{وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} .. د. فريد الأنصاري

{وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} .. د. فريد الأنصاري




إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛..
كانت أمواج النور القرآنية، تمضي بسفينتك تجاه ساحل الوارد الفياض، حيث توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وصفاته؛ يملأ القلب تنزيهًا لذاته، فيشتعل الشوق بأشرعتك الخفاقة في الآفاق صعدًا إلى مقام التعظيم.

عودك الساعة يكاد يذوب فناء، من وهج عوالم النور، كلما ولجت قوسًا رأيت في عالمه من صنع الله وتدبيره، ما يزرع جناحيك فرقًا من أيام الله.. ويتسع الإحساس بعظمة الملك في قلبك – وأنت تجول في مملكته – حتى يملأ عليك جميع كيانك، فأي قلب هذا الذي لا يتصدع من خشية الله، ولا يذوب صخره تحت سلطان عظمته؟ {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]ـ ثم تستبد بك رغبة قوية – أنت أيضًا – في الهبوط من خشية الله، وتقوى رياح الشوق على غصنك.. فينحني راكعًا لله.

الله أكبر

تكبيرة فاضت من أعماق القلب؛ تنزيهًا لله عن كل متأله جبار، ممن ينازعونه عزه تعالى، وكبرياءه، فتتهاوى عروش الغرور، في قصد شهود كمال المجد والعظمة، المشع من عرش الملك الأحد الصمد، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ[التوبة: 129]، فهو سبحانه ملك الدنيا، وملك الآخرة، مدبر عالم الغيب وعالم الشهادة، أوليس {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } [آل عمران: 109] بلى والذي نفسي بيده.

وتشع الأنوار هالة حول عرشه العظيم، تخفق أجنحتها طائعة متبتلة، تسبح بحمد الملك الوهاب {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75] فيفيض الإجلال، والتعظيم والتنزيه عبر خفقات قلبك، وهو يتملى جبروت مولاه ورحمته، وعلوه، وعلمه، وقد أحاط ملكه بكل شيء تدبيرًا وتقديرًا... {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[البقرة: 255]... فركوعًا إذن؛ لعظمة الله، وترديدًا لإرشاد إمام الأمة في أدبها مع الله: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب عزوجل"[1].
وتتوالى التسبيحات للملك العظيم تتلى:
"سبحان ربي العظيم"[2].
"سبوح قدوس، رب الملائكة والروح"[3].
"اللهم كل ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي، وعصبي لله رب العالمين"[4]


وتكثر القناديل حتى يفيض النور من الفؤاد.
الغصن المنحنى، في مقام النفس ورياضتها، قال دليل السالكين إلى الله: "إذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك، ثم فرج بين أصابعك، ثم امكث حتى يأخذ كل عضو مأخذه"[5]، ويتذلل الغصن بين يدي خالقه "حتى تطمئن مفاصله وتسترخي"[6]، فتورق أحوال الصفاء في عبارات التسبيح والتعظيم، كذلك كان دليل السالكين ومعلمهم عليه أفضل الصلاة والتسليم "إذا ركع بسط ظهره وسواه"[7]، "حتى لو صب عليه الماء لاستقر"[8].

كانت الأنفاس تتجول في مملكة الله مأذونة، وهي منحنية إجلالا لسيدها، وكلما طال انحناؤها، ازداد ارتقاؤها في مقامات النور، ويتوالى التسبيح بحمد الرب العظيم، صعدًا إلى ذي العرش المجيد، حتى تحس بنسيم فصل جديد، ربيعي الأريج، يفتح أقواسه الخضراء بين يديك، فإاذ دقات قلبك أهدأ ما تكون، وألطف ما تكون.. كان مقام الأنس يرشح عليك بأنداء مغفرة جديدة، وفوز جديد، ويحليك ببهجة الرضى، وجمال المآب .. {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 24، 25].

ويمضي العبد في تذوق مزيد من رشفات التسبيح، خاضع الفكر والوجدان، في تملي عظمة الله، وما يشع منها من بهاء الكمال في أسمائه الحسنى؛ ملكًا، قدوسًا سلامًا مؤمنًا مهيمنًا عزيزًا جبارًا متكبرًا، خالقًأ بارئًا، مصورًا، عزيزًا، حكيمًا، فتاحًا، عليمًا،... وتنشر الأسماء أنوارها الفائضة من مشكاة الله... معاني تملأ غصنك الراكع رهبة في مقام التعظيم.

يا صاح أوقد سراج القلب من زيت هيبة الجليل، المتجلى نورها على صفوف الراكعين ببابه، تنكشف عنك ظلمات الشرود، وتنبت دالية المحبة أمامك؛ فيهب عليها نسيم الخشية، الوارد من فضاء التملي للأسماء والصفات، تسبيحًا، وتعظيمًا، ثم تتشكل قوسًا من نور وهاج، تدخل منه أشواقك إلى أفق المعرفة بالله.

كانت آيات العظمة تنساب من كمال ذاته تعالى، وبحار صفاته، كل بحر منها تمده أبحر القدم والدوام، الزاخرة في اللازمان واللامكان، فإذا تجليات الهيبة والإجلال لذى القوة والجلال تنساب تنزيها على مجاري الأنفاس:
"سبحان ربي العظيم... سبحان ربي العظيم... سبحان ربي العظيم"[9].

ومضى جناح الخوف يخفق تحت ظلال العظمة؛ فرارًا إلى عفو الملك الغفار؛ وتمضي الأنفاس حتى فنائها، متبتلة بارتشاف رحيق التنزيه؛ تقديسًا، كما يليق بكمال الجمال في نور غيبه سبحانه.
وتحلق أجنحة الفؤاد، فإذا أصداء الحفيف زفرات مرتعشة، حبًا ومهابة:
"سبوح قدوس، رب الملائكة والروح"[10].

فيورق غصنك في انحنائه؛ مقامات مزهرة، إيمانًا، وإسلامًا، وتوكلًا، وتذللًا، وخضوعًا، فتدعو:
"اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، أنت ربي.. خشع سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي وعصبي، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين".

وأي جارحة بمقدورها أن تشرد عن رعشة الغصن في نسيم الرهبة؟ وأي فنن هذا الذي يمكنه أن يكف أزهاره عن سح الندى، إذا انبجست السماء بقطر لطيف؟

"يا أيتها الأمطار ألا انتحبي! انتحبي!

هذي الدوحة في ذاتي تنشر أكبادًا من حطب.

فأديمي رشحك يا بارقة الليل ولا تحتجبي"[11].

ذلك، ولركوع الليل الساجي إخبات الزرع، إذ تدلت سنابله خاشعة، في سكون الهواء... إذ يستشعر القلب ولوج الكائنات مقام الفناء، فلا صدى إلا لكلمات التنزية. تنطلق من فؤاد العبد الساري، وهو يقتفي آثار النور في دلجة الصحراء، إذ ينسدل عليه مقام الغربة بمشاعر الوحشة الرهيبة؛ فيبكي خوفًا أن يضل بعاصفة الشرود، من بعد ركوع وخضوع، فظلمات الحياة ما زالت تنذر بأيامها. ألم يغرق نبي الله ويلتقمه الحوت بعد ركوع سجود لولا أن تداركه الحليم الكريم {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وتستغيث منزهًا مولاك بصفات التعظيم، اللائقة بجلال ملكه، جبارًا، ملكًا، متكبرًا، عظيمًا:

"سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة"[12]، فينهمر النور على قلبك أنسا، بجوار من لا يذل جاره، ولا يعز عدوه، ويعشب المسري بين يديك نورًا متهادي الظلال، عن اليمين وعن الشمال، وينشط الحادي بقلبك شوقًا إلى المحبوب.

كانت واردات النور تغمر غصنك الساكن في انحناء جميل، وكانت التسابيح ترسم لشهودك وقتًا؛ لا تنسخه حركة الأفلاك أبدًا؛ كل أنفاسك الساعة مبسوطة.. تلهج بالتنزيه لذاته تعالى وصفاته، ناثرًا أنفاسك قطرة قطرة، حتى آخر رمق من رحيق العود، فإذا بفؤادك ينبسط لنسيم من نور علوي الذوق، فترشف منه أحوال جمال، تكسوه ربيعًا من رضى مولاك، كانت تلك إشارة إذن؛ كي ترفع غصنك، ارتقاء بمقامات التعبد.

الهوامش:
[1] رواه مسلم (479)
[2] رواه مسلم. (772)
[3] رواه مسلم. (487)
[4] رواه مسلم. (535)
[5] أقل ما تقال (ثلاث مرات) وقد رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، والطحاوي، والبزار، والطبراني عن سبعة من الصحابة.
[6] رواه أبو داود والدارقطني وأحمد والطبراني والبيهقي، وصححه الألباني.
[7] رواه مسلم. (479)
[8] رواه مسلم. (479)
[9] رواه مسلم. (772)
[10] رواه مسلم. (487)
[11] من ديوان المقامات للمؤلف: (مقام التهذيب والتصفية)
[12] رواه ابو داود، والنسائي بسند صحيح.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ doc

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى