رؤيةِ وَجْهِ اللهِ سبحانه مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ فِي الآخرةِ

رؤيةِ وَجْهِ اللهِ سبحانه مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ فِي الآخرةِ



السعادةُ العظمى ببلوغِ الجنةِ ورؤيةِ وَجْهِ اللهِ سبحانه مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ فِي الآخرةِ، وهكذا يصلُ الغريبُ إلى مسكنِهِ الآمنِ وموطنِه الذي اشتدَّ شوقُه إليه.
إنها الجنةُ دارُ الأبرارِ، دارُ النعيمِ المقيمِ، ودارُ الرضوانِ، دارُ الجزاءِ الأوفى مِن السعادةِ، حظى بدخولِها وظفرَ بنعيمِها.
ولكنَّها لا تُنَالُ بالتمني، وإنما بالجدِّ والسعيِ الصادقِ والحرصِ الدؤوبِ.
إنها الثمرةُ العظمى لأصحابِ النفوسِ المطمئنةِ، الذين زكُّوا نفوسَهم وبذلوا جهدَهم فِي مجاهدتِها وتحصينِها مِنَ الآثامِ، فنالوا البُشرى وتحققَ لهم المُنَى.
قَالَ تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41].
ولقدْ حفلتْ الآياتُ القرآنيةُ والأحاديثُ النبويةُ بذكرِ أوصافِ الجنةِ ونعيمِها ودرجاتِها ومنازلها، والتشويقِ فيها، والحثِّ على العملِ لها.
فَمِنَ الآياتِ:
قولُه تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 73، 74].
قولُه سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 30، 31].
فالجنة ُدارُ النعيمِ لِمَنْ آمنَ وَعَمِلَ صالحًا، وهؤلاء هُمْ العبادُ الصالحون الصادقون المُخْلِصُون، الذين يُكْرِمُهم اللهُ بالنعيمِ المقيمِ وَالفوزِ العظيمِ.
وَقَدْ بَشَّرَهُمْ المولى سبحانه فقالَ تعالى: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 39-49].
فَمَنْ صَدَقَ مَع اللهِ في الدنيا انتفعَ بِصِدْقِهِ يومَ القيامةِ، وفي ذلكَ يقولُ سبحانه: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].
وأمَّا الأحاديثُ النبويةُ التي وردتْ في وصفِ الجنةِ وما فيها مِنْ نعيمٍ مقيمٍ، فهي أكثرُ مِنْ أنْ تُحْصَرَ، وَمِنْ أبرزِها:
ما رواه البخاريُّ ومسلم عَنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - عنْ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - قالَ: ((قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: أَعْدَدتُّ لعبادِي الصالحين مَا لَا عينٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ على قَلْبِ بشرٍ، مِصْدَاقُ ذلكَ فِي كتابِ اللهِ تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]))([1]).
عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ، هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ.
وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ وَهَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ))([2]).
فأهلُ الدنيا الذين امتلأتْ قلوبُهم بحبِّها والتعلقِ بها والتقلبِ في ملذاتِها، لمْ يَبْقَ لهم شيءٌ مِنْ نعيمِها بمجردِ غمسةٍ واحدةٍ في نارِ جهنم.
وأما أهلُ التقوى الذين صبروا على أكدارِ الدنيا وشدتِها فإنهم نسوا تلكَ الشدائدَ بلحظةٍ واحدةٍ مِنْ لحظاتِ نعيمِ الجنةِ.
وشتان بينَ زخارفَ الدنيا وَالنعيمِ الباقي فِي دارِ القرارِ في صحبةِ الأخيارِ.
ولا يقتصرُ نعيم ُالجنةِ على أنواعِ النعيمِ الحسي مِنَ الثمراتِ والخيراتِ، والحورِ العين والقصورِ والخيامِ والأنهارِ، والأرائك ولباسِ الحُلي، وكُلِّ مَا تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ بِه الأعينُ، وإنما هناك ما يزيدُ على ذلكَ مِنَ النعيمِ الذين هوَ أكبرُ وأعظمُ وأهنأُ وأسعدُ، ألَا وهما: رضوانُ اللهِ سبحانه ولذةُ النظرِ إلى وجههِ الكريمِ.
فأمَّا الرضوان: فَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي قولِه تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].
وفي الحديثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ.
فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ.
فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟
فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ.
فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟!
فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا))([3]).
وأما رؤيةُ وجهِ اللهِ سبحانه في الجنةِ: فما أعظم لذتِها وَبهجتِها وسعادةِ أهلِ الجنةِ بها، وَتَأَمَّلْ قولَه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].
وَقَالَ تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26]، فالحسنةُ: هيَ الجنةُ، والزيادةُ: هيَ النظرُ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ سبحانه([4]).
وروى مسلم عَنْ صُهَيْبٍ الرومي، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ))، زادَ فِي راويةٍ: (ثُمَّ تَلَا هذه الآيةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26])([5]).
ولذلكَ كانَ الرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم - يدعو بهذا الدعاءِ: ((وَأَسَْأَلُكَ لَذَّةَ النظرِ إلى وجهِكَ، والشوقَ إلى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فتنةٍ مُضِلَّةٍ))([6]).
فالشوقُ إلى لقاءِ اللهِ سبحانه والنظرِ إلى وجههِ الكريمِ في الجنةِ غايةُ ما يطمحُ إليه المؤمنون؛ وَفِي ذلكَ يقولُ الإمامُ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهُ -: (بَيَّنَ الرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم - أَنَّ اللهَ لَمْ يُعْطِ أَهْلَ الجنةِ شيئًا أَحبَّ إليهم مِنَ النظرِ إليه، وهذا غايةُ مُرَادِ العارفين).
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يجعلَنا منهم ويحشرَنَا فِي زُمْرَتِهم تحتَ لواءِ سيدِ المرسلين - صلى اللهُ عليه وسلم -، وَآخِرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين.

الهوامش:

([1]) رواه مسلم، كتاب الجنة، (2842).

([2]) رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب طلب الكافر الفداء، (2807).

([3]) رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب صفة الجنة والنار، (7/200)، ورواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة، (2829).

([4]) تفسير ابن كثير، (2/414).

([5]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، (181).

([6]) رواه الإمام أحمد في مسنده، (4/264)، وابن حبان في صحيحه، (955)، والحاكم في المستدرك، (1/524)، من حديث عمار بن ياسر - رضيَ اللهُ عنه -.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
السعادةُ العظمى ببلوغِ الجنةِ ورؤيةِ وَجْهِ اللهِ سبحانه مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ فِي الآخرةِ.doc doc
السعادةُ العظمى ببلوغِ الجنةِ ورؤيةِ وَجْهِ اللهِ سبحانه مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ فِي الآخرةِ.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى