والصلاة نور... د. فريد الأنصاري

والصلاة نور... د. فريد الأنصاري






"والصلاة نور"
[1]
كانت كلمات الإقامة إشعارًا ثانيًا – بعد الأذان – بضرورة نفض كل ما بقى من علائق التراب، قبل الإذن للأجنحة أن تقلع في طريقها إلى مقام المحبة:
قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة!
وترتفع الأيدي المحجلة تجاه القبلة في تكبيرة الإحرام، لتفريغ البال من جميع الأحوال، إلا حال الفقر المرفوق بالشوق إلى الغنى الحميد، ثم تتأدب بالتزام الصدر في وقفة العبد بين يدي الملك العظيم، تأسيًا بجمال الامتثال في قيام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان في وقوفه بباب الله "يضع اليمني على ظهر كفه اليسري والرسغ والساعد"[2] و"كان يضعها على الصدر"[3]، ثم تشرق التجليات.
والقبلة جامعة لشتات القلب والبصر، وإنقاذ للعبد السالك من مقام الحيرة إلى حدائق الطمأنينة {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وكيف لا يحتار هذا الفكر الجزئي البسيط، القابع في مدار كوكب ضئيل، يدب في بحر لجي من الكواكب والمجرات، وتيه من العوالم والمخلوقات، مما يستعصي حتى على مجرد التصور الشامل والاستحضار الكلي؛ فكيف إذن لا يحتار هذا الفكر المحدود المنحصر، وهو بصدد الاتصال، وعلى أعتاب المناجاة، مع رب هذه العوالم، المحيط بجميع هذه المخلوقات؟!

فلتكن القبلة إذن قنديلًا آخر، في طريق التعبد يجمع المصلين في العالم أجمع، حول قلب واحد، ينبض بتوحيد الله ذي الجلال، ويبعث من مكة المكرمة أنوارًا، تتلقاها أفئدة العابدين في كل مكان أن هلموا، هذا بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس، فتحج الأرواح من محاريبها خمس مرات في اليوم.
ألا ما أجمل سعف النخيل وهو يلمع خضرته الزاهية، بعد رذاذ مطر خفيف، وما أبهى جماله؛ إذ يستجيب لنسيم لطيف؛ فيميل موليًا وجهه شطر المسجد الحرام.

كل شيء يتلاشى الساعة خلفك، فلا فكر يقدر أن يتخلف لحظة عن مقام النور المتجلي لبصائر المخبتين الخشع، كانت المشكاة ترسل نورها الدري، وكانت القلوب تتوق إلى التعلق بأستار الكعبة، ثم تتجلى عظمة الله للخوافق؛ فترتعش الأجنحة خوفًا ورجاء، ثم يأذن الإمام بتكبيرة الإحرام، معلنًا بذلك قطيعة مع عالم الرغام والأوهام.

الله أكبر...
كان سيف النور قد قطع الزمان نصفين؛ الأول إلى خلف فما زال راكضًا في تغيره يذوب فناء؛ بذوبان الأشكال والألوان المتهاوية تترى، في عالم الأوراق السافرة بين ربيع وخريف، لا برعوم يورق مرتين؛ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن: 26، 27].

والثاني إلى أمام، ما يزال متوجهًا إلى مقام البقاء، فالنور المتجلي على الغرر البهية، مستمد من معين لا ينضب!! والعبادة لحظة تستمد خلودها من مناجاة الحي الذي لا يموت. فتفنى الذوات عند آجالها، وتبقى لحظات الصلاة حرمًا آمنًا لا يناله أثر الزمان. ليرسم نعيمًا سرمديًا بقناديل تستمد زيتها الوضاء من مشكاة الله.. ويتخطف السعي العابث من حوله، فإذا هو محض سراب.
كان الوارد نورًا يهمي من أعلى، فينفتح القلب بكلمات من نور آخر، فإذا اللحظة مناجاة بين الخالق والمخلوقات.
...............

أنت الآن أمام جلال الله، تقدم إيمانك إخباتًا بين يديه تعالى والقلب مفتوح الأبواب، فلا شيء به يبقى مستورًا، وقد تنتابك أدخنة الطين رياء ونفاقًا، ما بين الذرة وأقل، فتفر إلى ربك مذعورًا، وتناجيه حزينًا أن أبرئني يا سيد هذي الأوراد مني.
  • أو لست تصلي؟... و"إن أحدكم إذا صلى يناجي ربه"[4].
عجبًا! فأي قوة ما زالت تصمد في ساقيك، فتمتثل وقوفًا أمام عظمة الواحد القهار.. والجبل قد اندك وراءك من خشية الله؟!

أن تصلي: يعني أنك تقابل ربك غصنا منفوض الأوراق! فأنت كما أنت، لا تخفى منك خفقة قلب واحدة؛ صفت أم خالط دمعتها ريح الحمأ المسنون؛ و"إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله قبل وجهه"[5]، والله قبل ذلك وبعده {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ[غافر: 19]، فكيف يمكن لهذا البصر أن يمتد قيد أنملة نحو السماء، والرب بجلاله قبله؟ إذن؛ تندك ضلوعه، فيخر القلب صعقًا، ولا يبصر شيئًا بعدها أبدًا، كان التحذير النبوي حريصًا على أمر المحبين بالتزام آداب المحبة؛ حتى لا تستحيل حديقة النور إلى ظلام دامس، قال عليه الصلاة والسلام: "لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة؛ أو لا ترجع إليهم"[6]، وأما التفات عن يمين، أو شمال؛ فهو "اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد"[7]، وأنى لعبد في مقام الخشوع، أن ينصرف عن مشاهدة الجمال بقلب ملؤه التقوى والورع؟ وأنى لعبد في مقام الخضوع، أن ينصرف عن تذوق كؤوس الترتيل، الطافحة بشهود الفلاح؟ كيف و{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[المؤمنون: 1، 2].





يا لآيات البهاء. تنطلق كلماتها من ألسنة رطبة بذكر الله، مصطفة مثلما تصف الملائكة عند ربها.

"وكيف تصف الملائكة عند ربها؟
قال: يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف".
ألا صلى الله عليك يا رسول الله أصف في الأرض، وصف في السماء؟ والصلاة جامعة؟ هكذا إذن تخف الأجنحة المثقلة بأحزانها، وتنطلق الأسراب محلقة، لمزاحمة الملائكة في مدار النور، عند أعتاب ملك الكون الظاهر والباطن.
ألا ما أشقى ذلك الجمل الشارد في صحراء الظلمات، لا يفتأ يلهث راكضًا خلف سراب مال متسخ، حتى يتسخ وبره، وتنتن رائحته، فيرين على قلبه ما يحجب رؤيته لجدول الصلاة الرقراق، وراء رمال العصيان، فيموت يلهث عطشًا دون ظل المورد العذب، وما بين استحالة الموت ميلادًا إلا أن يركع لمالك خزائن القطر، فإذا القفر حواليه حدائق ذات بهجة، ترشح غصونها بأنداء الطهور، نورًا يصفيه من جميع الأدران.

كان البهاء يحيط الحبيب المصطفى، وهو في هالة صافية من أصحابه إذ قال:
"أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات: هل يبقى من درنه شيء؟
قالوا: لا يبقى من درنه شيء.
قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا"[8].
ويوقد الحبيب قنديلًا آخر فيقول:
"ما أدري أحدثكم بشيء أم أسكت؟"
فقلنا: يا رسول الهل إن كان خيرًا فحدثنا، وإن كان غير ذلك، فالله ورسوله أعلم.
قال: "ما من مسلم يتطهر، فيتم الطهور الذي كتب الله عليه، فيصلي هذه الصلوات الخمس؛ إلا كانت كفارات لما بينها"، وفي ومضة قنديل آخر: "وذلك الدهر كله".

هذا المسرى الربيعي إلى الله، رغبًا في ينابيع الرحمة والمغفرة، تتعانق الصلوات فيه، أقواسًا من الدوالي المورقة، حيث تتشكل العناقيد قناديل خضراء، ترسم خطوات النرو الهادي إلى الرحمن، فتختزل العدد والزمان، إذ بكل خطوة عشر خطوات في طريق الله، فقد فرض الله على نبيه صلى الله عليه وسلم – في السماء السابعة، وبغير واسطة الملاك جبريل عليه السلام – خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم خففها سبحانه، اختزالًا في خمس، ثم قال في الحديث القدسي: "يا محمد، إنهن خمس صولات كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة".

أي فريضة هذه التي هي فضل كلها؛ ورحمة كلها، ونور كلها، وجمال كلها؟.. وإن عبادة فرضت في السماء، بغير واسطة الملاك؛ لحرية بالارتقاء صعدًا بعشاقها إلى مقامات السماء.

فاصطبري يا أبدان على إدامة التطهر بنهر النور؛ فإن غصنا ينبت في جوار الغدير لا يجف أبدًا، إن لم ينل من فيضه؛ نال من نسيمه ونداه، والأمل يسري نضرة وجمالًا في قده المياد ركوعًا.

فاصطبري يا أبدان على إدامة التطهر بنهر النور غصنا ينبت في جوار الغدير لا يجف أبدًا؛ إن لم ينل من فيضه؛ نال من نسيمه ونداه؛ والأمل يسري نضرة وجمالًا في قده المياد ركوعًا.

ولإبليس كرات في الفترات، يزيدها خرقًا واتساعًا، فلا (الإرادة)، ولا (التوبة) العابرة؛ يكفي مقامها لاقتحام المفازات بهذا الغصن الندي، حتى يصل إلى (مقام المحبة)، وهو
ما يزال يحتفظ بطراوته ونداه، وللطريق مكاره لا يطفئ لهيبها الشيطاني إلا أمطار الصبر؛ ذلك مقام أولي العزم من الرسل والصالحين.

فانثر يا صاح فؤادك غيثًا من مزن الصبر، تنبت فتراتك جنات ذات أنس وظلال، فتزيدك حبًا وخشوعًا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].

ثم وسع دائرة النور حواليك؛ حتى تضمن ابتعاد الظلام: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] فالاصطبار رشح من أنداء شجرة الفقر الدائم إلى الله، ترفع أفنانها دومًا إلى السماء، ترجو نوالًا من فيض الرحمن الواسع الكريم، فذلك مغتسل الأوابين؛ {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ[ص: 41، 42].

كؤوس الرحمة، ونور التأييد، وفواكه الرضى، وجلابيب القبول، ومقامات النصر؛ كلها... كلها من ظلال الاصطبار على مدافعة مكاره الشيطان. فما فتيء أيوب علهي السلام يفتتح أقواس الصلاة صابرًا، أوابًا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44].

الهوامش:
[1] رواه مسلم، رقم (223).
[2] رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة بسند صحيح، (79).
[3] رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه، (79).
[4] رواه البخاري، رقم: (531).
[5] رواه البخاري، رقم: (406).
[6] رواه مسلم، رقم: (428).
[7] رواه البخاري، رقم: (751).
[8] رواه مسلم، رقم: (668).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
والصلاة نور... د. فريد الأنصاري doc
والصلاة نور... د. فريد الأنصاري doc

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى