يا أيها الحيران.. هنا الصلاة فادخل! د. فريد الأنصاري

يا أيها الحيران.. هنا الصلاة فادخل! د. فريد الأنصاري




أي لهيب هذا الذي يحاصرك من كل مكان؟
كل الأزاهير في قلبك تحترق تباعًا، فتذروها الريح دخانا يشرد في كل اتجاه... كل الأشياء التي بين يديك، سلاسل تربطك إلى التراب؛ فتثاقل عن الإنطلاق بعيدًا عن معتقلات مملكة الرماد!. أي كون؛ أم أي سجن؛ هذا الذي ترزح فيه؟ ولا نافذة تنفرج منه إلى السماء.
ويحك يا صاح؛ هذه أشياؤك التي تعبدها تلاحقك كل مساء فتتحطم فوق رأسك، ثم تبيت ليلتك تئن تحت ركامها..
وتستيقظ صباح كل يوم، لتدور كالآلة في دوامة رتيبة، ترشقك مسامير ذلك الضجيج نفسه، وتخنقك رائحة تلك الملفات نفسها، وتلهب وجهك لفحات الحرائق ذاتها.. وتطول آمالك وتتسع أطماعك، وتمتد عينك إلى مختلف الأشكال والألوان.. ولا تخرج عن نطاق أشيائك، التي لا تعدو أن تكون – في نهاية المطاف – مجرد حفنة من تراب.
وتجري بكل قواك خلف متاعها، تحرق في سبيل امتلاكها كل الطاقات، وقد لا تصل فتشقى.. وقد تصل، فما أن تضع يدك عليها حتى تصير مغلولة إليها.. فإذا بك – وقد سعيت لتكون مالكًا – تصبح مملوكًا، لا تستطيع الفكاك ثم تشقى أيضًا!
كم زينت لك الكلمات البراقة في إعلانات الإشهار أن تكون إلهًا فبنيت القصور من حديد وحجر، وأجريت من تحتها الأنهار من عرق غير طاهر، فأعجبك أن تكون لها مديرًا، ثم صرت بها أسيرًا!
وكم زينت لك قصائد الحشاشين أن تكون نبيئًا، فبنيت القصور من الخيال، وأسست مملكة النظر، وصرت توزع الفهوم كما تشاء.. فانطلى دجلك على الناس ردحًا من الزمن، ولكن العواصف لها موعد، فما لبثت مؤسساتك الوهمية أن تبين زيفها، فانهارت هياكلها حطبًا يلهبه غضب المستضعفين في كل مكان.
وجئت بعد خريف قاس، عاري الأغصان، تبحث عن دفء الحق في فؤادك، وسكون الاعتراف لذاتك باستحالة تذوق صفاء الحياة، وتدفقها الكوثري؛ من كؤوس التأله الحديدية، مهما تعددت أشكالها!
ليس لك الساعة يا صاح، إلا أن تفر من أشيائك وأغلالك، لتنظر إلى نفسك من مرآة هادئة، لا انفطار فيها ولا اعوجاج، فهذا الأذان الصادح في الأفق الجميل، يدعوك لتتطلع ببصرك إلى السماء، وتنصت إلى الكلمات، التي تتشكل ومضات مشرقة، تلخص قصة الكون المثير كلها في لحظات..!!
هذا النور الأزرق القادم من أفق بعيد، يرسم الآن لحظة فاصلة بين الصفاء الصادق والدجل البهيم، فما أن أعلن الكون عن انبعاث فجر جديد؛ حتى أضاءت صومعة قنديلها الأخضر، لترسم هالتها الوضاءة، صوتا يتدفق كالشلال الصافي، في شكل دائري، ثم ينطلق نحو كل الجهات!
لعلك لم تصغ يوما ما –وإن كنت سمعت – إلى هذه الرسالة الكونية الملخصة في كلمات الأذان!

من أنت؟ بل ما أنت؟ وما حدود آفاقك قبل يومك هذا وبعده؟

وتحاول أن تجيب، وقد تفر إلى أشيائك الطينية مرة أخرى.. لكنك أبدًا لن تفلح في الهروب، ولا نجاة لك إلا في الإقدام؛ لأن الذي تفر منه بركان يتفجر من أغرار ذاتك، فإن يخمد اليوم، فغدا له موعد جديد مع أذان جديد.
لماذا أنت وحدك تشكل نشازًا في هذا النسق الجميل؟ كل الخطوط في حدائق قوس قزح تتناسق نبضاتها، عبر اندفاع الموج الراكض، والرياح المشوقة بحنين السكون، في محاريب الجمال.
آه أيها الآسف على أيامك! لولا هذا العمر الذي احترق في عد كؤوس اللذة الكاذبة، ما كنت تعرف لسعات هذا الألم الذي يحاسبك، فكفى أسفًا! إن الندم وحده لا يكفي لتصحيح مسار التاريخ، وافتح بوابة ربيع جديد؛ لترى جمال الخمائل التي حرمتها في زمن التيه؛ تتشكل دوالي أمل، ومقامات أنس.
ها أنت ترى بأم عينك الأرض وهي تدور؛ ترسم لحظات العمر، وفصوله المختلفة، فكم ربيعًا شهدت وكم خريفًا؟ ألم تكن الفصول وما كان آدم؟ حقا: و(ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع)[1].
كانت حشرة تغالب التنفس في يومها الثامن من عمرها، وهي تردد:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش                  ثمانين حولًا لا أبا لك يسام
ومتى كان الشعور الزمني لدى الإنسان هو المقياس الحيقيقي لمعرفة طول الأعمار وقصرها؟
ويطير الجناح تلو الجناح، وفي كل جدفة تهوي ريشة مع الريح إلى خلف، ويطمع الجناح أن يزيد صعدًا.. كلا! فما بقى من الريش إلا آحادًا معدودات، لا تكفي إلا لرسم آخر رعشات الخريف!
هل تعرف الآن مكانك الدقيق، في هذه الذرة السابحة في مدارات السماء، بين ملايين الأفلاك والمجرات؟
أيمكنك أن تقف مكانك، ولا تتحرك؟ أو بإمكانك أن تعود هاربًا إلى الوراء، نحو بحر لجي من الظلمات؟ وهل ثمة ظلام لا يفضحه الأذان؟

الأرض راحلة طوعًا لا كرهًا يا صاح، فاختر منهما ما أنت تشاء!
وتمد بصرك الحائر إلى أفق أبعد من مدار النظر فيما وراء النظر؟!

كانت العاصفة أغنى ما تكون، وكان البرد أقرس ما يكون! لحظة واحدة، قد تكون كافية لجرفك إلى جحيم الضياع الذي لا ينتهي!
وتسرع في لهفة المستغيث، لتدخل مدارك الهادئ، ثم تحس بالدفء يورق في قلبك جنة ذات قناديل خضر،توقد من زيت مبارك، تمده كلمات الله! فتخر إلى الأرض ساجدًا:
  • الملك لله الواحد القهار
وأخيرًا وجدت نفسك، فاحتضنت دقات قلبك التي لم تزل تتلاشى في الظلمات، وتضيع في مجاهيل الخراب، إلى أن انشدت إلى تيار النور الإلهي، المتدفق من مشكاة الأذان!
فقد كانت كلماته تعمر الكون الرحيب، وكان الصوت يمتد أطول ما يكون "والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس"[2]، فتتحرك قلوب الكائنات كلها، وترتفع الأعين والأغصان، راجية، نحو السماء... هذه لحظات عروج الأجنحة المثقلة، بعيدًا عن برك الآثام الآسنة، فأبواب الخير وحدها مفتحة، في غيبة إبليس المدبر في الظلمات، أوليس "إذا نودي بالصلاة فتحت أبواب السماء، واستجيب الدعاء"[3]، فهلم إذن يا صاح، فقد "أدبر الشيطان وله ضراط؛ حتى لا يسمع التأذين"[4]، فرقًا من كلمات الحق المبين.
  • الله أكبر... الله أكبر.
  • أشهد ألا إله إلا الله... أشهد ألا إله إلا الله.
  • أشهد أن محمدًا رسول الله... أشهد أن محمدًا رسول الله.
  • حي على الصلاة... حي على الصلاة.
  • حي على الفلاح... حي على الفلاح.
  • الله أكبر ... الله أكبر.
  • لا إله إلا الله.
وتمضي كلمات النشيد تخترق الآفاق، حتى تستحيل أصداء جميلة تنبعث من أكباد الجبال، والطير واللهب والماء، نسقا من كل الجواهر، والأشكال والألوان {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13] فيا أيها العقل المحتار بين الحجب والأستار {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ[الحج: 18] أي تناسق هذا بين الأرض والسماء؟ وأي تناغم بين شتى المدارات؟ وأي شذوذ هذا الذي يمارسه الإنسان، في تمزيق وحدة الوجهة نحو الخالق العظيم؟! فلم لا يسجد داود لربه في هذا المركب المتسق التغريد والتجويد؟ {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79]، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]

فمن ذا قدير على الإخلال بروعة النظام إلا أعمى؟

ها أنت إذن تدخل خلوة الإيمان، مفارقًا تيه الوحشة والضياع، ومستقبلًا بوارق من مقام الأنس بذكر الله.. تلقي نظرة إلى الوراء، فبهولك ركام الرماد الذي خلفته حرائق الأيام الخوالي، ويملؤك شعور بالخجل والندم.. عجبًا! كيف صنعت ما صنعت تحت سماء الله؟!
كان النسيم الجميل الذي يهب من الجهة العلوية؛ يحمل معه رشاش مطر خفيف، فترتعش الأغصان منجذبة إلى شجرنها، ثم يفيض الدمع الصامت؛ ليعمر القلب بطعم مقام الخوف والرجاء، عساه يورق ريشا فجرى اللون؛ فيطير إلى مصاف الأجنحة السبعة.. فمن بينها: "رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه"[5].
هذه يقظة، ولكل يقظة غفوه، أو غفلة، فخذ بأسباب (الإرادة) فإنها مقام الابتداء بلا انتهاء، إلا أن يشاء الله! ثم اصحب الكون السالك، فلأحواله أمارات الوصول إلى أعتاب الله {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]، فشد ثيابك يا صاح إلى محاريب الجمال والجلال، وذق من كؤوس التعبد ما ترى به سبيل السلام، مستقيمة واضحة في عصر الظلمات والإنجراف، واحذر أن ينحرف بصرك عن مشاهدة النور الفياض من النبع العظيم! {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف: 28].
ها أنت تحس الساعة بالأغصان العارية في ذاتك، تنشر براعمها أوراقًا خضراء، فيتشكل الجناح المأمول، حتى إنك لتكاد أن تطير! لولا ما يثقل ذاكرتك من أوساخ عناكب ماتت، لم يزل نسجها القديم يلتقط الغبار من هنا وهناك.
ألا مهلا يا صاحبي.. فلابد قبل التحليق من المسير، وإن أولى خطوات المسير أن تغطس في حوض التقرب، تحت شلال التوبة، وإنه لمغتسل بارد وشراب، فذلك مستشفى الأنبياء والأتقياء.. فتجرد إذن من ذاكرتك السوداء! وتبرأ مما قبل فجر الربيع! فمقام الفرحة كفيل بوضعك على أول مدارج التحليق، ذلك نور القسم النبوي المشع في فلوات الظلام: "والله. لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة"[6]، ويسترسل سيدي في إضاءة علامات الطريق: "ومن تقرب إلى شبرًا تقرب إله ذراعًا! ومن تقرب إلى ذراعًا تقرب إليه باعًا! وإذا أقبل علي يمشي أقبلت إليه أهرول"[7]. سبحان الله! وأي مشي يمكن للإنسان أن يمشيه إن لم يكن أساس خطواته الخضوع لسيد الكون؟ وأي خضوع يمكن أن يكون إن لم يكن في تسابيح الصلاة؟ وما جريمة هذا الخلق إن لم تكن في إضاعة هذا المعنى العظيم! الذي سكن روح الأمة منذ مئات السنين، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
فأي شيطان هذا الذي غلق بوابات المساجد دون التوابين والمتطهرين؟ فانطلقت حوافر الفحشاء تركض في الأرض ركضًا.
ألا هذا لجام التعبد يروض حافر المنكر، كي يركب مداره طوعًا، فاخلع نعليك يا صاحبي، و {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
 
 الهوامش:
[1] رواه مسلم، رقم: (2858).
[2] رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني في (ص. ج. ص) رقم: 1841.
[3] رواه الطياليسي وأبو يعلي وصححه الألباني، (ص. ج. ص)، رقم: 818.
[4] رواه مسلم، رقم: (389).
[5] رواه مسلم، رقم: (1031).
[6] رواه مسلم، رقم: (2675).
[7] المصدر السابق.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
يا أيها الحيران.. هنا الصلاة فادخل! doc
يا أيها الحيران.. هنا الصلاة فادخل! pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى