عمرة النبي صلى الله عليه وسلم ورمضان

عمرة النبي صلى الله عليه وسلم ورمضان





الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يؤكدُ على فضائلِ العمرةِ ويأمرُ بها أمته، إلا أن عمرةَ رمضان كان لها شأنٌ آخر.

 فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأةٍ من الأنصارِ: (ما منعك أن تحُجِّي معنا؟ قالت: لم يكن لنا إلا ناضحانِ. فحجَّ أبو ولدِها وابنُها على ناضحٍ. وترك لنا ناضحًا ننضحُ عليه. قال: فإذا جاء رمضانُ فاعتمِري، فإنَّ عُمرةً فيه تعدِلُ حجَّةً)([1]).

انظر إلى هذه المرأة، تخلفت عن الحجِ وفاتها ثوابُه، فيسألها الحبيب صلى الله عليه وسلم عن سببِ تقاعسها عن الحج، فتقول: "لم يكنْ لنا إلا ناضحانِ أي بعيرانِ نستقي بهما"([2]).

ليس لديهم إلا بعيران، "فحجَّ أبو ولدِها وابنُها على بعيرٍ وتركَ لهم بعيرًا يستقون به، فإذا بالحبيب صلى الله عليه وسلم يرشدُها إلى ما تعوضُ به ثوابَ الحجة التي فاتتها، فيقول: (فإذا جاءَ رمضانُ فاعتمري فإن عمرةً فيه تعدلُ حجةً).

وقوله صلى الله عليه وسلم (تعدل حجةً)، "أي تعادلها وتماثلها في الثوابِ لأن الثوابَ يفضلُ بفضيلةِ الوقت"([3]).

تأمل أخي القارئ في عظمِ ثوابِ العمرة في رمضانَ، تعدلُ ثوابَ حجة، وطبعًا "المراد من الحديث بيانُ فضلِ العمرةِ في رمضانَ وإعلامها أن ثوابَها كثوابِ حجةٍ لا أنها تقومُ مقامَها في إسقاطِ الفرضِ للإجماعِ على أن الاعتمارَ لا يجزئُ عن فرضِ الحجِّ"([4]).

أرأيتَ إلى فضلِ العمرةِ في رمضانَ، ثوابِ حجةٍ، ولكنها ليست حجةٌ عاديةٌ أيها الأخ الكريم، إنها تعدلُ ثواب حجةٍ مع خيرِ من وطأت قدماه الثرى، مع سيدِ الأنبياءِ والمرسلين كما تدلُّ عليها روايات أخرى.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمرةٌ في رمضانَ كحجةٍ معي)([5]).

ومع ذلكَ فهو صلى الله عليه وسلم لم يُكتبْ له أن يعتمرَ في رمضانَ بل اعتمرَ في الأشهرِ الحرمِ، فلماذا؟ هل العمرةُ في غيرِ رمضانَ أفضل؟ فإذا كانَ فكيفَ تعدلُ عمرةُ رمضانَ حجةً مع النبي صلى الله عليه وسلم.

أجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذه التساؤلات، فقال: "الذي يظهرُ أن العمرةَ في رمضان لغير النبي صلى الله عليه وسلم أفضلُ وأما في حقِّه فما صنعه هو أفضلُ، لأن فعلَه لبيانِ جوازِ ما كان أهلُ الجاهلية يمنعونَه فأراد الردَّ عليهم بالقولِ والفعلِ وهو لو كانَ مكروهًا لغيره لكانَ في حقِّه أفضل"([6]).

فما الذي كان يعتقده أهلُ الجاهلية وأرادَ أن يبطلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ويردَّ عليهم فيه ردًّا قاطعًا يدحضُ معتقدهم؟ كانوا كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "كانوا يرونَ أن العمرةَ في أشهرِ الحجِّ من أفجرِ الفجورِ في الأرضِ"([7]).

وهناكَ رأيٌ آخر يفسرُ عدم أداءِ النبي صلى الله عليه وسلم العمرةَ في رمضانَ، فـ "يحتملُ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يشتغلُ في رمضانَ من العبادةِ بما هو أهمُّ من العمرةِ وخشي من المشقةِ على أمته إذ لو اعتمرَ في رمضانَ لبادروا إلى ذلك معَ ما هم عليه من المشقةِ في الجمعِ بين العمرةِ والصومِ وقد كان يتركُ العملَ وهو يحبُّ أن يعملَه خشيةَ أن يفرضَ على أمتِه وخوفًا من المشقة عليهم"([8]).

لقد اعتمرَ النبي صلى الله عليه وسلم أربعَ مرات، أولها عمرةُ الحديبية في السنة السادسةِ من الهجرة، وعمرةُ القضاءِ في السنة التي تلتها، وعمرةُ الجعرانة في السنة الثامنةِ من الهجرة، وسميت بالجعرانةِ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "دخلَ مكةَ ليلًا وأدّى مناسك العمرةِ، ثم خرج منها ليلًا، فبات بالجعرانةِ حتى أصبحَ وزالت الشمسُ من اليوم التالي فتوجَّه إلى المدينة"([9]).

وأما العمرةُ الرابعة تلك التي أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حجتِه الوحيدةِ، والمعروفةُ بحجة الوداعِ، قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأشهر قليلة.

والعمرة خطوة لتكفير الذنوب، فمنْ منَّا لم يتلبسْ بالذنوبِ والمعاصي، لكن الله تعالى الرحمن الرحيم، قد شرعَ لنا ما يتجاوزُ به عن ذنوبِنا، ومنها العمرة يقول صلى الله عليه وسلم: (العمرةُ إلى العمرةُ كفارةٌ لما بينهما)([10])، كفارةٌ، مغفرةٌ، تمحوا ما بينهما من الذنوب.

ولذا يوجهنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى عدمِ الإطالةِ في الفصلِ بين العمرةِ والعمرةِ، لما فيها من فضلٍ عظيمٍ، ليس فقط مغفرةَ الذنوبِ، ولكن معها كذلك سعةَ الرزقِ والغنى، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (تَابِعُوا بين الحجِّ والعمرةِ، فإنَّهما ينفيانِ الفقرَ والذنوبَ، كما يَنفي الكيرُ خَبَثَ الحديدِ والذهبِ والفضةِ)([11]).

"(ينفيانِ) أي كل منهما (الفقر) أي يزيلانِه وهو يحتملُ الفقرَ الظاهرَ بحصول غنى اليدِ والفقرَ الباطن بحصول غنى القلبِ (والذنوب) أي يمحوانها"([12]).

هلمَّ بنا نتخطى بخيالنِا ومشاعرِنا حواجز الزمن الفائت إلى عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعالوا نتخيلُ إمامنا وحبيبنا وهو يؤدي مناسكَ العمرةِ كما علمنا إياها.

ها هو الحبيب صلى الله عليه وسلم يبدأ بالاغتسالِ والتطيبِ عند وصولِه الميقات، حتى أن وبيصَ المسك يُرى في رأسِه ولحيتِه، يتطيبُ صلى الله عليه وسلم في إقبالِه على ربِّه في العمرةِ، وبعدها يلبسُ ملابسَ الإحرامِ، ويصلي الفريضةَ إن كان وقت الفريضة، وإلا فنافلة، ثم يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم تلك الكلمةَ الخالدةَ، التي يشعُ منها نورُ الاتباعِ والانقيادِ والاستسلامِ لأوامرِ رب العالمين، يقول: لبيكَ عمرة، لبيكَ اللهم لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لك لبيكَ، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملكُ لا شريكَ لك، فيجددُ عهدَه مع الله تعالى في الاستسلامِ المطلقِ له عز وجل.

وها هو يقتربُ من مكةَ فيغتسلُ قبل دخولِها، فإذا دخلَ المسجدَ الحرامَ قدم رجله اليمنى وقال: (بسم الله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتحْ لي أبوابَ رحمتك، أعوذُ بالله العظيم، وبوجهِه الكريم، وبسلطانِه القديم من الشيطان الرجيم).

ثم يتقدمُ صلواتُ الله وسلامُه عليه إلى الحجرِ الأسودِ ليبتدئَ الطوافَ فيستلمُ الحجرَ بيدِه اليمنى ويقبله، أتدرونَ من أين أتى ذلكَ الحجر؟ لقد أتى من الجنةِ أيها الأحبة، أتى من وطنِكم الأولِ، والذي نزلَ منه إلى السماءِ أبونا آدم وأمُّنا حواءُ.

وبسبب المخالفة تغير لونُ هذا الحجر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نزلَ الحجرُ الأسودُ من الجنةِ وهو أشدُّ بياضًا من اللبنِ فسودته خطايا بني آدم)([13]).

سبحان الله، كأنَّ الله أرادَ لنا أن نرى قطعةً من الجنةِ على أرضِنا لتذكرَنا بوطنِنا الذي نشتاقُ إلى العودةِ إليه كما قال ابن القيم رحمه الله:

فحي على جنات عدن فإنها               منازلنا الأولى وفيها المخيم

ولكن هذه القطعةَ من الجنةِ البيضاءِ النقيةِ، سودتها خطايا بني آدم، فنرى الحجرَ على هذا الحال، فتعافُ نفوسنا الذنوبَ والخطايا، ونفرُ منها إلى رب العالمين.

قبَّله النبيُّ صلى الله عليه وسلم ونحن نقبله، ليس لالتماسِ البركةِ، إنما الأمرُ أيها الأحبة تعبدي، محضُ اتباعٍ لأوامرِ الله تعالى، فالحجرُ لا ينفعُ ولا يضرُ، وهنا يطالعنا الفاروقُ عمر بن الخطاب وهو يقبل الحجر، ويقول: "إني أعلمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفعُّ ولولا أني رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقبلُك ما قبلتُك"([14]).

ثم يأخذُ الحبيبُ صلى الله عليه وسلم ذاتَ اليمينِ ويجعلُ البيتَ عن يسارِه، فإذا بلغَ الركنَ اليماني استلمه من غير تقبيل، قائلًا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يطوفُ حولَ البيت، مقتفيًا آثار أبيه إبراهيم عليه السلام، والذي شيدَّ بيتَ الله الحرام، ليكون كعبةَ أهلِ الدنيا، تهوى إليه أفئدةُ الناسِ ويفدون إليه من كلِّ فجٍ عميق.

يطوفُ حول البيتِ رافعًا رايةَ التوحيدِ الذي استلمَ رايتَها من نفسِ المكانِ الذي رفعَها فيه إبراهيم، من الأرضِ الحرامِ منبعَ التوحيدِ الذي أرسلَ أنوارَه في بقاعِ الأرض.

ويتم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الطوافَ سبعةَ أشواطٍ ويتقدمُ إلى مقامِ إبراهيمَ ويقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ثم يصلى ركعتين خلفه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بعد الفاتحة، فإذا فرغَ من صلاةِ الركعتين رجعَ إلى الحجرِ الأسودِ فيستلمه.

ويخرج بعدَها الحبيبُ صلى الله عليه وسلم إلى المسعى فإذا دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا و َالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} ثم يرقى على الصفا حتى يرى الكعبةَ فيستقبلُها ويرفعُ يديه فيحمدُ اللهَ ويدعو ما شاءَ أن يدعو. وكان من دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن: (لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجزَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده، يكرر ذلك ثلاثَ مرات ويدعو بين ذلك).

في كلِّ حركةٍ في كلِّ كلمةٍ في كلِّ غدوةٍ وروحةٍ، يرفعُ لواء التوحيد صلى الله عليه وسلم.

ثم ينزلُ من الصفا إلى المروةِ ماشيًا، فإذا بلغَ العلمَ الأخضرَ ركضَ ركضًا شديدًا بقدر ما يستطيعُ ولا يؤذي، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسعى حتى ترى ركبتاه من شدةِ السعي يدورُ به إزاره.

فإذا بلغ العلم الأخضر الثاني مشى كعادتِه حتى يصلَ إلى المروةِ فيرقى عليها، ويستقبلُ القبلةَ ويرفعُ يديه ويقولُ ما قاله على الصفا، ثم ينزلُ من المروةِ إلى الصفا فيمشي في موضعِ مشيه، ويسعى في موضعِ سعيه، فإذا وصلَ الصفا فعل كما فعلَ أولَ مرة، وهكذا المروةُ حتى يكملَ سبعةَ أشواطٍ يذكر خلالها جميعًا ربه جل وعلا.

يسعى صلى الله عليه وسلم مجددًا للعالمين ذكرى عطرة، ذكرى تلكَ السيدةِ المؤمنةِ التقيةِ أم إسماعيل عليه السلام، تلك التي وضعها زوجُها نبي الله إبراهيم بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتِ الله المحرم، أمرًا من عند الله تبارك وتعالى، يتركُها ورضيعَها مع شيءٍ من طعامٍ وسقاءٍ، وينصرفُ عنهما وهي تلاحقُه فلا يجيبها، فإذ بها تقول: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالتْ بكلِّ ثقةٍ ويقينٍ بالذي يرزقُ الطيرَ والوحشَ والإنسَ والجنَ: إذًا لن يضيعَنا الله.

وينفدُ الطعامُ والشرابُ ويجفُّ لبنُها ويجوعُ الرضيعُ، فإذ بها تسعى، تبحث، تأخذُ بالأسبابِ، تتردد سبع مرات، سبعَ أشواطٍ بين الصفا والمروة، لتصير سنة للبشرية جمعاء.

حتى إذا أتمها الحبيب صلى الله عليه وسلم حلقَ شعرَ رأسِه، وتحللَ من عمرتِه، ليتركَ لأمته على مر العصورِ عبيره وشذاه، يتسللُ إلى أوصالِنا ليهتفَ بنا: أن هلموا إلى العمرةِ، عمرة كعمرةِ حبيبِكم صلى الله عليه وسلم.

وفي الختام، أو ما تشتاقونَ إلى عمرةٍ تنالون فيها ثوابَ الحجِّ مع سيدِ الأنبياءِ والمرسلين وحبيبِ رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم؟

كأني أسمعُ نبضاتَ تلك القلوبِ النقيةِ العامرةِ بمحبةِ الله ورسوله، وتلك الألسنةِ الذاكرةِ الطيبةِ تقول بكل صدق: نعمْ نشتاقُ، نعم نشتاقُ، فأقول لأحبتنا: هلموا إلى عمرةٍ في رمضان.

 



([1]) صحيح مسلم، (2201).

([2]) شرح النووي على صحيح مسلم، (9/2).

([3]) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للمباركفوري، (8/306).

([4]) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 307)

([5]) صحيح الجامع، (4098).

([6]) فتح الباري، (3/605).

([7]) متفق عليه، البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب(1462)، ومسلم، (2178).

([8]) المصدر السابق نفسه.

([9])منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري، حمزة محمد قاسم، (3/155).

([10]) متفق عليه، البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت (1650)، ومسلم، (2403).

([11]) صححه الألباني في مشكاة المصابيح، (2524).

([12]) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 389)

([13]) صححه الألباني في صحيح الجامع، (6756).

([14]) رواه البخاري، (1506).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
عمرة النبي صلى الله عليه وسلم ورمضان.doc doc
عمرة النبي صلى الله عليه وسلم ورمضان.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى