أسماء الله الحسنى: التواب... الشيخ عبد العزيز الجليّل

أسماء الله الحسنى: التواب... الشيخ عبد العزيز الجليّل






إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛
فقد ورد اسمه سبحانه (التواب) في إحدى عشرة آية في القرآن الكريم منها تسع آيات اقترن فيها باسمه سبحانه (الرحيم) كما في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[البقرة: 37]، وقوله سبحانه: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، وقوله عز وجل : {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[الحجرات: 12].
 
وجاء في آية واحدة مقترنًا باسمه سبحانه (الحكيم) كما في قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ[النور: 10]. وجاء مفردًا في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر: 3].
 
المعنى اللغوي:
"التاء والواو والباء كلمة واحدة تدل على الرجوع، يقال: تاب من ذنبه أي رجع عنه، يتوب توبة ومتابًا فهو تائب، والتوب: جمع توبة مثل عزمة وعزم، قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[غافر: 3]، ورجل تواب: تائب إلى الله، والله تواب: يتوب على عبده"[1].
 
وقال الزجاجي: " (وتواب) على وزن (فَعَّال) من تاب يتوب وفعال من أبنية المبالغة، مثل: ضرَّاب للكثير الضرب، وقتَّال للكثير القتل"[2].
 
المعنى في حق الله عز وجل :
قال الطبري - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: "إن الله - جل ثناؤه - هو (التواب) على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه، وتوبة الله على عبده هو أن يرزقه ذلك ويؤوب من غضبه عليه إلى الرضا عنه ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه"[3].
 
وقال الزجاجي رحمه الله تعالى: "فجاء تواب على أبنية المبالغة لقبوله توبة عباده، وتكرير الفعل منهم دفعة بعد دفعة، وواحدًا بعد واحد على طول الزمان، وقبوله - عز وجل - ممن يشاء أن يقبل منه فلذلك جاء على أبنية المبالغة، فالعبد يتوب إلى الله - عز وجل - ويقلع عن ذنوبه، والله يتوب عليه أي: يقبل توبته. فالعبد تائب، والله تواب"[4].
 
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وكذلك التواب من أوصافه والتَوْبُ في أوصافه نوعان
إذن بتوبة عبده وقبولها بعد المتاب بمنة المنان"[5].
 
ويبين في موطن آخر المقصود من هذين البيتين بقوله: "فتوبة العبد محفوفة بتوبة من الله تعالى عليه قبلها، وتوبة ثانية منه عليه قبولاً ورضًا، فله الفضل في التوبة والكرم أولاً وآخرًا لا إله إلا هو"[6].
 
ويؤكد هذا المعنى الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - بقوله: "فهو التائب على التائبين أولاً: بتوفيقهم للتوبة، والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب على التائبين بعد توبتهم قبولاً لها وعفوًا عن خطاياهم"[7]، ووصف الله سبحانه نفسه بالتواب لكثرة من يتوب عليه، ولتكريره ذلك في الشخص الواحد حتى يقضي عمره.
 
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (التواب):
أولاً: محبة الله - عز وجل - والأنس به، لأنه سبحانه الرحيم بعباده ومن رحمته بهم ولطفه بهم أن وفق من شاء من عباده إلى التوبة والرجوع إليه، ثم قبل ذلك منهم، بل إنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إليه أشد ما يكون من الفرح، ويكفينا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخد بخطامها ثم قال من شدة الفرح: أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)[8]؛ فحري بمن هذا وصفه في رحمته بعباده أن يحب الحب كله، وأن يعبد وحده لا شريك له وأن تظهر آثار هذه المحبة بإخلاص العبادة له، والتقرب إليه بطاعته ومحبة من يحبه وما يحبه، وبغض من يبغضه وما يبغضه.
 
ثانيًا: إفراد الله - عز وجل - بالتوبة وطلب العفو وغفران الذنوب، لأنه لا يغفر الذنوب، ولا يوفق إلى التوبة ويقبلها إلا الله وحده، قال الله - عز وجل -: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ[الشوري: 25]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ[آل عمران: 135].
 
فالتوبة عبادة لله وحده شأنها شأن العبادات الأخرى كالصلاة والاستغاثة والاستعانة والاستغفار لا يجوز صرفها إلا إلى الله وحده فلا يتاب إلى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا من أذن الله له بالشفاعة بعد رضاه عن المشفوع ، وقد قال الله - عز وجل - لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].

وقد نصب بعض رهبان النصارى وغلاة الصوفية أنفسهم شركاء لله - عز وجل - فزعموا أن لديهم صلاحية غفران الذنوب والتوبة على العباد وهذا من إفكهم وضلالهم.
 
ثالثًا: الحياء من الله - عز وجل - البر الرحيم التواب الغفور الذي يفرح بتوبة عبده، وهذا الحياء إذا تمكن من القلب أثمر تعظيمًا لله - عز وجل - وحياءً منه، ومبادرة إلى طاعته وترك معاصيه قدر الجهد والاستطاعة.
 
رابعًا: المبادرة إلى التوبة النصوح عند الوقوع في المعصية مهما كان عظمها، وعدم اليأس من رحمة الله تعالى، والقوة في رجائه سبحانه، لأنه التواب الرحيم الغفور الودود، ولكن لا بد أن تكون التوبة صادقة نصوحًا حتى يقبلها الله - عز وجل - وينتفع بها العبد، وقد ذكر العلماء تفصيلاً لهذه الشروط، ومن ذلك ما ذكره الراغب الأصفهاني في المفردات، حيث يقول رحمه الله تعالى: "التوبة هي تَرْكُ الذنب على أجملِ الوجوه، وهو أبلغ وُجُوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه:
إما أن يقول المُعْتَذر: لم أفعل.
أو يقول: فعلتُ لأجل كذا.
أو فعلتُ وأسأتُ وقد أقلعت، ولا رابع لذلك. وهذا الأخير هو "التوبة".
 
والتوبة في الشرع هي تركُ الذنب لقُبحه، والنَّدم على ما فَرَط منه، والعزيمة على ترك المعاودِة، وتدارُكِ ما أمكنه أن يُتداركَ من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربعة فقد كمل شرائط التوبة"[9].

وأضاف أهل العلم شرطًا خامسًا إذا كان الذنب ناشئًا عن الاعتداء على حقوق العباد في نفس أو مال أو عرض، وذلك بأن يتحلل من أصحاب الحقوق ويعيد حقوقهم إليهم، وإن كان في كتم الحق وإضلال الناس فلا بد في التوبة من ذلك من بيان الحق المكتوم ورد الناس إلى الحق بعد تلبيسه عليهم.
 
خامسًا: حاجة العبد إلى التوبة في جميع مراحل عمره وأنها لا تفارقه ولا غنى له عنها وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومنزل "التوبة" أول المنازل، وأوسطها، وآخرها؛ فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات. وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، واستصحبه معه ونزل به. فالتوبة هي بداية العبد ونهايته. وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك. وقد قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 13] وهذه الآية في سورة مدنية، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة "لعلَّ" المشعرة بالترجي، إيذانًا بأنكم إذا تُبْتُمْ كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون. جعلنا الله منهم.
 
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَمَّ قِسم ثالث البتة. وأوقع اسم "الظالم" على من لم يَتُبْ. ولا أظلم منه، لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه وآفات أعماله. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فو الله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)[10] وكان أصحابه يَعُدُّونَ له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: (رب اغفر لي وتب عَلَيَّ إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة)[11] وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلى آخرها. إلا قال فيها: (سبحانك اللَّهم ربنا وبحمدك. اللَّهم اغفر لي)[12]؛ وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يُنْجِيَ أحدًا منكم عمله). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)[13].
فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله وحقوقه وعظمته، وما يستحقه جلاله من العبودية، وأعرفهم بالعبودية وحقوقها وأقومهم بها"[14].

والتوبة لا يستغني عنها أحد حتى الأنبياء - صلوات الله عليهم - لأنها ليست نقصًا، بل هي من الكمال الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به.
 
وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن معنى قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ[التوبة: 117]، والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر والصغائر؟
 
فأجاب رحمه الله تعالى: "الحمد لله، الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - معصومون من الإقرار على الذنوب، كبارها وصغارها، وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم، ويعظم حسناتهم، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وليست التوبة نقصًا، بل هي من أفضل الكمالات، وهي واجبة على جميع الخلق كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[الأحزاب: 72، 73]، فغاية كل مؤمن هي التوبة، ثم التوبة تتنوع كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين"[15].
 
الأسماء المقترنة باسمه سبحانه (التواب):
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (التواب) باسمه سبحانه (الرحيم):
جاء هذا الاقتران في تسع آيات من القرآن الكريم سبق ذكرها آنفًا ومنها قوله سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[الحجرات: 12]. ومناسبة هذا الاقتران - والله أعلم - هو أن توبة الله - عز وجل - على من يشاء من عباده بتوفيقهم إليها ثم قبولها منهم هو من آثار رحمة الله تعالى وبره وإحسانه، وكذلك كونه سبحانه لا يعاقب من تاب إليه ولا يرد من تاب إليه بصدق إن هو إلا برحمته سبحانه وفضله.
 
قال الطبري - رحمه الله تعالى - : "قال قتادة: {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 104]: إن الله هو الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفق من أحب توفيقه منهم لما يرضيه عنه، (الرحيم) بهم أن يعاقبهم بعد التوبة أو يخذل من أراد منهم التوبة والإنابة ولا يتوب عليه"[16].
 
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (التواب) باسمه سبحانه (الحكيم):
قال الله - عز وجل -: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10].
 الهوامش:
[1] انظر لسان العرب 1/454، والصحاح 1/91 - 92.
[2] اشتقاق أسماء الله ص 62.
[3] تفسير الطبري 1/195.
[4] اشتقاق الأسماء ص 63.
[5] النونية 2/231، البيتين 3306، 3307.
[6] انظر مدارج السالكين 1/339، ومفتاح دار السعادة 2/273.
[7] تفسير السعدي 5/300.
[8] مسلم (2747)، وانظر الروايات الأخرى للحديث عند مسلم (2744)، (2746).
[9] المفردات ص 76.
[10] البخاري (6307).
[11] مسلم (2702)، وأبو داود (1294).
[12] البخاري (794)، مسلم (484).
[13] البخاري (6463)، مسلم (2816).
[14] مدارج السالكين 1/178- 179.
[15] مجموع الفتاوى 15/51.
[16] تفسير الطبري 11/41.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
أسماء الله الحسناء التواب doc

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى