين من الزمان، وهذا لا يمنع أن يكون صاحب إربل هو أول من احتفل بالمولد النبوي في الموصل، لأن احتفالات العبيديين كانت في دولتهم -وهي في مصر كما ذكر في كتب التاريخ-، والله أعلم.

 

* المبحث الثاني *

- حالة المجتمع في ذلك العصر-

كانت سياسة العبيديين موجهة إلى غاية واحدة، هي العمل بكل جد وإخلاص لحمل الناس على اعتناق مذهبهم، وجعله سائداً في كافة أنحاء الديار المصرية، وغيرها من البلاد التي كانوا يحكمونها، والمجاورة لهم.

فقد كان العزيز  يعطف على النصارى واليهود، كما كان أبوه -المعز معد أبو تميم- قبله، ولكن العزيز كان أكثر عطفاً على النصارى، لما كان بينه وبينهم من صلة النسب .

ورفع العزيز عيسى بن نسطورس  إلى كرسي الوزارة، كما عين منشأ اليهودي ، والياً على الشام، فأظهر ابن نسطورس ومنشأ محاباة جلية لبني ملتهم، فعينوهم في مناصب الدولة بعد أن أقصوا المسلمين عنها، فقدم المسلمون الاحتجاجات على تلك المحاباة التي أظهرها الخليفة لغير المسلمين وبلغ من حال هؤلاء الساخطين أن كتبت امرأة إلى العزيز: بالذي أعز اليهود بمنشأ، والنصارى بعيسى بن نسطورس، وأذل المسلمين بك ألا كشفت ظلامتي .

فأمر بالقبض على ابن نسطورس، وكتب إلى الشام بالقبض على منشأ وغيره من الموظفين اليهود، وأمر برد الدواوين والأعمال إلى الكتاب المسلمين، وعين القضاة للإشراف على أعمالهم في جميع أنحاء الدولة، لكن الأميرة ست الملك  ابنة الخليفة شفعت لابن نسطورس فرد العزيز الوزارة إليه ثانية، وشرط عليه استخدام المسلمين في الحكومة.

ولقد تقلد أهل الكتاب أرقى المناصب وأعلاها في عهد العزيز (365 - 386 هـ)، وشغلوا في عهد المستنصر  (427-487)، ومن جاء بعده من الخلفاء، معظم المناصب المالية في الدولة، بل تقلدوا الوزارة أيضاً.

ولم تقتصر هذه المعاملة على ما تقدم، فقد ولع بعض الخلفاء العبيديين:

كالحافظ  مثلاً (524- 544 هـ) بزيارة أديرة  النصارى، وكان الآمر  (495- 524 هـ) يعطي الرهبان  في بعض الأديرة عشرة آلاف درهم كلما خرج للصيد، بل قد ازدادت موارد الكنائس  المصرية زيادة عظيمة في عهد العبيديين .

فقد كان العبيديون يعاملون النصارى معاملة تنطوي على العطف والرعاية والمحاباة، فإذا كان هذا موقفهم من اليهود والنصارى فما موقفهم من أهل السنة؟! لقد عمل العبيديون على لعن الخلفاء الثلاثة -أبي بكر، وعمر، وعثمان- رضي الله عنهم أجمعين- وغيرهم من الصحابة؛ إذ عدوهم أعداء لعلي -رضي الله عنه-، وتفشت فضائل علي وأولاده من بعده على السكة  وعلى جدران المساجد، وكان الخطباء يلعنون الصحابة على كافة منابر مصر.

وقد ألزم العبيديون جميع الموظفين المصريين أن يعتنقوا المذهب العبيدي الباطني، كما حتم على القضاة أن يصدروا أحكامهم وفق قوانين هذا المذهب.

بل إن الحصول على مناصب الدولة مشروط بالتحول إلى المذهب الشيعي، مما دفع بعض الذميين  إلى اعتناق الإسلام، واتخاذ التشيع مذهباً لهم .

وكان من عدائهم للسنة وأهلها: أن أمر العزيز بقطع صلاة التراويح من جميع البلاد المصرية، وذلك سنة 372 هـ. وكذلك في سنة 393 هـ قبض على ثلاثة عشر رجلاً، وضربوا وشهروا على الجمال، وحبسوا ثلاثة أيام، من أجل أنهم صلوا صلاة الضحى.

وفي سنة 381 هـ ضرب رجل بمصر، وطيف به المدينة من أجل أنه وجد عنده كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس -رحمه الله-.

وفي سنة 395 هـ في شهر صفر كتب على سائر المساجد، وعلى الجامع العتيق  بمصر، من ظاهره وباطنه، ومن جميع جوانبه، وعلى أبواب الحوانيت، والحجر، وعلى المقابر، سب السلف ولعنهم، ونقش ذلك، ولون بالأصباغ والذهب، وعمل ذلك على أبواب الدور، والقياسر ، وأكره الناس على ذلك .

فكان لعن السنيين تفيض به ألسنة الناس من على المنابر في كافة أنحاء مصر طوال الحكم العبيدي تقريباً، حتى أن العاضد -آخر الخلفاء العبيديين- كان شديد التشيع، متغالياً في سب الصحابة -رضوان الله عليهم- وإذا رأى سنياً استحل دمه .

وأشد من ذلك كله أن الحاكم العبيدي قد ادعى الإلو الجواب: وهية، فأمر الناس أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه، إعظاماً لذكره، واحتراماً لاسمه، وقد فعل ذلك في سائر ممالكه، حتى في الحرمين الشريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجداً له، حتى أنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره، ويسجدون للحاكم، حتى أن قوماً من الجهال إذا رأوه يقولون له: يا واحدنا يا أحدنا، يا محيي يا مميت.

وأمر السودان أن يحرقوا مصر وينهبوا ما فيها من الأموال، والمتاع، والحريم، فامتثلوا لأمره، وسبوا النساء، وفعلوا فيهن الفاحشة، والمنكرات، وأحرقوا ثلث مصر، ونهبوا نصفها .

فما تقدم يعطي فكرة موجزة عن حالة المجتمع في عهد العبيديين، الذين هم أول من ابتدع الاحتفال بالموالد، وسبق وذكرت أن احتفالاتهم تلك ليست نابعة من محبة للرسول صلى الله عليه وسلم وآله؛ لأن من بدر منه ما سبق ذكره آنفاً -وإن ادعى محبته- صلى الله عليه وسلم ومحبة آله، فليس صادقاً ولا يعقل أن يصدر منه ذلك.

وإنما كان هدفهم الوحيد هو بلوغ أغراضهم السياسية، ونشر مذهبهم الإسماعيلي الباطني، واستمالة عامة الناس بإقامة الاحتفالات التي تتجلى فيها مظاهر الكرم، والهدايا النفيسة من النقود، والجوائز للشعراء، وكتَّاب القصر، والعلماء، وكذلك الإحسان للفقراء، وإقامة الولائم. وكل هذه الأمور جديرة بأن تستميل كثيراً من الناس إلى اعتناق مذهبهم.

وبما أن نفقاتهم تلك على الاحتفالات والولائم كان القصد منها محاربة دين الله ورسوله، وإبعاد الناس عن العقيدة الصحيحة، والمنهج السليم، فقد ابتلاهم الله بالجوع ونقص الأموال والثمرات. فالبرغم من رخاء مصر، وعظم ثرائها، والأموال التي كانت تفيض بها خزائن العبيديين، والتي كانوا ينفقونها على ملذاتهم، وقصورهم، وبطانتهم الفاسدة، واحتفالاتهم وموالدهم البدعية، فقد حصل لأهل مصر من المجاعة ما تحدثت به كتب التاريخ، ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في (المنتظم) فقال في حوادث سنة 462 هـ- وهي من سني خلافة المستنصر -:

وفي ذي القعدة ورد من مصر والشام عدد كثير من رجال ونساء، هاربين من الجرف  والغلاء، وأخبروا أن مصر لم يبق بها كبير أحد من الجوع والموت، وأن الناس أكل بعضهم بعضاً، وظُهِرَ على رجل قد ذبح عدة من الصبيان والنساء وطبخ لحومهم وباعها، وحفر حفيرة دفن فيها رءوسهم وأطرافهم، فقتل. وأكلت البهائم فلم يبق إلا ثلاثة أفراس لصاحب مصر -المستنصر- بعد ألوف من الكراع، وماتت الفيلة، وبيع الكلب بخمسة دنانير، وأوقية  زيت بقيراط ، واللوز والسكر بوزن الدراهم، والبيضة بعشرة قراريط، والراوية من الماء بدينار لغسل الثياب، وخرج وزير صاحب مصر إلى السلطان، فنزل عن بغلته وما معه إلا غلام واحد لعدم ما يطعم الغلمان، فدخل، وشُغِل الركابي   عن البغلة لضعف قوته فأخذها ثلاثة أنفس ومضوا بها فذبحوها وأكلوها، فأنهى ذلك إلى صاحب مصر فتقدم بقتلهم وصلبهم، فصُلِبُوا، فلما كان من الغد وجدت عظامهم مرمية تحت خشبهم وقد أكلهم الناس، وباع رجل داراً بمصر كان ابتاعها بتسعمائة دينار بسبعين ديناراً فاشترى بها دون الكارة  من الدقيق. اهـ. .

فخلاصة الكلام: أن العبيديين لما دخلوا مصر وأرادوا نشر مذهبهم الباطني، متخذين التشيع ستاراً يحجب أنظار الناس عن حقيقة دعوتهم، استعملوا في سبيل ذلك شتى الوسائل: فأغروا العامة ورعاع الناس بالهدايا والولائم والاحتفالات كأداة من أدوات نشر مذهبهم، وبالمقابل استعملوا القتل والسجن والأذى لمن عارضهم من أهل السنة المدركين لحقيقة دعوتهم. فعامة الناس كانوا متطلعين إلى هذه الاحتفالات البدعية لحاجتهم لما يُنْفَق فيها من الأموال، ولرغبتهم في ترويح أنفسهم، والاستجابة لهواها. والخوف من السلطان ومن يعلم بدعية هذه الاحتفالات وغيرها من المحدثات لا يستطيع الإنكار لما ينتظره من القمع والتعذيب.

فكان مناخاً مناسباً لانتشار البدع، وتعويد الناس عليهـا، وتعلقهم بها، لما يعلموا من وراء ذلك من الترغيب والترهيب من السلطان الظالم.

بالإضافة إلى أنهم كانوا يشعرون في قرارة أنفسهم -والله أعلم- بأنهم أدعياء على النسب الشريف، فظنوا -وتحقق ظنهم- أن إقامة الموالد للنبي صلى الله عليه وسلم وآله تثبت للناس صحة نسبهم وانتسابهم إلى آل البيت، فابتدعوا تلك الموالد وأنفقوا عليها الأموال الطائلة، والله أعلم.

 

* المبحث الثالث *

- بعض الشبه التي عرضت للقائلين بهذه البدعة والجواب عنها -

لما أحدثت بدعة الاحتفال بالمولد النبوي في عهد العبيديين، وفشت وانتشرت بين الناس لوجود الفراغ الروحي والبدني معاً، وتبرك المسلمون الجهاد وتأصَّلت هذه البدعة في النفوس، وأصبحت جزءاً من عقيدة كثير من أهل الجهل، لم يجد بعض أهل العلم كالسيوطي -رحمه الله- بداً من محاولة تبريرها بالبحث عن شبه يمكن أن يستشهد بها على جواز بدعة المولد هذه، وذلك إرضاء للعامة والخاصة أيضاً من جهة، وتبريراً لرضى العلماء بها، وسكوتهم عن إنكارها لخوفهم من الحكام والعوام من جهة أخرى. ومن هذه الشبه:

1- الشبهة الأولى:

قال السيوطي -رحمه الله-: وقد استخرج له- أي المولد- إمام الحفاظ أبو الفضل أحمد بن حجر -العسقلاني- أصلاً من السنة، واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً... فقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر -العسقلاني- عن عمل المولد، فأجاب بما نصه:

أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا. قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو: ما ثبت في الصحيحين من { أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، فنحن نصومه شكراً لله تعالى} ، فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة -عليه السلام- في ذلك اليوم.

وعلى هذا، فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى -عليه السلام- في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله.... اهـ..

الجواب عن هذه الشبهة: من وجوه:

الوجه الأول:

أن ابن حجر -رحمه الله- صرح في بداية جوابه أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح، من القرون الثلاثة، وهذا كاف في ذم الاحتفال بالمولد؛ إذ لو كان خيراً لسبق إليه الصحابة والتابعون، وأئمة العلم والهدى من بعدهم.

الوجه الثاني:

أن تخريج ابن حجر في فتواه عمل المولد على حديث صوم عاشوراء، لا يمكن الجمع بينه وبين جزمه أول تلك الفتوى بأن ذلك العمل بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم، يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحاً؛ إذ لو كان صحيحاً لم يعزب عن فهم السلف الصالح، ويفهمه من بعدهم.

كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلاً عليه؛ إذ لو كان دليلاً عليه لعمل به السلف الصالح، فاستنباط ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي من حديث صوم يوم عاشوراء، مخالف لما أجمع عليه السلف، من ناحية فهمه، ومن ناحية العمل به، وما خالف إجماعهم فهو خطأ؛ لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى .

وقد بسط الشاطبي -رحمه الله- الكلام على تقرير هذه القاعدة في كتابه الموافقات في أصول الأحكام .

الوجه الثالث:

أن تخريج بدعة المولد على صيام يوم عاشوراء، إنما هو من التكلف المردود؛ لأن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الرأي والاستحسان والابتداع.

الوجه الرابع:

أن صيام يوم عاشوراء قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ورغب فيه، بخلاف الاحتفال بمولده، واتخاذه عيداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يرغب فيه، ولو كان في ذلك شيء من الفضل لبين ذلك لأمته لأنه صلى الله عليه وسلم لا خير إلا وقد دلهم عليه، ورغبهم فيه، ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه، والبدع من الشر الذي نهاهم عنه، وحذرهم منه. قال صلى الله عليه وسلم: {إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} . وقال صلى الله عليه وسلم: {أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة}  .

2- الشبهة الثانية:

قال السيوطي -رحمه الله- بعد ذكره تخريج ابن حجر عمل المولد على صوم يوم عاشوراء: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو: ما أخرجه البيهقي .

عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة . مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب  عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريعاً لأمته، كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات، وإظهار المسرات .

الجواب عن هذه الشبهة:

أن هذا الحديث لم يثبت عند أهل العلم:

أ- فقد قال عبد الرزاق في مصنفه:

أنبأنا عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة.

قال ابن قيم الجوزية بعد إيراده هذا الحديث وعزوه إلى عبد الرزاق في مصنفه قال عبد الرزاق: إنما تركوا ابن محور لهذا الحديث.

ب- وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أن هذا الحديث لا يثبت، ونسبه للبزار، وقال: قال البزار: تفرد به عبد الله -بن محرر- وهو ضعيف.

جـ- قال النووي في المجموع شرح المهذب: وأما الحديث الذي ذكره في عق النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده عن عبد الله بن محرر -بالحاء المهملة، والراء المكررة-، عن قتادة، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة.

وهذا حديث باطل، وعبد الله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه، قال الحفاظ: متروك. والله أعلم.

د- قال الذهبي في ميزان الاعتدال -بعد أن ذكر ترجمة عبد الله بن المحرر، وكلام الحفاظ فيه، وأنه متروك، وليس بثقة- ومن بلاياه -عبد الله بن المحرر- روى عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما بُعِثَ.

3- الشبهة الثالثة:

قال السيوطي: ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري قال في كتابه المسمى (عرف التعريف بالمولد الشريف) ما نصه:

قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم، فقيل له ما حالك؟ فقال: في النار، إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمص بين أصبعي ماء بقدر هذا -وأشار لرأس أصبعه- وأن ذلك بإعتاقي لثويبة، عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له. فإذا كان أبو لهب الكافر، الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به، فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم. اهـ..

الرد على هذه الشبهة:

أن هذا الخبر رواه البخاري مرسلاً في باب: ((وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)) [النساء:23]، و{يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب} من صحيحه، بعد أن ذكر الحديث بسنده عن عروة بن الزبير، أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت: {يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: أو تحبين ذلك؟ فقلت: نعم، لست لك بمُخْلية، وأحب من شاركني في خير أختي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة؟. قلت: نعم. فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة،، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن}.

قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب، وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة، قال له: ماذا لقيت؟ قال: أبو لهب: لم ألق بعدكم، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة.

قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، لكنه مخالف لظاهر القرآن، قال تعالى: ((وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً)) [الفرقان:23].

وأجيب عن هذا من وجوه، منها:

أ- أن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به -كما تقدم-.

ب- وعلى تقدير أن يكون موصولاً، فالذي في الخبر رؤيا ممام فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به.

جـ- أن ما ورد في مرسل عروة هذا من إعتاق أبي لهب ثويبة كان قبل إرضاعها النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذكره ابن الجزري من أنه أعتقها عندما بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم: يخالف ما عند أهل السير من أن إعتاق أبي لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل.

قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر -الواقدي- عن غير واحد من أهل العلم، وقالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها، وهي يومئذ مملوكة، وطلبت إلى أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها، فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أعتقها أبو لهب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وكسوة، حتى جاءه خبرها أنها قد توفيت سنة سبع مرجعة من خيبر.

وقال الحافظ ابن عبد البر في ترجمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر إرضاع ثويبة للرسول صلى الله عليه وسلم: وأعتقها أبو لهب بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. اهـ..

وقال ابن الجوزي: وكانت ثويبة تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج خديجة فيكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكرمها خديجة، وهي يومئذ أمة، ثم أعتقها أبو لهب اهـ..

د- أنه لم يثبت من طريق صحيح أن أبا لهب فرح بولادة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن ثويبة بشرته بولادته، ولا أنه أعتق ثويبة من أجل البشارة بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم ذلك- فكل هذا لم يثبت، ومن ادعى ثبوت شيء من ذلك، فعليه إقامة الدليل على ما ادعاه، ولن يجد إلى الدليل الصحيح سبيلاً.

الشبهة الرابعة:

ومن الشبه التي استند إليها القائلون بالاحتفاظ بالمولد النبوي: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة الذي جاء فيه: وسئل عن صوم الاثنين؟

قال: {ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت} أو {أنزل عليه فيه}. فقالوا: هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظم يوم مولده، وكان يعبر عن هذا التعظيم بالصوم، وهذا في معنى الاحتفال به،

الجواب عن هذه الشبهة:

أ- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول -إن صح أنه كذلك-، وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات، وبناء على هذا فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول، بعمل ما دون يوم الاثنين من كل أسبوع، يعتبر استدراكاً على الشارع، وتصحيحاً لعمله، وما أقبح هذا إن كان!!! -والعياذ بالله-.

ب- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخص يوم الاثنين بالصيام، بل كان يتحرى صيام الاثنين والخميس، وقال صلى الله عليه وسلم: {تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم}.

فالاستدلال بصوم يوم الاثنين على جواز الاحتفال ببدعة المولد في غاية التكلف والبعد.

جـ- إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول صلى الله عليه وسلم ربه به، وهو الصوم وعليه فلنصم كما صام، غير أن أرباب الموالد لا يصومونه؛ لأن الصيام فيه مقاومة لشهوات النفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب، وهم يريدون ذلك -الطعام والشراب- فتعارض الغرضان، فآثاروا ما يحبون على ما يحب الله، وهذا بعينه أعظم الزلل عند أهل البصيرة.

د- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضف إلى الصيام احتفالاً كاحتفال أرباب الموالد، من تجمعات ومدائح وأنغام وطعام وشراب، أفلا يكفي الأمة ما كفى نبيها ويسعها ما وسعه؟ وهل يقدر عاقل أن يقول: لا. وإذن فلم الافتيات على الشارع، والتقدم بالزيادة عليه، والله سبحانه وتعالى يقول: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) [الحشر:7].

ويقول تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم)) [الحجرات:1]، وقال صلى الله عليه وسلم: {إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة}.

وقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها}.

5- الشبهة الخامسة:

ومن الشبه التي استند إليها القائلون بالاحتفال بالمولد النبوي قولهم: إن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن، من قوله تعالى: ((قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)) [يونس:58].

فالله أمرنا أن نفرح بالرحمة والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الرحمة، قال تعالى: ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)) [الأنبياء:107].

الجواب عن هذه الشبهة:

أ- أن الاستدلال بهذه الآية على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي، من قبيل حمل كلام الله تعالى على ما لم يحمله عليه السلف الصالح، والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه، في العمل به، وهذا أمر لا يليق؛ لما بينه الشاطبي في كتابه (الأدلة الشرعية من الموافقات) وهو أن الوجه الذي لم يثبت عن السلف الصالح العمل بالنص عليه، لا يقبل ممن بعدهم دعوى دلالة النص عليه. قال: إذ لو كان دليلاً عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادماً لمقتضى هذا المفهوم، ومعارضاً له، ولو كان ترك العمل، فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كاف... وكثيراً ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونها مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء، ولذلك أمثلة كثيرة:

منها: استدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى: ((في أي صورة ما شاء ركبك)) [الانفطار:8].

واستدلال كل من اخترع بدعة، أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح، بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ككتب المصحف، وتصنيف الكتب، وتدوين الدواوين، وتضمين الصناع، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة، فخلطوا وغلطوا، واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وهو كله خطأ على الدين، واتباع لسبيل الملحدين، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على هذه المسالك، إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون أو حادوا عن فهمها، وهذا الأخير هو الصواب؛ إذ المتقدمون من السلف الصالح كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم تكن فيهم، ولا عملوا بها، فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلاً إجماعياً على أن هؤلاء في استدلالهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة... إلخ.

ب- أن كبار المفسرين قد فسروا هذه الآية الكريمة، ولم يكن في تفسيرهم أن المقصود بالرحمة في هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما المقصود بالفضل والرحمة المفروح بهما، ما عنته الآية السابقة لهذه الآية، وهو قوله تعالى: ((يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)) [يونس:57،58].

قال ابن جرير في تفسيره: القول في تأويل قوله تعالى: ((قل بفضل الله وبرحمته   فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((قل)): يا محمد لهؤلاء المكذبين بك، وبما أنزل إليك من عند ربك. ((بفضل الله)): أيها الناس الذي تفضل به عليكم وهو الإسلإم، فبينه لكم، ودعاكم إليه. ((وبرحمته)): التي رحمكم بها فأنزلها إليكم فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، فبصركم بها معالم دينكم وذلك القرآن، ((فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)): يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه، والقرآن الذي أنزله عليهم، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وكنوزها. اهـ..

وقال القرطبي -رحمه الله- في (الجامع لأحكام القرآن): قوله تعالى: ((قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)). قال أبو سعيد الخدري وابن عباس - رضي الله عنهم-: (فضل الله: القرآن، ورحمته: الإسلام). وعمهما أيضاً: (فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلكم من أهله).

وعن الحسن، والضحاك، ومجاهد، وقتادة: فضل الله: الإيمان، ورحمته القرآن - على العكس من القول الأول. اهـ..

وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: يقول الله تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم، على رسوله الكريم: ((يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم))، أي: زاجر عن الفواحش. ((وشفاء لما في الصدور)) أي: من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس. ((وهدى ورحمة)) أي: يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه، كقوله تعالى: ((وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً)) [الإسراء:82]، وقوله تعالى: ((... قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء...)) [فصلت:44]، وقوله تعالى: ((قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)) [يونس:58]، أي: بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق، فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به اهـ..

وقال ابن قيم الجوزية في تفسير قوله تعالى: ((قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)): وقد دارت أقوال السلف، على أن فضل الله ورحمته: الإسلام والسنة اهـ..

وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي في الرد على السبكي:... ولا يجوز إحداث تأويل، في آية، أو في سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه، ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه؟... اهـ..

والشبه التي استند إليها القائلون بالاحتفال بالمولد النبوي كثيرة، وليس هذا مجال حصرها؛ لأن استقصاءها والإحاطة بها، تحتاج إلى مؤلف منفرد خاص بها، والقصد هنا هو الإشارة والتنبيه إلى بعض هذه الشبه، وقد ذكرت بشكل موجز ردود العلماء على هذه الشبه، وأنه ليس في أي واحدة منها دليل على جواز الاحتفال بالمولد النبوي.

ولكن القائلين بهذه البدعة أرادوا إضفاء الصبغة الشرعية على هذا الأمر المبتدع، فاستشهدوا بهذه الأدلة، وفسروها بما يوافق هواهم، وعقيدتهم الفاسدة، فكانوا كما قال تعالى: ((أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون)) [الجاثية:23] -والله أعلم-.

 

* المبحث الرابع *

-طريقة إحياء المولد-

قال المقريزي في الخطط يصف جلوس الخليفة في الموالد الستة:

فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، تقدم -الخليفة- بأن يعمل في دار الفطرة: عشرون قناطراً من السكر اليابس حلواء يابسة من طرائفها، وتعبأ في ثلاثمائة صينية من النحاس، وهو مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فتفرق تلك الصواني في أرباب الرسوم من أرباب الرتب، وكل صينية في قوارة، من أول النهار إلى ظهره، فأول أرباب الرسوم قاضي القضاة، ثم داعي الدعاة، ويدخل في ذلك القراء بالحضرة والخطباء، والمتصدرون بالجوامع، وقومة المشاهد.... فإذا صلى الخليفة الظهر، ركب قاضي القضاة، والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر، ومعهم أرباب تفرقة الصواني، فيجلسون مقدار قراءة الختمة الكريمة، ثم يستدعى قاضي القضاة ومن معه، وقد كنست الطريق، ورشت بالماء رشاً خفيفاً، وفرش تحت المنظرة الرمل الأصفر، فيقربون من المنظرة ويترجلون قبل الوصول إليها  بخطوات، فيجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانية بسمت وتشوف لانتظار الخليفة، فتفتح إحدى الطاقات، فيظهر منها وجهه- الخليفة- وما عليه من المنديل وعلى رأسه عدة من الأستاذين المحنكين، وغيرهم من الخواص، ويفتح بعض الأستاذين طاقة ويخرج منها رأسه ويده اليمنى في كمه ويشير به قائلاً: أمير المؤمنين يرد عليكم السلام. فيسلم بقاضي القضاة أولاً بنعوته، وبصاحب الباب بعده كذلك، وبالجماعة الباقية جملة جملة من غير تعيين أحد، فيستفتح قراء الحضرة بالقراءة، ويكونون قياماً في الصدر، وجوههم للحاضرين، وظهورهم إلى حائط المنظرة، فيقدم خطيب الجامع الأنور المعروف بجامع الحاكم، فيخطب كما يخطب فوق المنبر، إلى أن يصل إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: وإن هذا يوم مولده، إلى ما من الله به على ملة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم يؤخر، ويقدم خطيب الجامع الأزهر، فيخطب كذلك، ثم خطيب الجامع الأقمر فيخطب كذلك، والقراء في خلال خطابة الخطباء، يقرءون!!!

فإذا انتهت خطابة الخطباء، أخرج الأستاذ رأسه ويده في كمه من طاقته، ورد على الجماعة السلام، ثم تغلق الطاقتان فتنفض الناس، ويجري أمر الموالد الخمسة الباقية على هذا النظام، إلى حين فراغها على عدتها من غير زيادة ولا نقص. اهـ..

وقال ابن خلكان في وصف احتفال مظفر الدين أبو سعيد كوكبوري صاحب إربل بالمولد النبوي:

وأما احتفاله بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به، لكن نذكر طرفاً منه: وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه، فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب، كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة أو أكثر، منها قبة له، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زيَّنُوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المستجملة، وقعد في كل قبة جوق من المغاني، وجوق من أرباب الخيال، ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطباق في كل قبة حتى رتبوا فيها جوقاً، وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم...، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، ويقف عليها قبة قبة إلى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم، وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه، ويعمل السماع، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر. هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد. وكان يعمله سنة في ثامن الشهر، وسنة في الثاني عشرة لأجل الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً على الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور، ويطبخون الألوان المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع -أشك في ذلك- من الشموع الموكبية، التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها، وهي مربوطة على ظهر البغل، حتى ينتهي إلى الخانقاه. فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل واحد منهم بقجة، وهم متتابعون، كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده، ثم ينزل إلى الخانقاه، وتجتمع الأعيان والرؤساء، وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعاظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس والكرسي، وشبابيك أخر للبرج أيضاً إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند، ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند يجعلونه قوتاً للقلوب، وغذاء للأرواح، وحادياً للنفوس، يحدوها إلى السير إلى الله، ويحثها على الإقبال عليه.

والسماع: أمر محدث حدث في أواخر المائة الثانية، فأنكره الأئمة ومنهم الشافعي وأحمد ولم يحضره الصالحون كابن أدهم والفضيل، وقال الشافعي: إنه من إحداث الزنادقة كابن الراوندي، والفرابي، وابن سينا، والمتخذين للسماع هم الصوفية.

يراجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 562- 571)، وتلبيس إبليس ص (242- 250)، ومجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (1/ 47، 48).

من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطاً عاماً فيه من الطعام والخير شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماطاً ثانياً في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، وفي مدة العرض، ووعظ الوعاظ يطلب واحداً واحداً من الأعيان والرؤساء، والوافدين لأجل هذا الموسم، من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد، ثم يعود إلى مكانه فإذا تكامل ذلك كله، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة ... هكذا يعمل في كل سنة، وقد لخصت صورة الحال، فإن الاستقصاء يطول، فإذا فرغوا من هدا الموسم، تجهز كل إنسان للعودة إلى بلده فيدفع لكل شخص شيئاً من النفقه. اهـ..

وقال ابن كثير فى ترجمة الملك المظفر كوكبوري: قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد، كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم، ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار اهـ..

وقال السندوبي في وصف الاحتفال بالمولد النبوي في القاهرة سنة 1250 هـ - وفي هذا العهد كان العالم الإنجليزي (ادوارد وليم لين) يزور القاهرة، فشاهد الاحتفال بالمولد النبوي-، فوصفه وصفاً شيقاً.... قال- وليم لين-: في أول ربيع الأول الشهر الثالث من شهور السنة الهجرية، يبدأ الاستعداد للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأكبر ساحات هذا الاحتفال شأناً: الجزء الجنوبي الغربي المعروف ببركة الأزبكية، وفي هذه الساحة أقيمت صيوانات كثيرة للدراويش، وفيها يجتمعون كل ليلة للقيام بحلقات الذكر ما دام الاحتفال بالمولد، وبين هذه الصيوانات ينصب صاري يثبت بالحبال ويعلق فيه من القناديل اثنا عشر أو أكثر، وحول هذا الصاري تقوم حلقة الذكر، وهي تتكون عادة من نحو خمسين أو ستين درويشاً.

وفي اليوم الثاني من الشهر ينتهون من إقامة معالم الاحتفال ومعداته -في العادة- ثم يشرعون في اليوم التالي في مظاهر الاحتفال ليلاً ونهاراً إلى الليلة الثانية عشرة من الشهر، وهي ليلة المولد الكبرى... ففي النهار يتسلى الناس في الساحة الكبرى بالاستماع إلى الشعراء، والتفرج على الحواة ونحوه.

أما الغواني فقد أكرهتهن الحكومة من عهد قريب على التوبة وترك مهنتهن من رقص ونحوه، فلا أثر لهن في احتفال هذه السنة، وكن في الموالد السابقة من أكثر العاملين في الاحتفال اجتذاباً للمتفرجين!!!

أما في الليل فتضاء الشواوع المحيطة بساحة المولد، بقناديل كثيرة، تعلق غالباً في فوانيس من الخشب، ومن دكاكين المأكولات، ونصبات الحلوى ما يبيت مفتوحاً طوال الليل، وكذلك القهاوي التي قد يكون في بعضها، وفي غيرها من الأماكن: شعراء ومحدثون، ينصت إليهم كل من أراد من المارة.

أما في الليلتين الأخيرتين فيكون المولد أكثر زحاماً وأسباب التفرج والمسليات أعظم منها في الليالي السابقة.

ثم وصف المؤلف الإنجليزي -ادوارد وليم لين- مجلساً كاملاً من مجالس الذكر التي تعمل في الموالد وغيرها فقال: وفي ليلة المولد الكبرى ذهبت إلى الساحة الرئيسة، فرأيت ذكراً قوامه ستين درويشاً، حول صاري، وكان (...) يكونون حلقة واسعة، ثم أمسك أفراد كل جماعة بعضهم ببعض كل منهم، ما عدا الأول قد وضع ذراعه اليمنى على ظهر من يليه يساراً، ويده على الكتف اليسرى- كتف من يليه -ثم اتجهوا إل النظارة- المتفرجين - خارج الحلقة، وأخذوا يذكرون (الله) بصوت أجش عميق، وهم في هذه الحالة يتقدمون إلى الإمام خطوة، ثم إلى الوراء خطوة، مع تحرك كل منهم قليلاً إلى اليسار فكانت الحلقة كلها تدور ولكن ببطء شديد، وكان كل منهم يمد يده اليمنى نحو النظارة خارج الحلقة مشيراً بالتحية، وهؤلاء أو أغلبهم كانوا يردون السلام على الذكّيرة، وأحياناً كان بعضهم يقبل اليد الممتدة إليه إذا قابلت وجهه متى كانوا قريبين منهم...، ومن العوائد المتبعة عندهم أن يسكت من في الصواوين من الذكيرة، متى كان الذكر حول الصاري. اهـ..

وقال السندوبي- أيضاً- في كتابه (تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي):

ومن الليالي الغر التي لا أنساها ما حييت، ليلة الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1364 هـ الموافق 24 فبراير سنة 1945 م والتي تعد بحق مثالاً لما يجب أن يكون عليه الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في كل عام: فقد شهدت في ساحة المولد معالم الزينة التي تأخذ بالألباب، ومظاهر الاحتفال التي بدت في شكل فخم، ونظام جليل هناك، وفي هذ الميدان المترامي الأطراف، أقيم السرادق الملكي البديع، وقد تجلى في زخارفه وماس في أستاره ومطارفه، وفرش بالطنافس الثمينة، وصفت في رحابه الأرائك المحلاة بالذهب، وانتشرت في جنباته النمارق الموصوفة، واسترسلت في ساحته الكلل الحريرية، ورفعت على سواريه الأعلام الملكية، وعلقت في مداخله المصابيح الباهرة الأنوار، وفي سماواته الثريات الآخذة بالأبصار...، كما فرشت أرض الميدان بالرمل الأصفر والأحمر، ووقف على أبوابه رجال الحرس الملكي في ملابسهم المزركشة... ووفد على هذه السرادق وزراء الدولة، وشيخ الأزهر، وطوائف العلماء!! ووكلاء الوزارات، وكبار الموظفين، وكبراء الأمة، وأعيان الناس، من ذوي المراتب والألقاب، وجميع هؤلاء قد وقف في جلال ووقار، انتظاراً لتشريف حضرة الملك المعظم، أو من ينتدب للإنابة عنه في حضور الاحتفال.

وقبيل الظهـر بساعة بينما هذا الجمع الحاشد في الانتظار... وصل الركب الملكي الفخم، وقد أقبل جلالته بوجهه المشرق على هذه الجموع، مشيراً بيده الكريمة إشارة التحية والسلام، واستقبله بعد ذلك كبار الشخصيات الموجودة في السرادق...، وعندما وصلت المركبة الملكية قبالة السرادق الملكي العظيم، سمعت طلقات المدافع تدوي تحية الملك، وتعالت أصوات قوات الجيش هاتفة بحياته، ثم أخذت الموسيقى تصدح بأنغامها الشجية بالسلام الملكي...، وبعد الانتهاء من عرض الجيش تقدمت بين يدي الملك مشايخ الطرق الصوفية برجالها ومريديها، حاملين لأعلامهم وشاراتهم، وكل شيخ يمر بين يديه يقف هنيهة لقراءة الفاتحة، وتلاوة بعض الأدعية المأثورة بطريقتهم المعروفة في القراءة والدعاء، ثم يهتفون جميعاً بحياة الفاروق ثلاثاً.

ولما انتهى مرور أصحاب الطرق، عاد الملك إلى السرادق الملكي، حيث قدمت صنوف الحلوى، وأنواع المرطبات، فتناول منها جميع الحاضرين وبعد فترة قصيرة بارح جلالته السرادق الملكي قاصداً تشريف سرادق السادة البكرية، وما إن أشرف عليه حتى نهض شيخ مشايخ الطرق الصوفية، وحوله جماعة من كبار المشايخ لاستقبال جلالته بما يليق بمقامه الكريم، ثم ألقيت قصة المولد الشريف، وما إن وصل القارئ إلى ذكر مولده صلى الله عليه وسلم حتى نهض الملك واقفاً إجلالاً وإعظاماً لهذه الذكرى الكريمة وبوقوفه وقف الجمع الحاشد في كمال الخشوع والإكرام، وعند الانتهاء من إلقاء القصة والدعاء للملك، بدأ القراء في تلاوة ما يتيسر من القرآن الكريم، بترتيل حسن، وتنغيم مطرب جميل!!! وجميع القراء من مشهوري المجودين، ومذكوري الملحنين!! وأصحاب الأصوات الشجية، والأنغام العذبة الندية، ثم تقدم الخدم والفراشون بصواني الحلوى، وأكواب المرطبات إلى بين يدي الملك ليتناول منها ما يشاء، كما أديرت بعد ذلك على سائر الحاضرين فتناول كل أحد منهم ما لذ وطاب، وفي أثناء إلقاء القصة الشريفة لم تنقطع المدافع عن دويها المطلق بنظام محكم، وترتيب بديع، كما أخذ المذيع بالراديو في ترديد القصة من أبواقه لإسماع الجمهور، وبعد ذلك نهض الملك وقرأ الفاتحة، وشاركه في قراءتها جميع الحاضرين. اهـ..

وقال السندوبي -أيضاً- في معرض كلامه عن المولد سنة 1366 هـ: وفي صبيحة يوم اثنا عشر من ربيع الأول عطلت أعمال الحكومة في وزاراتها ودواوينها ومصالحها، كما عطلت الأعمال في الدوائر المالية والتجارية احتفالاً بذكرى المولد النبوي الشريف على جاري العادة. اهـ..

فما تقدم من النصوص التي وصفت طريقة إحياء المولد النبوي في عصور مختلفة، يؤكد لنا أن هذه الاحتفالات ليست إلا تلبية لشهوات ورغبات النفوس المريضة من الناس، ومراسم هذه الاحتفالات من الأكل والشرب وإنشاد القصائد، واختلاط النساء بالرجال، وأعمال اللهو، وما يؤول على القائمين على هذه الاحتفالات من الأموال، والعطايا والهدايا، خير شاهد على ما ذكرت. فليس القصد كما يدَّعون تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والفرح بذكرى مولده، وإحياء ذكره، وإثبات محبتهم له صلى الله عليه وسلم بتلك الاحتفالات المبتدعة.

وكون هذه الاحتفالات أمر محدث مبتدع فهذا كاف في ذمها، والتحذير منها، لا سيما وأن من ابتدعها إنما ابتدعها بسوء نية، كما تقدم بيان ذلك.

وربما شذ عن هذه القاعدة أناس فعلوا ذلك عن حسن نية ولكن حسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فمن قبلنا من الملل كانوا يبتدعون في دينهم أموراً بقصد التعظيم وحسن النية، حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا، وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، لضاع أصل ديننا، لا سيما وأن هذه الاحتفالات لا تخلو من الشرك الأكبر وهو التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، ودعاؤه، واللجوء إليه، ومن المعلوم أن الشرك الأكبر مخرج من الملة.

ولكن الله تكفل بحفظ هذا الدين، وجعل السلف الصالح من تبع نهجهم وآثارهم سبب لذلك، لحرصهم على الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ كل ما يكدر صفو هذا الدين. ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقية والصادقة هي طاعته فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، وتعظيمه يكون بالصلاة عليه، والالتزام بسنته، والعمل بها، والذب عنها، كما سنوضح ذلك في المبحث التالي- إن شاء الله- والله أعلم.

 

* المبحث الخامس *

- حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم -

اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرت عباراتهم في ذلك، وليست ترجع في الحقيقة إلى اختلاف مقال، ولكنها اختلاف أحوال: فقال سفيان: المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه التفت إلى قوله تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)) [آل عمران:31]. وقال بعضهم: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاد نصرته، والذب عن سنته، والانقياد لها، وهيبة مخالفته.

وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب.

وقال آخر: إيثار المحبوب.

وقال بعضهم: المحبة: الشوق إلى المحبوب.

وقال بعضهم: المحبة: مواطأة القلب لمراد الرب، يحب ما أحب ويكره ما كره.

وقال آخر. المحبة: ميل القلب إلى موافق له.

وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها.

وحقيقة المحبة: الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه، كحب الصور الجميلة، والأصوات الحسنة، والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها، مما كل طبع مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة، كمحبة الصالحين والعلماء وأهل المعروف، والمأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم، والتشيع من أمة في آخرين، ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان، وهتك الحرم، واخترام النفوس.

أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهه إحسانه له، وإنعامه عليه، وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها.

فإذا تقرر هذا: نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة: أما جمال الصورة، والظاهر، وكمال الأخلاق، والباطن، فهو أعلى الناس فيها قدراً، وأكملهم محاسن وفضلاً.

وأما إحسانه وإنعامه على أمته، فقد ذكره الله في كتابه العزيز في مواطن عدة، والتي وصفه الله- سبحانه وتعالى- بأمور، منها:

رأفته بأمته، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، وشفقته عليهم، واستنقاذهم به من النار، وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، ورحمة للعالمين، ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً ويتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويهديهم إلى صراط مستقيم. فأي إحسان أجل قدراً، وأعظم خطراً، من إحسانه إلى جميع المؤمنين؟

وأي إفضال أعم منفعة، وأكثر فائدة من إنعامه -بعد الله- سبحانه وتعالى - على كافة المسلمين؛ إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية، وداعيهم إلى الفلاح، ووسيلتهم إلى ربهم، وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم، فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً؛ لما ورد في ذلك من النصوص، كقوله تعالى: ((قل إن كان آباؤكم وأبناوكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)) [التوبة:24].

وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين} .

وقوله صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،....} الحديث.

وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما قال له عمر: {يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر}.

وكذلك هو مستوجب للمحبة الحقيقية عادة وجبلة بما ذكرناه آنفا لإفاضته الإحسان، وعمومه الإجمال، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً، أو استنقذه من هلكة أو مضرة -مدة التأذي بها قليل منقطع- فمن كان سبباً لمنحه ما لا يبيد من النعيم، وسبباً لوقايته مما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب.

وقال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما -رحمة الله عليهم-: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد. ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته، قال ابن بطال -رحمه الله-: ومعنى الحديث أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين، لأن به صلى الله عليه وسلم استُنقذنا من النار، وهُدينا من الضلال.

فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، ومن علامات حبه صلى الله عليه وسلم:

أ- الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)) [آل عمران:31].

ب- إيثار ما شرعه عليه الصلاة والسلام، وحض عليه، على هوى نفسه، وموافقة شهوته، قال تعالى: ((والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة...)) [الحشر:9].

جـ- كثرة الذكر له صلى الله عليه وسلم، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره، قال تعالى: ((إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها النين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً)) [الأحزاب:56].

د- ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم: محبة من أحب النبي -عليه السلام- من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم، فمن أحب شيئاً  أحب من يحبه. قال صلى الله عليه وسلم: {الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغصي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه} .

وقال صلى الله عليه وسلم: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار} .

وقال- عليه الصلاة والسلام-: {الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله}.

هـ- ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم: بغض من أبغض الله ورسوله ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته، وابتدع في دينه، واستثقاله كل أمر يخالف شريعته، قال تعالى: ((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله...)) [المجادلة:22].

و- ومنها: أن يحب القرآن الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ويحب سنته ويقف عند حدودها، قال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يدخر منها إلا زاداً وبُلغة إلى الآخرة.

وإذا استعرضنا هذه العلامات، وجدنا أن الذين ابتدعوا الاحتفال بالمولد النبوي، لم تظهر عليهم أي علامة من هذه العلامات، ولم يتصفوا بإحداها، بل كانوا يتصفون بضدها. فلم يقتدوا به صلى الله عليه وسلم في القول والفعل، ولم يمتثلوا أمره بلزوم السنة، ونهيه عن الإحداث في الدين، بل اطرحوا سنته جانباً، وقدموا ما تهوى أنفسهم وما يشتهونه على ما أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، واشتغلوا بالمعاصي والملذات عن ذكره صلى الله عليه وسلم، وسبُّوا صحابته وأنصاره- بل كفَّروهم-، وجاهروا بذلك، وقربوا أعداء الله ورسوله، وأظهروا لهم المودة، وولوهم أمور المسلمين)، فهل يبقى أدنى شك في كذبهم فيما يزعمون من أن إقامتهم للمولد النبوي لأجل محبتهم له صلى الله عليه وسلم، وتعظيم ذكراه؟؟!!؛ لأن المحبة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تكون بطاعته فيما أمر، والابتعاد عما نهى عنه والانقياد للشرع الذي جاء به، فلا يعبد الله إلا بما شرع، وكذلك الإكثار من الصلاة والسلام عليه، والتمسك بسنته، والعمل بها، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، وتقديم قوله على كل قول، فإنه لا أحد من الأمة معصوم من الخطأ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيجب أن يؤخذ قوله كله ولا يرد منه شيء، وأمور الدين إنما العمدة فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا مكان للاعتماد على الهوى والاستحسان من غير دليل شرعي.

قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)) [النساء:59]، والله أعلم.

 

* المبحث السادس *

- موقف أهل السنة من هذه البدعة -

اتفق العلماء من السلف الصالح- رحمهم الله- على أن الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من المواسم غير الشرعية، أمر محدث مبتدع في الدين، ولم يؤثر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابة، ولا عن التابعين وتابعيهم، ولا علماء الأمة المشهورين؛ كالأئمة الأربعة ونحوهم.

وسنذكر فيما يلي بعض أقوال السلف الصالح في هذا الشأن، ملحقين بها أقوال بعض المتأخرين من علماء الأمة.

** قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول، التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها، والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ..

وقال- أيضاً- في (اقتضاء الصراط المستقيم): فصل. ومن المنكرات في هذا الباب: سائر الأعياد والمواسم المبتدعة، فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم، أو لم تبلغه؛ وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهـي عنها؛ لسببين:

أحدهما: أن فيها مشابهة الكفار.

والثاني: أنها من البدع. فما أحدث من المواسم والأعياد هو منكر، وإن لم يكن فيها مشابهة لأهل الكتاب؛ لوجهين:

أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات، فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر - رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: {بعثت أنا والساعة كهاتين- ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى- ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة} . وفي رواية للنسائي: {وكل ضلالة في النار}.

وفيما رواه مسلم - أيضاً- في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} . وفي لفظ في الصحيحين: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} .

وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة} .

وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضاً. قال الله تعالى: ((أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله...)) [الشورى:21]. فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو بفعله، من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكاً لله، شرع من الدين ما لم يأذن به الله...

إلى أن قال- والكلام في ذم البدع لما كان مقرراً في غير هذا الموضوع لم نطل النفس في تقريره، بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم:

فصل

قد تقدم أن العيد يكون اسماً لنفس المكان، ولنفس الزمان، ولنفس الاجتماع، وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء:

أما الزمان فثلاثة أنواع، ويدخل فيها بعض أعياد المكان والأفعال:

أحدها: يوم لم تعظمه الشريعة الإسلامية أصلاً، ولم يكن له ذكر في السلف، ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه، مثل: أول خميس من رجب، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب.

 النوع الثاني: ما جرى فيه حاثة كما كان يجري في غيره، من غير أن يوجب ذلك جعله موسماً، ولا كان السلف يعظمونه: كثامن عشر ذي الحجة الذي خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيه بغدير خم مرجعه من حجة الوداع... وكذلك ما يحدثه بعض الناس: إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى- عليه السلام-، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع- من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع فيه لو كان خيراً، ولو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف- رضي الله عنهم- أحق به منا، مإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته، وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصاً على أمثال هذه البدع -مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم بهما المثوبة- تجدهم فاترين في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكِبْر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها.اهـ..

**وقال الشاطبي في (الاعتصام) بعد أن عرف البدعة بأنها: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه: وقوله في الحد: (تضاهي الشرعية)، يعني: أنها تشابه الطريقة الشرعية، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة، منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصاد من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.

ومنها: التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، وما أشبه ذلك... إلخ. اهـ..

**وقال ابن الحاج في (المدخل): فصل في المولد: ومن جملة ما أحدثوه من البدع، مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات، وأظهر الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد، وقد احتوى على بدع ومحرمات جملة. فمن ذلك: استعمالهم المغاني، ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك، مما جعلوه آلة السماع...، فانظر -رحمنا الله وإياك- إلى مخالفة السنة المطهرة ما أشنعها وأقبحها، وكيف تجر إلى المحرمات، ألا ترى أنهم لما خالفوا السنة المطهرة، وفعلوا المولد، لم يقتصروا على فعله، بل زادوا عليه ما تقدم ذكره من الأباطيل المتعددة، فالسعيد السعيد من شد يده على امتثال الكتاب والسنة والطريق الموصلة إلى ذلك، وهي اتباع السلف الماضين- رضوان الله عليهم أجمعين-؛ لأنهم أعلم بالسنة منا، إذ هم أعرف بالمقال، وأفقه بالحال.... اهـ..

**وقال الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي المشهور بالفاكهاني - بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهل له، والصلاة والسلام على نبينا محمد عبد الله ورسوله وآله وصحبه أجمعين: أما بعد، فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد، هل له أصل في الشرع؟ أو هو بدعة وحدث في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً، والإيضاح عنه معيناً، فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً، وليس بواجب إجماعاً، ولا مندوباً؛ لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت، ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين والتفرقة بين حالين:

 أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام، وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة؛ إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذي هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، سُرُج الأزمنة، وزين الأمكنة.

والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف. لا سيما إذا انضاف إلى ذلك شيء من الغناء، مع البطون الملأى، بآلات الباطل من الدفوف والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد، والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهم بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: ((إن ربك لبالمرصاد)) [الفجر:14].

وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإنا لله وإنا إليه راجعون. {بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ...} . هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم- وهو ربيع الأول- هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح فيه بأولئ من الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول ومن الله تعالى نرجو حسن القبول. اهـ..

**وقال محمد عبد السلام خضر الشقيري في كتابه (السنن والمبتدعات): في شهر ربيع الأول وبدعة المولد فيه: لا يختص هذا الشهر بصلاة ولا ذكر ولا عبادة ولا نفقة ولا صدقة، ولا هو موسم من مواسم الإسلام كالجمع والأعياد التي رسمها لنا الشارع -صلوات الله وتسليماته عليه، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين-، ففي هذا الشهر ولد صلى الله عليه وسلم، وفيه توفي، فلماذا يفرحون بميلاده ولا يحزنون لوفاته؟! فاتحاذ مولده موسماً، والاحتفال به بدعة منكرة، وضلالة لم يرد بها شرع ولا عقل، ولو كان في هذا خير فكيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضوان الله عليهم-، وسائر الصحابة والتابعين وتابعيهم، والأئمة وأتباعهم؟ لا شك أن ما أحدثه المتصوفون الأكالون البطالون أصحاب البدع، وتبع الناس بعضهم بعضاً فيه إلا من عصمه الله، ووفقه لفهم حقائق الإسلام، ثم أي فائدة تعود، وأي ثواب في هذه الأمور الباهظة، التي تعلق بها هذه التعاليق، وتنصب بها هذه السرادقات، وتضرب بها الصواريخ؟ وأي رضاً لله في اجتماع الرقاصين والرقاصات والطبالين والزمارين، واللصوص والنشالين، والحاوي والقرادتي، وأي خير في اجتماع ذوي العمائم الحمراء والخضراء والصفراء والسوداء، أهل الإلحاد في أسماء الله، والشخير والنخير والصفير بالغابة، والدق بالبازات والكاسات، والشهيق والنعيق بـ (أح أح يا ابن المرة، أم أم، أن أن، سابينها يا رسول الله، يا صاحب الفرح المدا آديا عم يا عم اللع اللع) كالقرود، ما فائدة هذا كله؟! فائدته سخرية الإفرنج بنا وبديننا، وأخذ صور هذه الجماعات لأهل أوروبا، فيفهمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم - حاشاه حاشاه- كان كذلك هو وأصحابه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم هو خراب ودمار، فوق ما فيه الناس من فقر وجوع وجهل وأمراض، فلماذا لا ننفق هذه الأموال الطائلة في تأسيس مصانع يعمل فيها الألوف من العاطلين؟ أو لماذا لا ننفق هذه النفقات الباهظة في إيجاد آلات حربية نقاوم بها أعداء الإسلام والأوطان؟ وكيف سكت العلماء على هذا البلاء والشر، بل وأقروه؟ ولماذا سكتت الحكومة الإسلامية على هذه المخازي وهذه النفقات التي ترفع البلاد إلى أعلى عليين؟ فإما أن يزيلوا هذا المنكر وإما وصمتهم بالجهالة. اهـ..

**وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في جواب على سؤال عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهل فعله أحد من أصحابه أو التابعين وغيرهم من السلف الصالح:

لا شك أن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المحدثة في الدين، بعد أن انتشر الجهل في العالم الإسلامي، وصار للتضليل والإضلال، والوهم والإيهام مجال عميت فيه البصائر، وقوي فيه سلطان التقليد الأعمى، وأصبح الناس في الغالب لا يرجعون إلى ما قام الدليل على مشروعيته، وإنما يرجعون إلى ما قاله فلان وارتضاه علان، فلم يكن لهذه البدعة المنكرة أثر يذكر لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لدى التابعين وتابعيهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} . وقال-عليه السلام- أيضاً-: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} . وفي رواية: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} . وإذا كان مقصدهم من الاحتفال بالمولد النبوي تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإحياء ذكره، فلا شك أن تعزيره وتوقيره يحصل بغير هذه الموالد المنكرة، وما يصاحبها من مفاسد وفواحش ومنكرات، قال الله تعالى: ((ورفعنا لك ذكرك)) [الشرح:4]. فذكره مرفوع في الأذان والإقامة، والخطب والصلوات، وفي التشهد والصلاة عليه في الدعاء وعند ذكره، فلقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي}.

وتعظيمه يحصل بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبد الله إلا بما شرع.

فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط، ولو كان هذه الاحتفالات خيراً محضاً، أو راجحاً لكان السلف الصالح -رضي الله عنهم- أحق بها منا، فإنهم كانوا أشد منا محبةً وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم على الخير أحرص، ولكن قد لا يتجاوز أمر أصحاب هذه الموالد ما ذكره بعض أهل العلم: من أن الناس إذا اعترتهم عوامل الضعف والتخاذل والوهن، راحوا يعظمون أئمتهم بالاحتفالات الدورية، دون ترسم مسالكهم المستقيمة؛ لأن تعظيمهم هذا لا مشقة فيه على النفس الضعيفة، ولا شك أن التعظيم الحقيقي هو طاعة المعظم، والنصح له، والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره، ويعتز بها دينه، إن كان رسولاً، وملكه إن كان ملكاً.

وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم للخلفاء الراشدين من بعده، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل، إلا أن تعظيمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين، لم يكن كتعظيم أهل هذه القرون المتأخرة، ممن ضاعت منهم طريقة السلف الصالح في الاهتداء والاقتداء، وسلكوا طريق الغواية والضلال في مظاهر التعظيم الأجوف، ولا ريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل تعظيم يناسبهم، إلا أنه ليس من تعظيمه أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص، أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به، كما أنه ليس من تعظيمه -عليه الصلاة والسلام- أن نصرف له شيئاً مما لا يصلح لغير الله من أنواع التعظيم والعبادة....

والخلاصة: أن الاحتفال بالمولد من البدع المنكرة، وقد كتبنا فيها رسالة مستقلة فيها مزيد تفصيل... والله ولي التوفيق. اهـ..

فمن خلال هذه الشواهد من آثار السلف الصالح، ومن على نهجهم، يتبين لنا أنهم اتفقوا على أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة محدثة،لم تؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه -رضوان الله عليهم-، ولا عن التابعين وتابعيهم ومن تبعهم من الأئمة الأعلام من سلفنا الصالح -رحمة الله عليهم-.

والبدعة مهما عمل الناس بها، ومهما مرت عليها الأزمنة والعصور، ومهما عمل بها أو رضي بها من يدعي العلم، لا يمكن أن تكون في يوم من الأيام سنة يؤجر على فعلها.

والذين يحتفلون بهذه الموالد قد آثروا أقوال علماء الغواية والجهالة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن استشهدوا بهما فهم يؤولون معانيهما على ما يوافق شهواتهم وهوى أنفسهم، ويدل على ذلك تعصبهم لأقوال مشايخهم الذي ضلوا وأضلوا، ولو كانوا يبحثون عن الحق، لسألوا أهل العلم واستفسروا منهم، وفحصوا الأدلة والبراهين، وإذا اتضح لهم الطريق المستقيم اتبعوه، ولكن المكابرة سلاح الجاهل يطعن به نفسه.

وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه: ((ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون)) [النور:47-52].

والقائل سبحانه وتعالى: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً. فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً. أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً. فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)) [النساء:60-65].

والقائل- أيضاً- في محكم كتابه: ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً)) [النساء:115].

وهل قام الذين يحتفلون بالموالد بكل تعاليم الإسلام كبيرها وصغيرها من الأركان والفروض والواجبات والسنن، حتى يبحثوا عن بدعة حسنة- كما يزعمون- رغبة في زيادة الأجر والثواب من الله؟! الله أكبر!!!

نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق إلى صراطه المستقيم، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم.

 

* * *