العلم النافع

العلم النافع





العلم النافع الذي يحقق التزكية: هو كل علم يقرب من الله سبحانه، ويزيد الخشية منه، ويدفع إلى العمل الصالح.

ويدخل في هذا العلم الشرعي أولًا: ثم تأتي بعض العلوم الأخرى التي تدفع الإنسان إلى التفكر في المخلوقات وإدراك قدرة الله تعالى وبديع صنعه.[1]

والعلم عباده عظيمة، وقد أمر الله عباده به وجعله مقدمًا على العمل، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]

وقد استدل الإمام البخاري بهذه الآية الكريمة على أهمية العلم وكونه سابقًا للعمل[2]، لأن الله سبحانه بدأ بالعلم قبل العمل، حيث قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [محمد: 19]، ثم قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]

ولهذا كان العلم النافع القائم على توحيد الله سبحانه الوسيلة الأساسية الأولى لتزكية النفس وبلوغها مقامات الخشية والقرب من الله سبحانه، وتصحيح مسار المسلم، وترسيخ الإيمان في قلبه.

ولا شك أن طلب العلم عبادة جليلة، وهو من أفضل القربات عند الله سبحانه، وأن تعلم ما تصح به العبادة فرض عين على كل مسلم، كما أن الاستزادة من العلم تعلي قدر صاحبها عند ربه وترفع منزلته.

وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة[3] في بيان فضل العلم ومنزلة العلماء وآداب طلب العلم والثمرات العظيمة التي يحظى بها العلماء العاملون بعلمهم.

قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]

فالقنوت لله واستشعار الخوف من عذابه والتطلع إلى رحمته ثمرة من ثمرات العلم النافع الذي يفتح البصيرة وينور القلب.

وقال سبحانه: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]

كما أن الله سبحانه شرف العلم والعلماء بما وفقهم إليه من خير عميم، فقال عز وجل: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]

قال مجاهد في تفسير هذه الآية الكريمة: (يؤتي الحكمة: أي العلم والفقه والقرآن).

ومما يدل على شرف العلم وفضله أن الله سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]

والعلم النافع له ثمرات عظيمة بما يغرس في نفس صاحبه من تقوى الله والخشية منه، ولهذا كان العلماء العاملون أكثر الناس خشية من ربهم، بل إن هذه الخشية محصورة في أهل العلم قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، ولفظ {إِنَّمَا} يدل على الحصر.

وهذه الآية الكريمة دليل صريح على أهمية العلم في التزكية، وكونه وسيلة لابد منها لمن أراد البداية الصحيحة لتزكية النفس وطهارتها من أمراضها.

أما الأحاديث النبوية التي تذكر فضل العلم وتبين منزلة العلماء وشرفهم، وما ينبغي لهم أن يتأدبوا به ويحرصوا عليه، فهي كثيرة[4]، ولعل من أبرزها الأحاديث التالية:

-       عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)[5].

فالفقه في الدين من أعظم الخير الذي يوفق الله إليه عباده، ويشمل معنى الفقه في هذا الحديث العلوم الشرعية كلها، وهذا دليل على منزلة العلم الشرعي وأثره في سلوك المسلم طريق الخير والسعادة.

-       وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا، ولا درهما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)[6].

وفي هذا الحديث النبوي بيان للتكريم العظيم والمنزلة الكبيرة التي يحظى بها العالم والمتعلم وإشارة إلى أهمية العلم كوسيلة في تزكية النفس، لأنه الطريق الموصل إلى الجنة، وهو ميراث الأنبياء، وبه حياة القلوب وسعادة النفوس.

ولا شك أن تشبيه العلماء بالقمر ليلة البدر يعد من البلاغة النبوية، فالقمر يضيء الآفاق ويمتد نوره، أما الكواكب الأخرى فنورها ضئيل، وإذا كان الجهل كالليل في ظلمته، فإن العلماء بمنزلة القمر ليلة البدر الذي يبدد الظلام ويزين السماء.

وهناك لطيفة أخرى في هذا التشبيه النبوي، فالقمر يضعف نوره ثم يزداد، وتراه كاملًا ثم يتضاءل وينقص، وكذلك العلماء تتفاوت مراتبهم في العمل الصالح والدعوة إلى دين الله.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء) تنبيه للعلماء أن يسلكوا هدي الأنبياء وطريقتهم في الدعوة وتزكية النفوس وتربية الأمة، وبذلك يحصل لهم نصيبهم من هذا الميراث العظيم.[7]

وإذا كان قوام حياة البدن وأمور المعيشة عن طريق المال، فإن حياة القلب وغذاءه وشفاءه من أسقامه لا يكون إلا بالعلم النافع الذي يورث العمل الصالح، ومن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر.

-       وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)[8].

وهذا الحديث النبوي دليل آخر على منزلة العلم النافع في تزكية النفس، فقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء به من الدين كالغيث الذي يمطر الناس وهم في أشد الحاجة إليه، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل بعلمه المعلم لغيره، فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها.

ومنهم الجامع للعلم المستغرق فيه غير أنه لم يتأدب بآدابه ولم يعمل به إلا قليلًا، فيم يثمر علمه الثمرة المطلوبة في تزكية النفس واستقامة السلوك، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء لينتفع الناس به في السقاية والري، دون أن تستفيد تلك الأرض من مائها المخزون فيها لكي تنبت وتخضر، بل بقيت جرداء قاحلة، أو أنبتت نباتًا قليلًا تتفاوت نسبته بحسب استفادة الأرض من مائها.
ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء ولا تنبت الكلأ، وهذه الطائفة أعرضت عن العلم النافع وأصرت على ظلمات الجهل وانحرفت عن طريق الحق الذي يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولاشك أن الطائفة الأولى هي المحمودة لكونها تعلمت العلم النافع وأثمر هذا العلم عندها ثمرات كثيرة في تزكية النفس والدعوة إلى الدين الحق وإرشاد العباد إلى ما فيه سعادتهم.

ولكي يؤدي العلم دوره في تزكية النفس لابد من أن يتحقق فيه الشرطان الآتيان:

-       أن يصحبه العمل الصالح مع الإخلاص لله سبحانه والتزام الآداب المطلوبة للعالم والمتعلم.

-       أن يتجنب المسلم المراء والخصام في مسائل العلم.

 
الهوامش:


[1] لاشك أن العلوم النافعة التي تدفع المسلم إلى التفكر في المخلوقات، تعد من الأساليب العملية في تزكية النفس كالطب والفلك، لما فيها من تأمل بديع صنع الله وحكمته في خلقه.

[2] صحيح البخاري، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل، 1/25.

[3] من أراد التوسع فليرجع لما أورده الإمام ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة)، ص1/48، وما بعدها.

[4] من أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى كتب السنة حيث أفردت أبوابًا خاصة لأحاديث الواردة في العلم ومنزلته وآداب حملته، كما صنف العلماء كتبًا خاصة في ذلك، ومن أبرزها: أخلاق العلماء لأبي بكر الآجري، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر القرطبي.

[5] رواه البخاري، كتاب العلم باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، 1/25.

[6] رواه أبو داود في العلم، رقم 3641.

[7] مفتاح دار السعادة لابن القيم، ص1/65.

[8] صحيح البخاري، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، ص1/28.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
العلم النافع.doc doc
العلم النافع.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى