غنى النفسِ مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ على الفردِ

غنى النفسِ مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ على الفردِ






روى البخاري ومسلم عنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((لَيْسَ الغنى عَنْ كثرةِ العَرَضِ، ولكنَّ الغنى غنى النفسِ))([1]).

فليسَ حقيقةَ الغنى كثرةُ المالِ؛ لأنَّ كثيرًا ممنْ وَسَّعَ اللهُ عليه في المالِ لا يقنعُ بما أوتي، ولا يبالي مِنْ أينَ تأتيه، فهو فقيرٌ لشدةِ حرصِه وطمعِه وجشعِه، وإنما حقيقةُ الغنى غني النفسِ، وهوَ مَنْ استغنى ورضي بما قَسَمَ اللهُ له، ولمْ يحرصْ على الازديادِ، وَكَفَّتْ نفسُه عنْ المطامع فعزَّتْ وعظمتْ، ويحصلُ هذا الغنى للنفسِ عندما تتزكى وترضى بقضاءِ اللهِ - سبحانه وتعالى -، وتسلمُ لأمرِه وهيَ موقنة بأنَّ ما عندَ اللهِ خيرٌ وَأبقى.

وأمَّا اللاهثُ وراءَ حطامِ الدنيا فإنَّه فقيرُ النفسِ مهما كثرتْ أموالُه؛ لأنَّه لا يقنعُ بما أُعطي، وإذا فاتَه شيءٌ حَزنَ وَجَزعَ، ((وَلَوْ أُعْطِيَ واديًا مِنْ ذهبٍ لتمنَّى أنْ يكونَ له واديان))([2])، فهوَ دائمُ الحسراتِ والزفراتِ لما يفوتُ عليه مِنْ مطامع وأماني لا تقفُ عندَ حَدٍّ.

روى الترمذي وابنُ ماجه، عنْ زيدِ بن ثابت - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - يقولُ: ((مَنْ كانتْ الدنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عليه أمرَه، وجعلَ فقرَه بينَ عينيه، ولَمْ يأتِه مِنَ الدنيا إلَّا مَا كُتِبَ له، وَمَنْ كانتْ الآخرةُ نيتَهُ جَمَعَ اللهُ له أمرَه، وَجَعَلَ غناه فِي قلبِه، وَأَتَتْهُ الدنيا وهيَ راغمةٌ))([3]).

ولقدْ تحققَ السلفُ الصالحُ مِنَ الصحابةِ والتابيعن وعلماءِ هذه الأمةِ - رحمهُم اللهُ - بهذه الثمرةِ مِنْ ثمراتِ التزكيةِ، فلمْ تشغلْهم الدنيا عَنْ عبادةِ ربِّهم والتقربِ إليه، وإنما جعلُوها طريقًا للآخرةِ ومزرعةً لها.

ولنكتفِ هنا بمثالٍ مِنْ سجلِ تاريخِهم الناصعِ، وذلكم هوَ عمرُ بن عبدِ العزيزِ - رحمهُ اللهُ - الخليفةُ الزاهدُ الراشدُ، الذي أتتْه الدنيا بأموالِها وجاهِهَا وسلطانِها فاعرضَ عَن الاشتغالِ بها، وفي ذلكَ يقولُ مالكُ بن دينار - رحمهُ اللهُ -: (الناسُ يقولون عني زاهدٌ، إنَّما الزاهدُ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ الذي أَتَتْهُ الدنيا فتركَها)([4]).

وَلمَّا تُوفيَ - رحمهُ اللهُ - حَزنَ عليه الناسُ كثيرًا، حتَّى إنَّ مَلِكَ الرومِ لما عَلِمَ بوفاتِه جلسَ مكتئبًا حزينًا، ثُمَّ قالَ: (إني لستُ أعجبُ مِنَ الراهبِ إِنْ أغلقَ عليه بابَه، ورفضَ الدنيا وترهبنَ وَتَعَبْدَنَ، ولكن العجب ممَّنْ كانتْ الدنيا تحتَ قدميه ثُمَّ رَفَضَها وَتَعَبَّدَ)([5]).

فما أعظم هذه الثمرة مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ، والتي بها تصبحُ حرةً طليقةً مطمئنةً غنيةً بما أغناها بِه مالكُها وفاطرُها مِنَ النورِ الذي وَقَعَ فِي القلبِ، وهوَ نورُ الإيمانِ([6]).

وأما المُعْرِضُ عَنْ رَبِّهِ سبحانه، الأسيرُ لشهواتِه، فإنَّه لا يُصابُ بفقرِ النفسِ فحسب، وإنما يخسرُ نفسَه كُليًّا، وتلكَ أعظمُ مِنْ خسارةِ المالِ وَالفقرِ المدقعِ؛ قَالَ تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9].

وَقَدْ حَدَّدَ الإمامُ ابنُ القيم المقياسَ الذي يستطيعُ الإنسانُ بِهِ أَنْ يعرفَ فَقْرَ نفسِه مِنْ غناها، وذلكَ أنَّ غنيَّ النفسِ كلمَا زيدَ فِي عملِه زيدَ في تواضعِه وَرحمتِه، وكلما زيدَ في عملِه زيدَ في خوفِه وَحذرِه، وكلما زيدَ في عمرِه نقصَ مِنْ حرصِه، وكلما زيدَ في مالِه زيدَ في سخائِه وَبَذْلِهِ، وكلما زيدَ في قَدْرِهِ وَجَاهِهِ زيدَ في قُرْبِهِ مِنَ الناسِ وقضاءِ حوائجهم والتواضعِ لهم، وهذا هوَ طريقُ السعادةِ وَالفلاحِ.

وأما فقيرُ النفسِ؛ فإنَّه كلما زيدَ في عملِه زيدَ في تكبرِه وتيهِه، وكلما زيدَ في عملِه زيدَ في فخرِه واحتقارِه للناسِ وَحُسْنِ ظنِّه بنفسِه، وكلما زيدَ في عمرِه زيد في حرصِه، وكلما زيدَ في مالِه زيدَ في بُخْلِهِ وإمساكِه، وهذا مِنْ علاماتِ الشقاوةِ([7]).

 

الهوامش:

([1]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الغنى غنى النفس، (7/178)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض، (1051).

([2]) هذا جزء من حديث نبوي.

([3]) رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الهمِّ بالدنيا، (4105)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (6510، 6516)، وفي السلسلة الصحيحة، (949).

([4]) سير أعلام النبلاء، الذهبي، (5/134).

([5]) حلية الأولياء، أبو نعيم، (5/291)، الرقة والبكاء، ابن قدامة المقدسي، ص(302-303)، سير أعلام النبلاء، الذهبي، (5/142-143).

([6]) ينظر: طريق الهجرتين، ابن القيم، ص(40).

([7]) الفوائد، ابن القيم، ص(155).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
غنى النفسِ مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ على الفردِ.doc doc
غنى النفسِ مِنْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ على الفردِ.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى