مطالع الكوكب الدري... د. فريد الأنصاري

مطالع الكوكب الدري... د. فريد الأنصاري






إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛...
يا أيها الفلك السيار عبر مواقيت الصلاة... هذه أزمنة التجلي في مدارك الفاني.
مطالع أنوار، تشرق على قلبك السالك بمقامات التحرر من معتقل العمر.. فتهبك أحوال ذوق لكوثر الحياة الفياض.
خمسة مطالع يا صاح، كافية لإمداد سمائك بتجليات من نور دري، لا تتوقف أنهاره أبدًا.
 
فالبدار البدارَ يا سالك بأوقات المطالع، فقد جمعت كل الخير في تجليات الجمال، وما بقي بعدها إلا التيه في فيافي الضلال.. عجبًا، وأي كوكب هذا الذي يرحل في مداره مجذوبًا إلى جاذبيته، ثم يتخلف عن مطالعه؟ كيف وها {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
 
كان الوقت فكانت الصلاة... وإنما الوقت هو الصلاة... فتأمل.
 
الإنسان... هذا الجرم الكوني الصغير، كان المفروض فيه أن يدور بفلكه كسائر الأجرام السيارة في الكون طوعًا لا كرهًا.. ولكن؛ لو كان يدري.. إن هذه الآية العظيمة تضع الإنسان في مداره الطبيعي؛ ليسلك سبيله إلى ربه ذللا.. {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]... وما الإنسان إن لم يكن هو هذا العمر المحدود: بداية ونهاية، وبينهما يوجد شيء اسمه: الإنسان، فتأمل؛ وإنما الصلوات الخمس مواقيت لرموز التحولات الزمنية، فالفجر (بدء) وبه تبدأ الحياة.. وما بدأ شيء إلا لينتهي! والفجر اسم وقت قبل أن يكون اسم صلاة، لأننا إنما نعبد الله بالوقت.. وإنما الوقت هو الصلاة؛ لذلك كان المنادي الأول ينادي لتسجيل ميلاد اللحظة الأولى من لحظات النهار صلاة لله رب العالمين الذي أنعم عليك بالبدء.. أنعم بالحياة، فاملأ رئتيك يا سالك بالنفس الأول من صلاة الميلاد.. ميلاد الحياة، ويا لخيبة من نام عن شهود النبع الأول من عين الصفاء، فكرع من بعد الوقت ماء مسنونًا، وهل يكرع الكارعون في آخر الماء إلا غسالة الأولين السابقين؟
 
ويدور الكوكب العابد في مداره هونا؛ حتى إذا توسطت الشمس كبد السماء؛ اشرأبت الأعناق لسماع المؤذن يعلن بدء الزوال، وانقلاب الظل إلى الجهة الأخرى.. زوال الشمس يا ولدي بداية العد العكسي في عمر الإنسان، فمذ دشن فجره وهو يعد عدا تصاعديًا؛ حتى إذا زالت الشمس وامتد الظل قليلًا إلى الجهة الأخرى بدأ الانحدار؛ ففرارا إلى الله إذن؛ تشهد منتصف عمرك صلاة ظهر، فما بقى أكثر مما سلخت من أنفاس، ذلك هو التحول الفلكي الثاني؛ محطة كبرى من محطات الزمن الأرضي، تشهدها عابدًا، لا شاردًا عن باب الله، حتى إذا صار الظل مثل طول كل قامة امتد عنها؛ بدأ العصر ينذر بقرب الأقوال.. وما العصر إلا إنذار لك يا سالك أن لم يبق لك من العمر إلا لحظات وتنتهي الأضواء إلى ظلمة القبر، ماذا أعددت لذلك البيت المتوحش من مؤنسات؟
 
والعصر محطة فلكية أخرى، ينعصر فيها الزمن انعصارًا؛ ليشهد تحول الإبراد إلى الأصيل.. ذلك آخر الزاد إذن من سبحات النهار، ليس بعدها إلا مسك الختام، ومن هنا النذير الشديد لمن غفل عن هذه الساعة الفاصلة، لحظة أو لحيظة – لا تدري كيف؟ - ويكون الغروب.. هنالك تشهد كيف يموت الضوء.. بل كيف تموت الحياة، وتصلي.. وإنما المغرب غروب؛ تلك هي الحقيقة الأولى التي نطق بها الفجر مذ تفجر عن أنواره لو تعلمون.. فيا عبد ما أخرك عن شهود حقيقتك؟ هذا الكو كله يقرب.. ولا عودة للحظة ماتت.. لا عودة لها أبدًا، محطة فلكية من تحولات الأزمنة، تشهدها صلاة خاتمة للأضواء، وفاتحة للعتمات، وما العشاء إلا عتمة، ندلج إلى الله بالعشاء صلاة سارية.. وإنما العشاء من العَشَا: حيث العتمة تمنع إبصار العين إلا قليلًا.
 
تلك إذن هي الصلوات الخمس: أوقات للتحولات الفلكية الكبرى.. نعدها بالصلاة عدا أم أقل لكم؟ كان الوقت فكانت الصلاة.. وإنما الوقت هو الصلاة.. ولقد قلت لك يا ولدي... فتأمل.
 
وإنما الأوقات الخمس يا صاح رموز لليوم كله: فجرًا فظهرًا فعصرًا فمغربًأ فعشاء.. فماذا بقي بعد ذلك من الوقت إلا امتدادات لهذه أو تلك؟ فالوقت كله إذن هو الصلاة.. أنت تصلي الأوقات الخمسة إذن أنت تصلي العمر كله، قلت: كله. وإنما فرض الله الصلاة عمرًا، لا حركة ولا سكنة إلا صلاة؟! ألم يفرضها عزوجل أول ما فرضها خمسين صلاة؟ ثم خففها إلى خمس. كل وقت منهاينوب عن عشرة أوقات. والحسنة في ديننا بعشرة أمثالها.
 
أن تعبد الله بالوقت يعني أنك تعبده بمهجتك، وما المهجة إلا العمر، وما العمر إلا زمن، وما الزمن إلا أعوام، وما الأعوام إلا أشهر، وما الأشهر إلا أيام، وما الأيام إلا ساعات، وما الساعات إلا دقائق، وما الدقائق إلا ثوان... فما عمرك يا ابن آدم؟
 
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثوان
 
هكذا إذن؛ أن تعبد الله بالخمس فإنك تعبده بالعمر كله، تنثر مهجتك بين يديه تعالى وقتًا وقتا، أو قل: نبضًا نبضًا، ما دام هذا الفلك يعبر العمر إلى ربه هونًا.. أما أن يفوتك وقت فيعني أنك قد خرجت عن مدارك.. فانظر أي حافة من الفراغ العاصف تنتظرك؟ وأي قوة بعد ذلك ستعود بك إلى هدوء المدار؟
 
أن يفوتك وقت: يعني أنك فقدت جزءًا من العمر، وفاقد الجزء فاقد للكل ضرورة.. ومن ذا قدير على استعادة الزمن الراكض إلى وراء؟ ولقد قال الفقهاء لفعل الصلاة إذا كان في الوقت (أداء)؛ وإذا كان بعد الوقت (قضاء)؛ لأن الذي يقضي لا يؤدي أبدًا.
 
هل يمكنك استعادة الوقت؟ هل يمكنك استعادة التاريخ؟ هل يمكنك أن تعيش اللحظة مرتين؟ ولقد صدقوا في الفلسفة القديمة إذ قالوا: (لا يمكنك أن تسبح في النهر مرتين).. لو لم تكن الصلاة (وقتا)ح لأمكنك أن تفعل ذلك على سبيل التشبيه والتقريب، أما وإنها وقت فإنك لن تفعل، وإنما الذي تفعله أنك (تعوض) تعويضًا، وما كان العوض- بعذر أو بغير عذر – ليكون كالأصل أبدًا... لسبب بسيط: هو أن المسألة وقت، فانظر لو أنك لم تأكل طعام عشائك حتى كان الصباح، ثم طلبته؛ أتكون حينئذ تتعشى أم تفطر؟.. طبعًا إنك لن تتعشى عشاءك ذاك بعدُ أبدًا.. ولو كان الطعام هو عين الطعام لسبب بسيط، هو أن المسألة وقت.. ولا صلاة تفوت فتؤدى بعد ذلك أبدًا..وإنما فرصتك الوحيدة أن تقضى إن جاز لك قضاء.. وشتان شتان بين أداء وقضاء.
 
ألم أقل لكم؟ كان الوقت فكانت الصلاة...وإنما الوقت هو الصلاة.. ولقد قلت لك يا ولدي.. فتأمل.
 
فابسط كفك حتى لا تنسى... ثم اعقد أصابعك الخمسة، الواحد تلو الآخر؛ لعد التجليات الوضاءة ربيعًا ربيعًا...

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى