الرئيسة - الاحتفال بالمولد النبوي - الاحتفال بالمولد ( من كتاب الأعياد وأثرها على المسلمين )
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم

من كتاب الأعياد وأثرها على المسلمين

** للسحيمي **

 

وفيه المطالب التالية:

المطلب الأول: نشأته وأول من أحدثه.

المطلب الثاني: صور الاحتفال بالمولد.

المطلب الثالث: المنكرات التي تحصل في المولد.

المطلب الرابع: الشبه التي اعتمد عليها من قال بالاحتفال بالمولد وردها.

المطلب الخامس: دعوى أن ترك الاحتفال بالمولد ينافي محبة النبي صلى الله عليه وسلم.

المطلب السادس: في حكم الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.

* المطلب الأول *

- نشأته وأول من أحدثه في الإسلام -

 

أولاً: أصل المولد ونشأته:

من أعظم المواسم المبتدعة التي يحتفل بها كثير من المسلمين، الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، بل هو الأصل في تلك المواسم والاحتفالات الأخرى إلى تتخذ للأولياء والصالحين والآباء والأبناء، والموالد ظاهرة اجتماعية عرفتها المجتمعات منذ زمن بعيد، ولم يكن الاحتفال بالموالد مقتصراً على المسلمين، أو على مجتمع دون مجتمع، بل كانت ظاهرة الاحتفال بالموالد معروفة من زمن العصور المتقدمة والسابقة للإسلام، فكان الفراعنة واليونان يحتفلون بالآلهة ويجعلون عيداً لظهورها، وكذلك سائر الأديان الأولى.

ثم انتقل ذلك إلى المسيحية فكانوا يحتفلون بالموالد وأهم الموالد عند النصارى ميلاد المسيح عليه السلام، حيث يتخذونه عيداً فتعطل فيه الأعمال ويجعلونه يوم فرح وسرور، وذلك يإيقاد الشموع وصنع الطعام وارتكاب المحرمات وفعل المنكرات من شرب خمور وفعل فاحشة وغير ذلك من المهازل والقبائح.

ثم جاء بعض المنتسبين للإسلام فأخذوا يوم مولده صلى الله عليه وسلم عيداً مضاهاة للنصارى في اتخاذهم مولد المسيح عليه السلام عيداً، فضاهوا النصارى فيما يفعلونه في هذا اليوم فأصبح يوم فرح وسرور وعيد يتكرر كل عام بمراسمه الخاصة.

من هنا كان أصل الاحتفال بالمولد النبوي وفي ذلك يقول السخاوي: [إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيداً أكبر فأهل الإســلام أوْلى بالتكريم وأجدر].

فهذا نصٌ في المشابهة: وهو أن الاحتفال بالمولد النبوي أصله مأخوذ من النصارى ومن تشبه بقوم فهو منهم.

وهو تحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم: {لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعا بذراع حتى ولو دخلوا جحر ضب تبعتموهم} . فهذا هو أصل المولد ونشأته.

 

ثانياً: أول من أحدث المولد في الإسلام:

أجمع العلماء المنكرون لبدعة المولد والمؤيدون لها على أنه لم يحتفل وسط بمولده ولم يأمر بذلك، ولم يحتفل صحابته ولا التابعون لهم، ولا تابعوا التابعين الذين هم خير الناس وأحرص الناس على اتباع سنته صلى الله عليه وسلم، ومضت القرون الثلاث التي شهد لها صلى الله عليه وسلم بالأفضلية على تلك الحالة لم يحتفلوا بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يعرفوا ذلك.

فلما كان أواخر القرن الرابع الهجري وقامت الدولة الفاطمية في مصر ظهر الاحتفال بالمولد النبوي لأول مرة في تاريخ الإسلام.

كما نقل ذلك المقريزي في خططه حيث ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يحتفلون بها ويتخذونها أعياداً في طوال السنة يوسعون فيها على الرعية، ويعظمون فيها العطاء والهبات.

وهي تربو على عشرين موسماً وعيداً كما تقدم بيانها منها الموالد الستة التي ابتدعوها وأحدثوها وهي: مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم ومولد الخلفية الحاضر. وكانت لهذه الموالد رسوم خاصة يفعلها الخليفة ويحتفل بها الشعب. وقد نص على ذلك أيضاً القلقشندي وهو قول جماعة من المتأخرين.

وهناك قول آخر: وهو أن أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي هو صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري، كما نص على ذلك السيوطي.

وجاء عن أبي شامة قوله: إن من أحسن ما ابتدع في زمانه ما كان يفعل في مدينة إربل من الاحتفال بالمولد النبوي، وكان أول من فعل ذلك بالموصل، الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل.

وعلى هذا يكون إحداث المولد في القرن السادس، أو السابع الهجري.

وهذا القول مرجوح، فإحداث الملك المظفر للمولد في مدينة إربل لا ينافي هذا من أن أول من أحدثه في القاهرة الخلفاء الفاطميون من قبل ذلك، فإن الدولة الفاطمية قد انقضت بموت العاضد سنة (567هـ)، وما كانت الموالد تعرف في دولة الإسلام قبل ذلك.

وما ذكره أبو شامة من أنه اقتدى بفعل الشيخ عمر بن محمد الملا، وهو أول من أحدثه لا يمنع أن يكون عمل المولد تسرب إليه من الفاطميين، لاسيما وأنهم قد استولوا على الموصل سنة (347هـ) هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى فقد قيد أبو شامة تلك الأولوية بقوله: (أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر غالملا..).

وهذا يتبين للقارئ أن أول من ابتدع الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الموالد الدولة الفاطمية، كما نطقت بذلك كتب التاريخ والسير.

فعليهم تبعه ذلك، حيث جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها}.

وأخذ عنهم عمر الملا، وأول من أحدثه في إربل الملك المظفر في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع.

وسواء كان أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي الفاطميون في القرن الرابع، أو صاحب إربل في القرن السابع، فالبدعة في الدين مرفوضة ولا تقبل من أحد لا في عصور متقدمة ولا متأخرة فهي مردودة على صاحبها كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

* المطلب الثاني *

- صور الاحتفال بالمولد -

جرت عادة كثير من المسلمين بعد القرون المفضلة، أن تحتفل في شهر ربيع الأول في يوم الثاني عشر منه من كل عام بذكرى ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد اختلفت أساليبهم في الاحتفال؛ هذه الذكرى باختلاف البيتات والبلدان والغنى والفقر كل بحسب حاله لهذه تنوعت صور الاحتفال ولم تكن على نمط واحد. فمنهم من يعدون في هذه المناسبة طعاماً خاصاً تجتمع الأسرة من حوله في هذه الليلة- أعني ليلة الثاني عشر من ربيع الأول - فرحة مسرورة حول مائة واحدة.

ومنهم من يحتفل بأصناف من الحلوى ذات أشكال وصور مخصوصة يصنعها الباعة لتلك المناسبة تعرف بحلوى المولد، والتي تعرض في الأسواق في ذلك الوقت.

ومنهم من يجتمعون حول المنشدين ليسمعهم قصة المولد الشريف، وهذه هي الصفة السائدة في المجتمع الإسلامي اليوم، وصفة الاحتفال بذلك أن يكون عبارة عن اجتماع في أحد المساجد، أو الميادين المعدة لذلك، أو أحد بيوت الأغنياء، ويكون الاستعداد لذلك من بداية شهر ربيع الأول إلى اليوم الثاني عشر منه في كل عام، فيجتمع من أراد الحضور إلى هذا المكان، فيبدأ بقــراءة بعض آيات القرآن الكريم، التي جاء فيها ذكره صلى الله عليه وسلم.

ثم يتناولون قراءة جانب من سيرته صلى الله عليه وسلم وما لاقاه في بداية حياته صلى الله عليه وسلم، وبيان نسبه الشريف من خلال ما هو مدون في قصة المولد المعروف، والمشتملة على بعض الشمائل الطاهرة الخلقية منها والخُلقية، حتى إذا جاء ذكر مولده، قام الجميع إجلالاً وتعظيماً وترحيباً بمقدمه صلى الله عليه وسلم.

وفي ذلك يقول البرزنجي: (هذا وقد استحسن القيام عند ذكر مولده الشريف أئمة ذو رواية وروية، فطوبى لمن كان تعظيمه صلى الله عليه وسلم غاية مرامه ومرماه).

بل قد أوجب بعضهم القيام، وفي ذلك يقول المناوي في مولده ما نصه: (ويجب معشر الحاضرين والسامعين القيام عند ذكر مولده الشريف تعظيماً لقدوم ذاته البهية، فيا سعادة من وقف تعظيماً له على الأقدام).

مرددين بعض أبيات الترحيب لقدومه صلى الله عليه وسلم، كقوله القائل:

أشرقت أنوار محمد                  واختفت منها البدور

أو:

صلاة ربي ذي الجـــلال          على نور الهدى باهى الجمال

أو:

مرحباً يــا مرحباً يا مرحباً            مرحباً جد الحسين مرحبــا

يا نبى سلام عليك                   يا رسول سلام عليك

ثم بعد ذلك يواصلون قراءة قصة حياته صلى الله عليه وسلم، وعلى شكل مقاطع يتخللها قولهم:

مولاي صل وسلم دائماً أبداً         على حبيبك خير الخلق كلـهم

ويندب لقراءة هذه القصة شاب حسن الصوت، فيترنم بالمدائح والأشعار المشتملة على الغلو والإطراء كقصيدة البردة، أو غيرها من القصائد المشتمل بعضها على الشرك والعياذ بالله.

ثم بعد ذلك يتناول ما أعد لهذه المناسبة من طعام، وهم يعتقدون أنهم قد تقربوا إلى الله تعالى بأعظم قربة، ويتضح ذلك جلياً في دعاء ختم المولد، والذي يرددونه في نهاية هذه المناسبة راجين من الله قبول ذلك العمل، فمن هذا الدعاء قولهم: (اللهم إنا قد حضرنا قراءة ما تيسر من مولد نبيك الكريم فأفض اللهم علينا خلع القبول والتكريم، واسكنا بجواره في جنات النعيم..).

وجاء في دعاء ختم مولد الديبع: (واغفر اللهم بجاهه لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمعلمينا وذي الحقوق علينا ولمن أجرى هذا الخير في هذه الساعة).

بل قد نص الميرغني على قبول الدعاء فقال: (وأنه يستجاب الدعاء عند ذكر الولادة وعند الفراغ منه فنسأل الله الغفران).

وهذا الدعاء يختم الاحتفال بالمولد النبوي ويقوم بعض الأغنياء بتوزيع بعض الأموال على الفقراء الذين حضروا تلك المناسبة راجياً من الله مضاعفة أجر هذه الصدقة، ولاسيما أنها أتت عقب عمل صالح في زعمهم، ثم بعد ذلك ينقض ذلك الاجتماع.

فهذه الصورة هي أمثل صورة للاحتفال بالمولد عندهم وهي التي في زعمهم لم يكن فيها اختلاط ولا غناء ولا ضرب دف، والذين يفعلون مثل ذلك الاحتفال يزعمون أنهم ملتزمون ومحافظون على المشروع من الاحتفال وذلك لمنعهم إدخال الباطل والمنكر فيه، متناسين أبيات الشرك والغلو التي يرددونها كل حين. وحقا أن الهوى يعمي ويصم فالله المستعان.

ولا يقتصر الاحتفال بالمولد على إقامة حفلة في الثاني عشر من ربيع الأول فحسب بل إن هناك صوراً من الاحتفال بالمولد النبوي، وذلك من خلال عقد الندوات والمحاضرات التي تنشر في وسائل الإعلام المختلفة المسموعة منها والمرئية والمقروءة، فتفتتح تلك الندوات والمحاضرات بتلاوة آيات من الذكر الحكيم يحرص قارؤها على أن تتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)).

ثم يتناول أصحاب المحاضرة، أو الندوة سيرته صلى الله عليه وسلم وما لقيه في هذه الحياة، ويكون ذلك العمل ابتداءً من ربيع الأول من كل عام.

ومن العجيب والغريب أن المغنين والمغنيات والمطربين وأرباب الفجور يحتفلون بمولده صلى الله عليه وسلم فيحيون تلك الليلة بالغناء والسهر والطرب مختلطين في ذلك رجالاً ونساءً، مترنمين بابتهالات وأغان وأدعية شركية يواكبها ضرب دف وصوت مزمار وقرع أعواد، كل ذلك احتفالاً بمولده صلى الله عليه وسلم، زاعمين محبته، وينطبق عليهم دوله تعالى: ((الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)).

ومن استمع إلى إذاعات بعض الدول الإسلامية في ذلك الوقت أدرك حقيقة ما أشرت إليه.

ومن صور الاحتفال بالمولد اعتباره عيداً رسمياً تعطل فيه المصالح الحكومية عند بعض البلاد الإسلامية، كما تحتفل بعض الدول الإسلامية به رسمياً وتقيم لذلك موكباً خاصاً يتقدمه مسئول من الدولة حتى يصلوا إلى المكان المعد للاحتفال، وعادة ما يكون في أحد المساجد المشهورة، أو الميادين المعدة لذلك فتلقى الكلمات والقصائد والابتهالات التي يزعمون أنها دينية- هذه المناسبة كما يحضرها أرباب الطرق الصوفية.

ثم تمد سمائط الأكل والحلوى فيتناول الحاضرون ما لذ وطاب، ثم ينصرفون بعد ذلك.

وهذا الفعل هو نظير ما كان يفعله الفاطميون بالاحتفال بالمولد. وقد حكي ذلك أيضاً عن الملك المظفر في احتفاله ببعض الموالد أنه أعد سماطاً فيه خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة آلف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوي، وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع، ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار.

وكذلك الاحتفالات التي وقعت بعد ذلك فقد جرت على هذا المنوال من المبالغة والإسراف وصرف الأموال في غير طاعة الله عز وجل، فضلاً عما يحدث في هذه الاحتفالات من المنكرات التي يندي لها الجبين، وإليك نماذج منها لتقف على حقيقة الاحتفال بالمولد وإلى أي حد وصل أربابه ودعاته من البعد عن شرع الله عز وجل واتباع سنته صلى الله عليه وسلم.

* المطلب الثالث *

- المنكرات التي تحصل في المولد -

مع كون الاحتفال بالمولد بدعة، فإنها لا تخلو من المنكرات المحرمة، وهذا هو حال البدعة من حيث التمدد والتوسع فتتوالد وتعظم حتى تفسد العقيدة وتخرج صاحبها من الدين وهو لا يشعر بأنه عمل ذنباً بل يظن أن ذلك العمل فيه قربة وطاعة.

ومن أعظم المنكرات وأشنعها التي تقع في الاحتفال بالمولد النبوي الشرك بالله عز وجل الذي هو أعظم ذنب عصى به الله عز وجل.

فقد جاء في الحديث: {أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نـــدا وهو خلقك} .

وهو المنافي لكلمة التوحيد الموجب لسخط الله وعذابه قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)).

ولا يقبل الله سبحانه وتعالى من صاحبه لا صرفاً ولا عدلاً كما قال تعالى: ((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)).

كل ذلك يقع في المولد بسبب الغلو في سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من دعاته والاستغاثة به، وطلب المدد والعون، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وغير ذلك من أمور العبادة التي لا تصرف إلا لله جلّ وعلا، بل إن البعض جعل الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم مخالفين بذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين} .

ومعرضين عن قوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله} .

وإليك أيها القارئ نماذج من النشر والنظم الذي تُحيا به هذه الموالد ولا يخلو مولد منها حتى أصبح ذلك الفعل كأنه من السنن المأثورة التي يجب العمل بها، وتلاوتها في تلك الليلة التي يزعمون أنها توافق مولده صلى الله عليه وسلم.

فمن ذلك زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم الأصل في المخلوقات، وانه خلق من نــور الله ثم، خلق من هذا النور سائر المخلوقات. وقد أوردوا في ذلك حديثاً لا يصح عنه صلى الله عليه وسلم يروونه:

عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء، قال: {يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة، حيث شاء الله تعالى ولم يكن في ذلك الوقت لا لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء، ولا أرض ولا شمس ولا قمر...} .

قال المناوي في مولده: (وقد اشتمل اسمه الشريف على أربعة أحرف هجائية لكل حرف منها مزية ومقام، فالميم الأولى ما من نبي ولا رسول إلا خلق من نور طلعته البهية فهو أصل والكل منه فرع بلا شك، ولا إيهام..).

وقال في نظمه:

فالكل من نوره الرحمن أوجده                لولاه ما كانت الآفاق قد نظمت

وقال الميرغني: وأشهد أن سيدنا محمداً الذي من ميم اسمه امتدت ســائر العوالم الخلقية.

وهذا القول بيّن البطلان، والحديث الوارد في ذلك موضوع مكذوب لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليس هذا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لا صحيحاً ولا ضعيفاً، ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا يعرف عن الصحابة، بل هو كلام لا يدرى من قائله).

وقد سئل السيوطي عن هذا الحديث فأجاب بقوله: (ليس له إسناد يعتمد عليه). ويبطله قوله صلى الله عليه وسلم: {الناس بنو آدم وآدم من تراب} .

ودعوى أنه صلى الله عليه وسلم خلق من نور الله، فهذا كذب وبهتان يرده قوله تعالى: ((قُل إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مثلُكمْ)).

وهذا القول يشبه قول النصارى في المسيح عليه السلام وهو من الغلو والإطراء المذموم وفي ذلك يقول شيخ الإسلام عند الكلام على اعتقاد النصارى في المسيح ووجوده: (وظن النصارى يضاهى ظن طائفة من غــلاة المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم، الذين يقولونّ إن ذات النبي صلى الله عليه وسلم كانت موجودة قبل خلق آدم. ويقولونّ إنه خلق من نور رب العالمين ووجد قبل خلق آدم وأن الأشياء خلقت منه حتى قد يقولون في محمد صلى الله عليه وسلم جنس قول النصارى في المسيح، حتى قد يجعلون مدد العالم منه، ويروون في ذلك أحاديث كلها كذب..).

فهذا هو حال تلك الموالد وقصصها التي تقرأ في الاحتفال مبناها على مثل هذا الحديث الذي لا يصح عنه صلى الله عليه وسلم فضلاً عن ذلك الاعتقاد الباطل المأخوذ من عقيدة النصارى في المسيح بن مريم عليه السلام، وما أوردته هنا مثال على ذلك.

ومن ألهمه الله حسن البصيرة والعقل السليم أدرك أن مثل هذا الكلام لا يصح ولا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم، حيث إن بطلانه واضح بالعقل والنقل.

ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في نقده لمثل هذه الأحاديث الواردة في هذا الشأن: فهذه الأحاديث وأمثالها، مما هو كذب وفرية عند أهل العلم لاسيما إذا كانت معلومة البطلان بالعقل، بل مستحيلة في العقل ليس لأحد أن يرويها ويحدث بها إلا على وجه البيان لكونها كذباً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين}..

ومن الأشعار التي يتغنون بها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ويرددونها في هذه المناسبة، وقد غالوا فيه صلى الله عليه وسلم حتى أعطوه ما لله من الحقوق، ما جاء في بردة المديح للبوصيري. وهي من أشهر هذه الأشعار:

يا أكرم الحلق ما لي من ألوذ به               سواك عند حلول الحادث العمم

ولن يضيق رسول الله جاهك بي             إذا الكريم تجلى باسم منتقم

فإن من وجودك الدنيا وضرتها               ومن علومك علم اللوح والقلم

من تأمل هذه الأبيات أدرك ما انطوت عليه من الشرك بالله عز وجل المنافي للتوحيد والمحبط للعمل فمن ذلك:

1- أنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الحوادث إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو جل وعلا.

2- أنه دعاه وناداه بالتضرع، وإظهار الفاقة، والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله وذلك هو الشرك في الألوهية.

3- سؤاله منه أن يشفع له في قوله: (ولن يضيق رسول الله جاهك بي..) وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه وهو الجاه والشفاعة عند الله وهذا هو الشرك.

ولقد أعرض قائل هذه الأبيات ومن يتغنى بها: يا أكرم الخلق.. عن قوله تعالى: ((وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)).

فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يملك نفع أحد وَلا ضره، وإنما المالك للنفع والضر هو الله عز وجل.

وقد غلا غلواً مفرطاً بقوله: فإن من وجودك الدنيا وضرتها... وشاركه في هذا الغلو من يرددها، حيث أعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يملكه إلا الله خالق السماوات والأرض القائل: ((وَإِنَّ لَنَا لَلأَخِرَةَ وَالأُولَى)).

فهذا القول شرك وكفر صريح حيث جزم أن من جود النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة ولم يكتف بذلك حتى أضاف علم اللوح والقلم إليه صلى الله عليه وسلم، ذلك العلم الذي استأثره الله لنفسه.

وهذا الفعل خالف قوله صلى الله عليه وسلم فيما حكاه عنه الله عز وجل: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)).

وقوله تعالى: ((قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)).

وجاء في مولد المناوي:

والكائنات لأجل المصطفى خلقت دنيا وأخرى جميعاً من ملاحته هو أول الخلق سر العالمين به كذا جميع البرايا من بدايتـه لولاه ما أوجد الله الوجود ولا قد كان ما كان إلا من كرامته.

وقال أيضاً:

أنا العبد الذليل وأنت جاه أنا في العالمين سواك مالي أنا يا مصطفى كثرت ذنوبي وأرجو العفو في من مولى الموالي فكن بي شفيعاً يا مصطفانا وعوناً في المــهمات الثقال فمن لي ارتجيه لكشف ضري وغوثي في الشدائد والنوال وقال الميرغني: لوذوا به ثم قوموا صلى الله عليه

وجاء في الأنوار القدسية:

فيك قد أحسنت ظني يا بشير يا نذير فأغثني يا ملاذي في مهمات الأمور

وقد اكتفيت بتوضيح ما ورد في بعض أبيات البوصيري من الشرك والضلال وما سقته بعد ذلك من الأبيات فهي على نظيرها في الحكم، والله الهادي إلى الصواب.

فهذا الغلو وهذا الإطراء هو الذي وقعت فيه النصارى إلا أن هؤلاء لم يقولوا ثالث ثلاثة أو أن محمداً صلى الله عليه وسلم إله، ولكن صرفوا ما كان لله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم، فماذا تركوا لله جل وعلا.

فهذه هي عين دعوة النصارى في المسيح بن مريم عليه السلام، لكن اختلف الاسم ووافق المضمون، وتغيير المسميات لا يغير الحقائق. وهذا هو حال الشيطان لإيقاع بني آدم في براثن الشرك والكفر والعياذ بالله.

يوضح ذلك ما قاله البوصيري:

دع ما دعته النصارى في نبيهم        وأحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

أي: قل ما شئت من القول، ولا تقل: ثالث ثلاثة، أو أنه إله أو ابن إله، وفي ذلك يقول الشيخ سليمان بن عبد اللّه: عندما تناول بعض أبيات البرعى وهي على نظير تلك الأبيات ما نصه: وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم، إذ في الاسم نوع تمييز فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعنى دون الاسم أقرب إلى ترويج الباطل وقبوله عند ذوي العقول السخيفة، إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر، فلو أتاهم بدعوى النصارى اسماً ومعنى لردوه وأنكروه، فأخذ المعنى وأعطاه البرعي وأحزابه، وترك للنصارى وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب، فالله المستعان.

وما أوردته هنا ما هو إلا مثال لما يردد في الاحتفال بالمولد من أشعار ومدائح ولا يخلو مولد من ذلك ولاسيما قصيدة البردة، بل إن جل من يحضر المولد يحفظها عن ظهر قلب.

فلا أدري هل يجهلون معاني تلك الأبيات وما انطوت عليه من كفر وشرك وتنقص لله في ألوهيته وربوبيته، فبذلك يكونون جهله مقلدين لا يفقهون ما يقولون على حد قوله تعالى: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)).

أم إنه الهوى والإعراض عن السنة وحب البدعة والخرافة على حد قول الشاعر:

يقضى على المرء في أيام محنته          حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

ومن المنكرات الأخرى:

1- أحياؤه بالرقص والغناء الشركي الخليع، وبعرائس الحلوى المزينة وبعلب القمار وغير ذلك من الأعمال السيئة.

2- ومنها: انتهاك حرمة المساجد بتقديرها وكثرة اللغط فيها ودخول الأطفال حفاة أو بالنعال فلا يكاد يتيسر لأحد إقامة الشعائر في مسجد يعمل فيه مولد.

3- ومنها: خروج النساء متبرجات مع اختلاطهن بالرجال إلى حد لا يؤمن معه وقوع الفاحشة.

4- ومنها: استعمال الأغاني وآلات الطرب على الوجه المحرم بالإجماع وغير ذلك مما يفسد أخلاق الأمة ويبعث في نفوس الشبان روح العشق والميل إلى الفجور.

5- ومنها قراءة القرآن على غير الوجه المشروع فيرجعون فيه كترجيع الغناء غير مراعين فيه ما يجب له من الأدب.

6- ومنها: طلب الرياء بعمل هذا المولد والتنافس فيه، فترى الأغنياء يتنافسون في الليالي الى يحيونها بأسمائهم وكل يجتهد أن تكون ليلته أحسن الليالي.

فهذه بعض فالمنكرات التي تحصل في بدعة المولد وأصحاب الموالد يعرفون من المفاسد المترتبة على هذا الاحتفال أكثر مما ذكرنا، ولكن هذا هو حال البدعة، عندما تتشربها القلوب حتى تقضي على الدين فهي كالنار في الهشيم، وبهذا يصبح الاحتفال بالمولد مبدأة للفساد وجمع لكل رذيلة وسفاهة، وهذا الفعل لا يطرد في كل مولد، بل يختلف من بلد إلى بلد، ومن جماعة إلى أخرى على حسب قوة الدعاة إليه.

ولكن لا يخلو في الغالب احتفال من الاحتفالات بالمولد من وقوع الشرك والمعاصي فيه وذلك بسبب تلك المدائح والأشعار التي يرددونها، والأعمال التي يمارسونها.

 

* المطلب الرابع *

- الشبه التي اعتمد عليها من قال بالاحتفال بالمولد وردها -

لم تكن هناك أدلة صحيحة تشر إلى الاحتفال بالمولد النبوي وجوازه، ولكن من قال بالاحتفال به اعتمدوا على شبة ظنوا وزعموا أنها تشير وتدعو إلى الاحتفال هذه البدعة وانطلت على كثير من الناس لاسيما العوام منهم، وسنعرض أهم الشبه التي اعتمد عليها أولئك، ثم نبين بطلانها، وأنه لا دليل فيها على هذا العمل وذلك بعد عرضها على كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم وأقوال سلف هذه الأمة، وإليك بيان ذلك.

- الشبهة الأولى:

ما حكاه السيوطي عن ابن حجر أنه استخرج أصلاً فقال: قد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم ينقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك فقد اشتملت على محاسن وضدها. فمن تحرى في عملها المحاسن، وتجنب ضدها، كان بدعة حسنة، وإلا فلا. قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجا موسى، فنحن نصومه شكراً لله تعالى).

فيستفاد منه فعل الشكر لله تعالى على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادات كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو نبي الرحمة في ذلك اليوم.

وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه، حتى يطابق قصة موسى عليه السلام في يوم عاشوراء.

ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم في الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأيام عمله.

ويجاب على هذه الشبهة بما يلي:

أولاً: أن ابن حجر -رحمه الله- صرح في أول كلامه أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، وهذه الجملة من كلام ابن حجر كافية في ذم المولد، إذ لو كان خيراً لسبق إليه الصحابة والتابعون وأئمة الهدى من بعدهم فهم خير الناس وأولى الناس باتباعه صلى الله عليه وسلم فكيف يعزب عنهم ذلك؟!

ثانياً: أن تخريج ابن حجر عمل المولد على حديث صوم عاشوراء لا يمكن الجمع بينه وبين جزمه أول نلك الفتوى بأن ذلك العمل بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصاع من القرون الثلاثة، فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحاً؟ إذ لــو كان صحيحاً لم يعزب عن فهم السلف ويفهمه من بعدهم كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلاً عليه؛ إذ لو كان في ليلاً عليه لعمل به السلف الصالح.

فاستنباط ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي -مادام الأمر كذلك- من حديث صوم يوم عاشوراء، أو من نص آخر مخالف لما أجمع عليه السلف من ناحية العمل به وما خالف إجماعهم فهو خطأ؛ لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى. فهم أولى الناس وأحرص الناس على اتباعه صلى الله عليه وسلم والهدى فيما كانوا عليه.

ثالثاً: أن تخريج المولد على صيام يوم عاشوراء من التكلف المردود؛ لأن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين:

أحدهما: أن نعبد الله وحده ولا شريك له.

والثاني: أن نعبده بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا نعبده بالأهواء والبدع.

قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)).

فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب أو مستحب ولا يعبد الله بالأمور المبتدعة. فلا يسع المسلم إلا الاتباع.

رابعاً: أن صيام يوم عاشوراء قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ورغبه فيه، بخلاف اتخاذ يوم مولده عيداً، فإنه لم يفعله ولم يرغب فيه ولو كان في الاحتفال بالمولد واتخاذه عيداً أدنى شيء من الفضل لبيّنه صلى الله عليه وسلم لأمته، لأنه ما من خير إلا ودلهم عليه ورغبهم فيه، ولا شر إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه، والبدع من الشر الذي نهاهم عنها وحذرهم منها. فبهذا بتبين بطلان هذه الشبهة والتخريج المتكلف المردود.

- الشبهة الثانية:

قال السيوطي بعد ما نقل كلام ابن حجر وظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي، عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة).

مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله تعالى إياه، رحمة للعالمين، وتشريفاً لأمته كما كان يصلي على نفسه؛ لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده باجتماع الإخوان، وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات.

- الجواب على هذه الشبهة:

إن هذه الشبهة ساقطة ومردودة؛ وذلك لعدم ثبوت هذا الحديث. قال الإمام أحمد عنه: بأنه منكر. وقال النووي: حديث باطل. وقال ابن حجر: لا يثبت .

- الشبهة الثالثة:

ما نقله السيوطي عن الحافظ شمس الدين الجزري وأنه قال في كتابه المسمى (عرف التعريف بالمولد الشريف)، ما نصه: وقد رُؤى أبو لهب بعــد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمص من بين إصبعي هاتين ماء بقدر هذا، وأشار برأس إصبعه وإن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له.

فإذا كان أبو لهب الكافر، الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم.

ولعمري إنما يكون جزاؤه من المولى الكريم، أن يدخله بفضله جنات النعيم وفي ذلك يقول الحافظ شمس الدين بن ناصر الدمشقي. وقد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة سروراً بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشد:

إذا كان هذا كافراً جاء ذمه             وتبت يداه فى الجحيم مخلداً

أتى أنه يوم الاثنين دائماً                   يخفف عنه السرور بـأحمدا

فما الظن بالعيد الذي طول عمره             بأحمد مسروراً ومات موحداً ؟

- الجواب على هذه الشبهة من وجوه:

أولاً: أن الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به، كما جاء ذلك في الصحيح حيث قال: وثويبة مولاة لأبي لهب، وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشرحيبه. قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتــاقي ثويبة. وعلى تقدير أنه موصول، فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه.

ثانياً: أنه لم يصح أن ثويبة أعتقها أبو لهب عند ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان إعتاقها قبل الهجرة وذلك بعد الإرضاع بزمن طويل كما هو ثابت في كتب التاريخ والسير.

قال ابن سعد: بسنده (كانت ثويبة مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها وهي على ملك أبي لهب وسألته أن يبيعها لها فامتنع، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها أبو لهب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وبكسوة حتى جاء الخبر أنها ماتت سنة سبع مرجعه من خيبر).

ثالثاً: دلت النصوص الصريحة من كتاب الله عز وجل على أن أعمال الكفار حابطة كما قال تعالى: ((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)).

وقال تعالى: ((مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)).

وأبو لهب يدخل تحت هذه الآيات ضمناً فلا ينتفع بإعتاق ثويبة؛ لأن أعماله كلها حابطة.

رابعاً: أن نصوص القرآن دالة على أن العذاب لا يخفف عن الكفار.

قال تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)).

وأبو لهب ممن تنطبق عليه هذه الآية لشدة كفره وعداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأذيته له.

كيف لا وقد جاء النص الصريح بذلك كما في قوله تعالى:((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ)).

خامساً: أما أبيات الحافظ الدمشقي. فنحن ندعو للحافظ الدمشقي بالرحمة والمغفرة، ونؤكد معه قوله الصادق:

فما الظن بالعبد الذي طول عمره             بأحمد مسروراً ومات موحداً

فهو- رحمه الله- يرجو ثواب ربه، بسروره برسول صلى الله عليه وسلم، طول عمره لا أنه يرتجي ثواب سروره بالرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة بعد ثلاثمائة وأربع وخمسين ليلة! ثم إنه -رحمه الله- يربط رجاء الثواب بموته موحداً لله تعالى بما هو أهله وبما يستحقه من العبادة والتعظيم...

وهذا يتبين أنه لا دليل لهم هذه الشبهة، وأنه لم يثبت أن أبا لهب فرح بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا أنه أعتق ثويبة حال ولادته صلى الله عليه وسلم، بل كان من أشد الأعداء للرسول صلى الله عليه وسلم فتلك دعوى لا برهان عليها.

- الشبهة الرابعة:

أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظم يوم مولده، ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه، وتفضله عليه بالوجود لهذا الوجود، إذ سعد به كل موجود وكان يعبر عن ذلك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين. فقال: {فيه ولدت وفيه أنزل علىّ} .

وهذا معنى الاحتفال به، والمعنى موجود سواءً كان ذلك بصيام، أم إطعام طعام، أو اجتماع على ذكر، أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسماع شمائله الشريفة.

- الرد على هذه الشبهة من وجوه:

أولاً: أنه إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول ربه وهو الصوم، وعليه فلنصم كما صام غير أن أرباب الموالد لا يصومونه، لأن الصيام فيه مقاومة للنفس بحرمانها من لذة الطعام والشراب، وهم يريدون ذلك، فتعارض الغرضان، فاَثروا ما يحبون على ما بجب الله وهي زلة عند ذوي البصائر والنهي.

ويوضح ذلك أن بعض أرباب الموالد نص على كراهة صوم يوم الاثنين الموافق للثاني عشر من ربيع الأول بحجة أنه عيد من أعياد المسلمين.

وقد نقل ذلك الحطاب حيث قال: (قال الشيخ زروق: في شرح القرطبية صيام يوم المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صح علمه وورعه، وقال: إنه من أعياد المسلمين فينبغي أن لا يصام فيه).

وجاء في حاشية الدردير (تنبيه: ومن جملة الصيام المكروه كما قال بعضهم: صوم يوم المولد المحمدي إلحاقا له بالأعياد).

وهذا نص في مخالفته صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين ورغب فيه.

وأولئك تعمدوا مخالفته صلى الله عليه وسلم، ومن هنا يتبين بطلان دعوى محبته؛ إذ المحبة في المتابعة لا في الإدعاء.

ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إن صح أنه كذلك.

وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات أو أكثر، وبناءً على هذا فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون يوم الاثنين من كل أسبوع يعتبر استدراكاً على الشارع وتصحيحاً لعمله وما أقبــح هذا إن كان- والعياذ بالله-.

ثالثاً: أن صيام يوم الاثنين له خصوصية أخرى، إضافــة إلى ما ذكر في الحديث الذي استندوا إليه وذلك أنه يوم تعرض فيه الأعمال، كما تعرض في يوم الخميس، فندب النبي صلى الله عليه وسلم صومه.

كما جاء عن أبي هريرة الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم} .

فلم يكن الداعي إلى هذا الصوم لكونه يوم ولادته فحسب، بل لأجل أن الأعمال تعرض فيهما وأنه يوم أنزل عليه فيه.

رابعاً: هل النبي صلى الله عليه وسلم عندما صام يوم الاثنين أضاف إلى الصيام احتفالاً كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات ومدائح وأنغام وطعام وشراب؟ الجواب: لا وإنما اكتفى بالصيام فقط. إذاً ألا يكفى الأمة ما كفى نبيها صلى الله عليه وسلم ويسعها ما وسعه، وهل يقدر عاقل أن يقول: لا؟ إذاً فلِم الافتيات على الشارع والتقدم بالزيادة عليه والله يقول: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..)).

ويقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: { إياكم ومحدثات الأمور فان كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة} ..

خامساً: قولهم إن هذا في معنى الاحتفال به والمعنى موجود سواءً كان ذلك بصيام أم أطعام طعام.. الخ.

في هذا القول اتهام خطير لخير هذه الأمة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ورمي لهم بالتقصير، حيث لم يفهموا مقصوده صلى الله عليه وسلم من صيام هذا اليوم فلم يحتفلوا بهذه المناسبة.

وفي هذا يقول الشيخ ابن منيع في رده على المالكي: عندما استدل هذا الدليل -يقصد المالكي- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بصيامه يوم ولادته يوحى إلى أمته وفي طليعة الأمة أصحابه وتابعوهم بإقامة احتفال بمولده صلى الله عليه وسلم إلا أنهم من الغباء والجهل والبعد عن إدراك مقاصده صلى الله عليه وسلم بمكان حجب عنهم ذلك، حتى جاءت الرافضة والقرامطة والفاطميون ومن نحا نحوهم من أهل البدع والمحدثات، كالمالكي وأضرابه، فأدركوا بثاقب بصرهم ونفاذ بصيرتهم وقوة إيمانهم وشدة محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أدركوا مقصده صلى الله عليه وسلم بصيامه يوم الاثنين فدعوا إلى إقامة الاحتفال بالمولد.

حقاً إنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.. وبالتالي نقول: لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والستة الباقين من العشرة والحسن والحسين وأمهما فاطمة وأمهات المؤمنين أزواجه صلى الله عليه وسلم وغيرهم إنكم لم تقدروا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره كما قدره أولئك المحتفلون فلم تقيموا احتفالات حوليه بذكرى ولادته صلى الله عليه وسلم، كما يوحى بذلك على حد زعم المالكي وفهمه السقيم، حقاً إن الهوى يعمى ويصم.

فهذا هو حال من جانب الحق واتبع الهوى يقدح في مَنْ خالفه مِنْ سلف هذه الأمة وخيرها سواءً أراد بذلك أم لم يرد فالله المستعان والهادي إلى الصواب.

- الشبهة الخامسة:

أن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)).

فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الرحمة. قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))..

الجواب على ذلك: إن القول بذلك تعسف للأدلة بجعلها موافقة للهوى ومجانبة لما عليه هذه الأمة من كبار المفسرين وأئمة علم التفسير الذين نصــوا على أن المقصود بالفضل والرحمة المفروح بهما ما عنته الآية السابقة لهذه الآية: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)).

قال الطبري في تفسره لهذا الآية: يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((قل)) يا محمد لهؤلاء المكذبين بك وبما أنزل إليك من عند ربك. ((بفضل الله)). أيها الناس الذي تفضل به عليكم هو الإسلام. فبينه لكم ودعاكم إليه، ((وبرحمته)) التي رحمكم بها فأنزلها إليكم فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه فبصركم بها معا لم دينكم وذلك القرآن. ((فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)) يقول فإن الإسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وكنوزها.

وقال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: ((قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)).

قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: (فضله القرآن ورحمته الإسلام وعنهما أيضاً: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله). وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه: يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزل من القرآن العظيم على رسوله الكريم: ((يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم)) أي زاجرا عن الفواحش. ((وشفاء لما في الصدور)) أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس: ((وهدى ورحمة)) أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه.

كقوله تعالى: ((وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)).

وقوله تعالى: ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)). وقوله تعالى: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا))[يونس:58]^  أي هذا الذي جاءهم من الله من الهدى والدين الحق فليفرحوا فانه أولى بما يفرحون به. ((هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ))[يونس:58]  أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة.

وقال ابن القيم عند هذه الآية: وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته الإسلام والسنة.

وهذا تبين لطالب الحق أنه لا دليل بهذه الآية وهذا هو حال المبتدعة، فإنهم يتعسفون الأدلة لمجارات آرائهم وأهوائهم وإن خالفت ما هو مجمع عليه.

- الشبهة السادسة:

إن المولد الشريف يبعث على الصلاة والسلام المطلوبين بقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))..

- الجواب:

أولاً: إذا كان لا يذكر صلى الله عليه وسلم إلا في يوم ولادته فبئست هذا العقيدة وهذا جفاء في حقه صلى الله عليه وسلم فأين دعوى المحبة إذاً؟.

إذا كان لا يصلى عليه إلا في ليلة من ثلاثمائة وست وخمسين ليلة نعوذ بالله من الغفلة والصدود عن الحق.

ثانياً: الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستحب في كل وقت وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: {من صلى علىَّ واحدة صلى اللّه عليه عشراً}.

والصلاة والسلام مقترنة عند ذكره صلى الله عليه وسلم في كل وقت وفي كل مناسبة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ} .

وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الصلاة عليه في يوم الجمعة عيد الأسبوع فقال صلى الله عليه وسلم: {من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علىّ..} .

فهل يليق بالمسلم أن لا يصلى عليه وسط إلا في ليلة واحدة من ثلاثمائة وست وخمسين ليلة كلا بل هذا هو الهجران ولا يقول بذلك عاقل وفي ذلك يقول أبو بكر الجزائري:

كون المولد ذكرى.. إلخ هذه تصلح أن تكون علة لو كان المسلم لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كل يوم عشرات المرات، فتقام له ذكرى سنوية أو شهرية يتذكر فيها نبيه ليزداد بذلك إيمانه وحبه له. أما والمسلم لا يصلي صلاة من ليل أو نهار إلا ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل وقت صلاة ولا يقام لها إلا ويذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه، إن الذي تقام له ذكرى خشية النسيان هو من لا يذكر أما من يذكر ولا ينسى فكيف تقام ذكرى حتى لا ينسى، أليس هذه من تحصيل ما هو حاصل، وتحصيل الحاصل عبث ينزه عنه العقلاء.

- الشبهة السابعة:

إن المولد أمر يستحسنه العلماء والمسلمون في جميع البلاد وجرى به العمل في كل صقع فهو مطلوب شرعاً للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود الموقوف {ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن} ..

- والجـواب من وجوه:

1- إن ذلك القول دعوى يعوزها الدليل وهو قول مخالف للحق والصواب، ولقد أنكر ذلك الاحتفال أكابر علماء السلف وقالوا ببدعته وأنه مخالف لما جاء به صلى الله عليه وسلم وكل ما خالف شيئاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مكان له ولا اعتبار بل هو مردود بنص قوله صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} .

وقوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)). وقول تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)).

فلم يفعله الصحابة ولا تابعوهم ولا القرون المفضلة فكيف يكون أمراً مستحسنا؟!.

2- أن (أل) في كلمة المسلمون للعهد ويبين ذلك السياق حيث جاء فيه إن الله نظر في قلوب العباد فأختار محمداً فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء". وعليه فالمراد هذا الأثر إجماع الصحابة واتفاقهم.

ويؤيد ذلك: ما جاء عند الحاكم بزيادة، وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه. وفي هذه الجملة بيان للمراد فقد استدل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على استخلاف أبي بكر بإجماع الصحابة.

3- إن قيل: أن (أل) للاستغراق فيشمل كل المسلمين فيكون إجماعاً وأهل الإجماع هم أهل الاجتهاد والعلم.

وذلك أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فليزم عليه استحسان العوام وهو باطل بإجماع.

قال العز بن عبد السلام- عندما سئل عن ذلك-: (إن صح الحديث فالمراد بالمسلمين أهل الإجماع).

وعلى هذا فلا دليل لهم هذا الأثر ولاسيما أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أشد الصحابة إنكاراً للبدع وهجراً لأصحابها وهو القائل: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم).

فلما لم يجدوا دليلاً صحيحاً على ذلك الاحتفال جعلوه بدعة حسنة، فاضطرهم انتصارهم لهذه البدعة إلى تعسف الأدلة وجعلها في غير مواضعها حيث صرفوها عن معانيها الحقيقية مخالفين بذلك ما جاء عن سلف هذه الأمة، فمتى تحقق أنه بدعة حسبما شهدوا به على أنفسهم فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: {كل بدعة ضلالة} ، وهى نكرة مضافة تعم كل بدعة فليس في الشرع بدعة حسنة، بل إن البدعة تنافي السنة وتنافي الحسنة.

فلسنا في حاجة إلى مثل هذا الفعل الذي لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من القرون المفضلة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين هم خير الناس وأحرصهم على اتباعه صلى الله عليه وسلم.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومعلوم أن كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم المسلمون في دينهم فإنه يكون من البدع المنكرات، ولا يقول أحد في مثل هذا: إنه بدعة حسنه).

ومن قال بذلك فقد زعم أنه أتى في هذا الدين بخير مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يؤد رسالة ربه، وبهذا الزعم خالفوا نص كلام الله عز وجل، حيث قال: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)).

وكما قيل:

وكل خير في اتباع من سلف           وكل شر في ابتداع من خلف

فيا من تحتفلون بمولده صلى الله عليه وسلم ألا يسعكم ما وسع نبيكم وصحابته رضى الله عنهم، أما تتقون الله سبحانه وتعالى في ذلك القائل: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).

وإذا كنتم تحتفلون بيوم مولده صلى الله عليه وسلم فاليوم الذي ولد فيه هو بعينه الذي توفي فيه فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه.

فيتبين بغاية الوضوح والبيان أن المبتدعة أصحاب هوى، وربما كانوا أصحاب مصالح، فكل ما أوردوه من شبه زعموا دلالتها على بدعتهم إنما هي شبه واهية لا قرار لها ولا ثبات فهي بجانب الأدلة الشرعية الواضحة الصريحة سراب لا حقيقة له، وخيط عنكبوت لا قوة ولا صلابة فيه: ((وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)).

ومن فكر بعقل سليم باحثاً عن الحق والصواب استرشد إلى أن هذا الفعل بدعة منكرة، ومن كان تابعاً للهوى، ودعاة الضلالة معانداً فلا تزيده الأدلة ووضوحها إلا عناداً واستكباراً عن الحق، والعياذ بالله. ((ومن يضلل الله فما له من هاد)).

* المطلب الخامس *

- دعوى أن ترك الاحتفال بالمولد ينافي محبة النبي صلى الله عليه وسلم -

يصف بعض دعاة الاحتفال بالمولد من ينكره ولا يحتفل به، بأنه لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يبغضه ولو كان محباً له لاحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم.

ويجاب على ذلك بأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست أهازيج تردد، ولا قصائد تنشد، ولا دعاوي تدعى.

والدعاوي ما لم يقيموا عليها             بينات فأهلها أدعياء

إن حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم اتباع أمره واجتناب فيه، والسير على نهجه، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

ولا تتحقق المحبة إلا بذلك قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).

فقد جعل سبحانه وتعالى الاتباع والانقياد دليل نلك المحبة وبه يعرف الصادق من المدعي.

وفي ذلك يقول ابن كثير: هذه الاَية حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله..

قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم بهذه الآية.

وقال ابن القيم في قوله تعالى: ((يحببكم الله)) إشــارة إلى دليل المحبة وثمرتها، وفائدتها فدليلها وعلامتها، اتباع الرسول.

وفائدتها وثمرتها: محبة المرسل لكم، فما لم تحصل المتابعة فليست محبتكم له حاصلة، ومحبته لكم منتفية.

فلا تحصل المحبة إذاً إلا بالإتباع والتمسك بسنته صلى الله عليه وسلم أما أن يدعى الشخص محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخالف أمره في النهي عن الأحداث في الدين معلناً تلك فالمحب بدقات الطبول ونغمات المنشدين وتأوهات أصحاب الوجد التائهين الضالين، وبألوان المأكل والمطاعم فهذه دعوى كاذبة إذا الضدان لا يجتمعان، وكما قيل:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه     هذا محال في القياس بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته      إن المحب لمن يحب مطيع

فالمحبة لابد أن يوافق محبوبة فعلامة المحبة هي الطاعة وليست المحبة ذكرى عابرة تردد في مناسبات محدودة، أو ذكرى في شعر ينشد وقيام وقعود وقصة تتلى منغمة، إن ذلك الفعل فيه مشاقة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة ظاهرة لما جاء به صلى الله عليه وسلم.

فالاتباع هو الميزان الذي يعرف به من أحب حقيقة ومن أدعى ولا ريب أنه يجب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والمال والولد والناس أجمعين، حيث جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين} .

وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك}  فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال صلى الله عليه وسلم: {الآن عمر} .

ولكن هذه المحبة يجب أن تكون ضمن ما حدده الشارع، بعيداً عن الغلو والإفراط والتفريط فقد قال صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله} .

وعلامة كون الإنسان محباً للرسول صلى الله عليه وسلم هي اتباع سنته صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه ظاهراً وباطناً والوقوف على ذلك، وكلما قل الاتباع نقصت تلك المحبة، فبكمال الاتباع تكمل المحبة والعكس كذلك.

فيا ترى من الصادق في تلك المحبة من أطاع وامتثل، أم من أحدث وابتداع في ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلا يكون محباً لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية، وكثير ممن يدعى المحبة يخرج عن شريعته وسنته صلى الله عليه وسلم). وهذا كثير فيمن يحتفلون بتلك المواسم بدعوى محبته صلى الله عليه وسلم.

وهذا يتضح لمن أراد الحق أن حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم تكمن في امتثال أمره واجتناب فيه والمحافظة على طاعته والتمسك بسنته ومن خالف ذلك فقد ضل في معرفة تلك المحبة، وما يفعله أرباب الموالد والمواسم المحدثة فهو من هذا القبيل حيث ظنوا أن محبته صلى الله عليه وسلم تتمثل في إقامة الحفلات والذكريات والتي قوامها تحسين.- المآكل والمشارب وإنشاد القصائد والطرب والتمايل، فأضافوا إلى الأحداث في الدين ارتكاب المحرمات والمنكرات.

وهذا هو حال من أعرض عن سنته صلى الله عليه وسلم، حيث تتجاذبه الآهواء ويقع في الفتن ومزالق الشيطان. نسأل الله أن يرزقنا المحبة الصادقة له ولنبيه صلى الله عليه وسلم وأن يوفقنا لاتباع سنته والسير على نهجه وأن يحفظنا من الخطأ والزلل في القول والاعتقاد والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه.


* المطلب السادس *

- حكم الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم -

كما هو معلوم أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة أحدثها المتأخرون، ليس لها أصل في دين الله ولا في شرع رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس على إقامة الحفلات بمناسبة المولد دليل من كتاب ولا سنة، ولم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بها ولا وصّى بها المسلمين، ولم يفعلها خلفاؤه الراشدون الذين هم خير الناس بعد الأنبياء، وأفضل هذه الأمة بعد نبيها، وهم أهل السبق والمبادرة إلى الخيرات بفعل المأمورات وترك المنهيات، ولو كان الاحتفال بالمولد سُنة أو أمراً مستحباً لسبقونا إليه ولأظهروه للناس، وأحيوه كما أحيوا السنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.

ولما لم يرد شيء من ذلك، حيث لم يأمر به صلى الله عليه وسلم ولا فعله أصحابه ولا أحد من أهل البيت، ولا من سلف هذه الأمة الذين يعتد بهم كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وبقية أئمة السلف دل على أن فعله بدعة محدثة منكرة، مردودة على أصحابها؛ لأن كل بدعة ضلالة.

وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة الواردة في النهي عن البدع والإحداث في الدين، وإليك بيان ذلك.

- أولاً: من الكتاب: قوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)).

وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير: (أي مهماً أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهى عن شر).

وقال البغوي: (هو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه).

ولم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أمته باتخاذ ليلة المولد عيداً فكان العمل بها بدعة، وهو من قبيل المحدثات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ويبالغ في التحذير منها، وعلى هذا ففي الاَية الكريمة أوضح دليل على المنع من اتخاذ ليلة المولد النبوي عيداً.

2- وقوله تعالى: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).

قال ابن كثر: [أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، وطريقته، وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان..].

3- قوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)).

وهذا الاحتفال يعد استدراكاً على الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم ، وهذا يتبين بطلانه وخطورته على الدين.

4- قوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)).

فهم القدوة والأسوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحتفلوا بمولده صلى الله عليه وسلم ولو كان خيراً لسبقوا إليه.

وغير ذلك من عموم الآيات الواردة في النهي عن الإحداث والابتداع في الدين والحث على التزام ما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

- ثانياً: من السنة:

1- حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الذي جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة} .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ليس منه فهو رد} .

فالاحتفال بالمولد محدث مبتدع فهو مردود، ولاسيما أن أربابه والدعاة إليه يجعلونه قربة يتقربون بها إلى الله عز وجل، وهذا الاعتقاد باطل بنص قوله صلى الله عليه وسلم.

والأدلة في هذا الشأن كثيرة، وما ورد فيه الكفاية لمن طلب الحق وبحث عنه.

- ثالثاً: من أقوال السلف:

قال الشاطبي عند عده للبدع التي تضاهي الشرعية: ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر هيئة الاجتماع على صوت واحد واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، وما أشبه ذلك.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالٍ شهر ربيع الأول التي يقال أنها ليلة المولد.. فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها.

وقال الفكهاني عند ما سئل عن الاحتفال بالمولد: لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله من أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة، أحدثها البطَّالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون. وقد نص على بدعية المولد بجميع صوره.

فالمولد إذا بدعة منكرة سواءً احتوى على محرمات من سماع، أو رقص وغيره، أو اقتصر على الاجتماع وإطعام الطعام، والمعروف أن البدعة تزيد ولا تنقص.

قال ابن الحاج بعد ما ذكر أن من جملة البدع المحدثة المولد وانه احتوى على بدع ومحرمات: فانظر- رحمنا اللّه وإياك- إلى مخالفة السنة ما أشنعها وما أقبحها وكيف تجر إلى المحرمات، ألا ترى أنهم لما خالفوا السنة المطهرة، وفعلوا المولد لم يقتصروا على فعله، بل زادوا عليه من المحرمات والأباطيل المتعددة.

وقد نص على بدعيته جماعة من العلماء المحدثين منهم والمتقدمين، ولعل من المناسب أن أختم كلام العلماء في هذه البدعة بفتوى الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- في هذا الشأن والذي جاء فيها بعد نصه على عدم جوازه، وأنه من البدع المحدثة في الدين قوله: وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه وتعالى لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم}^ .

ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً ونصحاً، فلو كان الاحتفال بالمولد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، وفعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منــها أمته، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم.

فمما تقدم من الأدلة وأقوال العلماء يتضح لطالب الحق بدعية هذا الاحتفال وأنه لا أصل له في دين الله وهو مخالف لما جاء به صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.

والذي ينبغي للمسلم العاقل أن لا يغتر بكثرة المؤيدين لهذا الاحتفال؛ لأن الله سبحانه تعبدنا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بالاتباع ونهانا عن الابتداع والإحداث في الدين.

وما هذا الاحتفال إلا بدعة في الدين لم يعرفها سلف هذه الأمة، بل نشأت بعد القرون المفضلة، وانصراف كثير من الناس في هذا الزمان إلى مثل هذا الاحتفال ليس دليلاً على جواز أو استحسانه، بل الحق ما كان موافقاً لما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإن قل أتباعه والباطل ما خالفه وإن كثير أعوانه.

قال تعالى: ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)).

ولقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان والعمل الصالح بأنهم قليل، فقال جل من قائل: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)) كما أخبر جل وعلا أن كثيراً من الناس ينتحلون صفة الإيمان وهم في الحقيقة مشركون. قال تعالى: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)).

وقال تعالى: ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)).

وما وجد من أهل العلم نسب إليه القول بالاحتفال بالمولد النبوي واستحسانه كابن حجر والسيوطي والسخاوي وغيرهم من العلماء الذين لهم باع في أصول العلم الشرعي وفروعه.

فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه عن المواسم المبتدعة من الموالد وغيرها: (وإذا فعلها قوم ذوي فضل فقد تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهيتها، وأنكرها قوم كذلك، وهؤلاء التاركون والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعلوها فليس دونهم في الفضل فتكون حينئذٍ قد تنازع فيها أو لو الأمر فترد إذن إلى الله والرسول، وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها لا مع من رخص فيها، ثم إن عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء التاركين المنكرين).

ومن ناحية أخرى فلعلها تكون زلة عالم، والحق يعرف بالدليل لا يعرف بالرجال وكثرة المؤيدين وفي ذلك قال الإمام مالك: (ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك).

والإنسان في مراحل علمه المختلفة تعتريه بعض الشبه في مسائل من العلم تجعله يخالف بسببها الحق، وحسب العالم في ذلك صدقه وتحريه الحق والبحث عنه، ولعله قد ظهر لمثل هؤلاء العلماء الحق فيما خالفوا فيه الدليل فرجعوا عن القول الباطل ولم نقف نحن عليه.

والبدعة مهما عمل بها من عمل ومهما قال بها من قال، ومهما بقيت من زمن فلا تكون سنة في يوم من الأيام بل هي بدعة مذمومة حتى تزول.

وفي ذلك يقول الحكمي: (اعلم أن البدع كلها مردودة ليس فيها شيء مقبولا، وكلها قبيحة ليس فيها حسن، وكلها ضلال ليس فيها هدى، وكلها أوزار ليس فيها أجر، وكلها باطل ليس فيها حق).

وما بدعة المولد إلا إحدى البدع المتباينة التي عمت وطمت والتي أحدثها أعداء الإسلام من الفاطميين الحاقدين، وأرباب التصوف الجهال المارقين، فلـم يعرفها سلف هذه الأمة، وخيرها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ثم تسللت وانتشرت حتى عمت كثيراً من المسلمين فقلّد بعضهم بعضاَ في تلك البدعة، وكما قيل: (الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض).

ولاسيما في هذا العصر، حتى أصبح ذلك العمل شعاراً يدل على المحبة لسيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم في زعمهم، ولم يكن ذلك الفعل مقتصراً على الجهلة والعوام، ومن لا يعرف الدليل ولا يفقهه بل إن بعضاً ممن ينتسبون إلى العلم أصبحوا دعاة سوء وضلال إلى مثل هذا الاحتفال، معرضين عن كتاب الله وسنة نبيه وأقوال سلف هذه الأمة، باحثين عن إشباع رغباتهم وشهواتهم بالأكل والشرب والهوى واللعب، الذي يحصل لهم في ذلك الاجتماع فلا حول ولا قوة إلا بالله: ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)).

وأخيراً فخلاصة القول في الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أنه باطل وبدعة منكرة لما:

1- أنه بدعة في الدين محدثة، وكل بدعة ضلالة، ولن يستطيع الذين يرون إقامته أن يقيموا عليه دليلاً من الشرع.

2- أنه مشابهة للنصارى في احتفالهم بمولد المسيح بن مريم عليه السلام، وقد نهينا عن التشبه بهم، ومن الغريب أن احتفال النصارى بمولد عيسى عليه السلام، بدعة ابتدعها النصارى أيضاً فأصبح الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم بدعة مركبة.

3- ما يقع فيه من المنكرات والمحرمات والتي أعظمها الشرك بالله جل وعلا والتي لا يخلو منها مولد من الموالد.

ومن المعلوم أن البدعة لا تقف عند حد معين بل تزيد وتتوسع وذلك أن الاحتفال بالمولد النبوي أصبح أصلاً في ابتداع موالد أخرى للأولياء والصالحين والآباء والأبناء.

وذلك اتباعاً لأول من أحدث المولد النبوي، وهم الفاطميون، حيث أحدثوا معه موالد أخرى لآل البيت كفاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم، بل وللحاكم الحاضر أيضاً.

ومن أطلع على حال العالم الإسلامي اليوم أدرك ذلك، بحيث لا يكاد يمر أسبوع واحد دون اجتماع بعض الناس حول ولي من الأولياء فيهرع البعض منهم من الأقاليم النائية لحضور مولد ذلك الولي، وغالباً ما يكون هذا الاحتفال عند قبره، بل توسعوا في ذلك حتى امتدت إلى الاحتفال بمولد كل عظيم في نظر العامة وإن كان من الملحدين بحجة أنه ولي من الأولياء، ولا يقتصر هذا الفعل على بلد دون بلد، بل كل بلد من البلدان، أو إقليم من الأقاليم له أولياؤه الذين يحتفل بهم.

ولم يكتفوا بهذا الحد، بل سرى ذلك إلى الاحتفال بمولد الآباء والأبناء والأحفاد وأفراد الأسرة فأصبح أرباب هذه الموالد كل يوم في عيد. فضلاً عن المواسم المبتدعة الأخرى.

وعلى هذا فبدعة الاحتفال بالمولد النبوي هي بداية سلسلة متصلة لموالد أخرى ابتداءً من الولي وصاحب الطريقة، وانتهاءً بالاحتفال بمولد الولد والحفيد وسنأتي على بيان بعض تلك الاحتفالات في الأعياد المكانية ليقف القارئ على حقيقة تلك البدعة وما آلت إليه.

 

والله المستعان...