العبادات الفعلية والقولية المؤدية إلى تزكية النفس

العبادات الفعلية والقولية المؤدية إلى تزكية النفس






التزكية بناء شامخ يقوم على أسس وقواعد، كما يحتاج إلى وسائل وأعمال، لكي يحقق أهدافه ويثمر ثمراته ونتائجه.
والعمل بهذا البناء دائم لا يتوقف حتى الموت، لأن تزكية النفس عملية مستمرة، وترقيها في مقامات القرب من الله سبحانه لا حد له، وكل ذلك لا يخرج عن مقام العبودية لله سبحانه.
ولذلك كانت العبادة هي الطريق المؤدي إلى تزكية النفس، وبلوغها درجات التقوى، وقد خلق الله الخلق لعبادته، وأرسل الرسل يدعون إلى توحيد الله وعبادته سبحانه.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]
وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]
والعبادة تشمل جميع أعمال المرء الإرادية، قلبية كانت أو سلوكية، وقد عرفها الإمام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)[1].
والعبادة أصل معناها الذل، يقال: طريق معبد إذا كان مذللًا، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له، ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدًا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له[2].
ومن هنا كانت العبادة تحمل معنى الغاية والوسيلة في آن واحد، فهي غاية في حد ذاتها، لأنها قربة وطاعة لله وخضوع عملي له، وهي وسيلة من جهة أخرى نظرًا لما تحتوية من تمرين على الخضوع وإشعار به.
وقد أفاض الإمام الشاطبي رحمه الله في الحديث عن هذا المعنى مبينًا أن للعبادة مقصدًا أصليًا ومقاصد تابعة، فالمقصد فيها هو التوجه إلى الواح المعبود، وإفراده بالقصد إليه في كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة... ومن المقاصد التابعة للعبادة صلاح النفس واكتساب الفضيلة، والمقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها، فالصلاة مثلًا أصل، مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه... ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إلهيا من أنكاد الدنيا.[3]
وهكذا فإن المقصود بالعبادة أداء حق الله سبحانه، والخضوع بين يديه، وإظهار الذل والافتقار له، وامتثال أمره سبحانه فيما تعبد به خلقه، وهذه هي علة العبادات كلها، ثم تأتي تزكية النفس واستقامة الأخلاق ثمرة لازمة للعبادة.[4]
وبهذا التوضيح يزول اللبس في مسألة المقاصد والوسائل، فالأمر نسبي، بمعنى أن كل وسيلة هي غاية بالنسبة لغيرها، وكل غاية هي وسيلة لغيرها، فالصلاة هدف وغاية، وهي وسيلة لتزكية النفس وطهارة القلب، والوضوء وسيلة لتحقيق شرط من شروط صحة الصلاة، كما أنه غاية لأنه امتثال لأمر الله في تحقيق الطهارة والنظافة.
والذي دعاني إلى هذا التفصيل ما يروجه بعض الناس من دعاوى شريرة يبررون بها إعراضهم عن الفرائض والتكاسل عن أدائها، بحجة أنها مجرد وسيلة لتهذيب النفس، وإذا تم الوصول إلى تهذيب النفس بدون تلك الفرائض فلا حاجة إليها!
ولا شك أن الرد المحكم على دعاوى هؤلاء أن الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبادة حتى الموت مع ما كانت عليه نفسه الشريفة من تزكية وبلوغ لدرجات الكمال التي لا يرقى إليها بشر آخر ومع هذا أمره ربه بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، أي: الموت.
ولو أن هذا المدعي بأن نفسه قد تزكت وتهذبت بدون الفرائض يدرك المعنى الحقيقي لتزكية النفس، لعرف أن نفسه الشريرة مليئة بالأمراض وبعيدة كل البعد عن ما هي التزكية، وأنها نفس أمارة بالسوء تزين المنكر وتصد عن الطاعة.
نعود فنقول: إن للعبادة مقصدًا أصليًا، ولها مقاصد أخرى هي في حد ذاتها وسائل لغيرها، والوسيلة العظمى تحقيق تزكية النفس وطهاراتها، وشفائها من عللها، واستقامة السلوك وتقويم الأخلاق، مع تفاوت في أحكام هذه العبادات ودورها في التزكية.


الهوامش

[1] العبودية، للإمام ابن تيمية، ص 5.

[2] المرجع السابق، ص 9.

[3] الموافقات في أصول الأحكام، للإمام الشاطبي، ص1/126، وما بعدها.

[4] العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، ص115.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
العبادات الفعلية والقولية المؤدية إلى تزكية النفس.doc doc
العبادات الفعلية والقولية المؤدية إلى تزكية النفس.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى