فضل رمضان وبركته

فضل رمضان وبركته





إن الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد، فقد كان صلى الله عليه وسلم يبشرُ أصحابَه بقدومِ رمضانَ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشرُ أصحابَه يقول: (أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مِرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ)([1]).

فكان صلى الله عليه وسلم يحتفي باستقبالِ شهرِ رمضانَ المبارك، ويُهَيِّئُ أصحابَه رضي الله عنهم للاجتهادِ فيه بذكرِ خصائِصِهِ وتضاعيفِ الأجورِ فيه وفضلهِ، وهكذا ينبغي أن يسير دعاةَ الحق وحراسَ الفضيلةِ على هذه السنةِ العظيمة، وأن يبشروا الناس برمضانَ ويعرفوهم بفضله وبركاته، ويدلُّوهم على حسنِ استثمارِ أوقاتِه وتحصيلِ حسناته؛ ليعمَّ البشرَ والسعادةَ، ويذيعَ الفرحَ والأنسَ بقدوم هذه الطاعةِ، وتكون النفوسُ أكثرُ ما تكون تهيؤًا لها، واشتغالًا بالبحثِ عن الكيفياتِ المثلى لاستثمارهِا والجَنْيِ من حسناتِها، بدلًا من الانغماسِ في توفيرِ الملذاتِ والعنايةِ بالمطعوماتِ بصورةٍ كادت أن تنزلَها في موقعِ الغاياتِ، فضعفتْ بذلك مقاصدُ الصيام، وفاتَ أكثرُها على كثير من المسلمينَ، نسأل ربَّنا الرحمن الهدايةَ والسداد([2]).

لقد جاءكم شهرُ رمضان، شهرُ الخيرِ والبرِّ والإحسان، وأطلَّت عليكم لياليَ الجودِ والغفران، وأهلَّ عليكم هلالُه المباركُ الذي طالما تاقت له النفوس، وهفتْ إليه الأرواحُ، وسُكبت لمَقْدَمِه العبراتُ، هلالٌ مباركٌ كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرُه بفارغِ الصبرِ والترقبِ، حتى إذا ما انبثقَ وظهرَ في طرفِ السماءِ استبشر صلى الله عليه وسلم قائلًا: (اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ)([3]).

جاءَ رمضانُ بما فيه من خيرٍ وبركةٍ، جاءَ رمضانُ يحمل البشريات للعاملينَ، ويُبْهِجُ بطيبِ أيامه قلوبَ المتقينَ، جاء رمضانُ فرصةً للعابدينَ، جاء رمضانُ ليغسلَ ذنوبَ التائبين النادمينَ، جاء رمضانُ ليرفعَ في الجنةِ درجاتِ المحبينَ الصادقينَ، جاء رمضانُ فهل من مشمرٍ؟ جاء رمضانُ فإليكم بعضُ مناقبِه، لعلكم تَقْدُرُونَ الضيفَ قَدْرَه، لعلكم تعرفونَ مكانَتَه وفضلَهُ.

كان صلى الله عليه وسلم يقولُ لأصحابِه فيما يرويه عن ربه: (كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلا الصومُ فأنه لي وأنا أجزي به)([4]).

وكانَ صلى الله عليه وسلم يقولُ لأصحابِه: (الصيامُ والقرآنُ يشفعان للعبدِ يومَ القيامةِ، يقول الصيام: أي ربِّي منعتُه الطعامَ والشهوةَ فشفعني فيه، ويقولُ القرآنُ: منعتُه النومَ بالليلِ فشفعني فيه، قال: فيشفعان)([5]).

وكان صلى الله عليه وسلم يقولُ لأصحابه: (إن في الجنةِ غرفًا، يُرى ظاهرُها من باطنِها، وباطنُها من ظاهرِها، أعدها اللهُ لمن أطعمَ الطعامَ وألانَ الكلامَ وتابعَ الصيامَ وصلى والناس نيام)([6]).

ورمضانُ هو الشهر الذي اختاره الله واصطفاه ليكون ميقاتًا لنزول كتبه ورسالاته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ)([7]).

وقد اختصه الله تعالى بنزول القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].

قال ابن جرير الطبري: (نزلَ القرآنُ من اللوحِ المحفوظِ إلى سماءِ الدنيا في ليلةِ القدرِ من شهرِ رمضانَ، ثم أنزلَ إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليهِ.

وعن ابن عباس: أُنزلَ القرآنُ في ليلةِ القدرِ من السماءِ العليا، جملةً واحدةً، ثم فرِّق في السنين بعدُ. قال: وتلا ابن عباس هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] قال: نزل مفرقًا)([8]).

وكان جبريلُ عليه السلام يلقى النبيَّ صلى الله عليه وسلم كلَّ ليلة في رمضان، يعرض عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم القرآنَ([9])، وفي العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم عارَضَه جبريلُ القرآنَ مرتين([10]).

فالقرآنُ كتابُ هذه الأمةِ، هو روحُها وباعثُها، وقوامُها وكيانُها، وهو حارسُها وراعيها، هو بيانها وترجمانُها، هو دستورُها ومنهجُها، وهو زادُ الطريق.

ولكن (سيظلُ هناك حاجزٌ سميكٌ بين قلوبنا وبين القرآنِ طالما نحن نتلوه كأنَّه مجردُ تراتيلَ تعبدية، لا علاقةَ لها بواقعِ الحياةِ البشريةِ، بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسًا ووقائعَ وأحداثًا حية، لقد خاضَ بهذه الأمة معركةً كبرى حوَّلت تاريخها وتاريخَ البشريةِ كلِّها معها، ولكنه مع هذا يعايشُ ويواجهُ ويملك أن يوجه الحياةَ الحاضرةَ، وكأنما هو يتنزلُ اللحظةَ الأخيرةَ لمواجهة الجماعةِ المسملةِ في شئونها الجارية وفي صراعِها الراهن، وفي معركتِها كذلك في داخلِ النفسِ وفي عالمِ الضمير)([11]).

فنحن في حاجةٍ لتعاملٍ مختلفٍ مع القرآن، نقرأوه لنطبقَه، لا يكون همُّنا كم مرةٍ ختمت، ولكن همَّنا كم آيةٍ طبقت.

وفي رمضانَ كان صلى الله عليه وسلم أجودَ ما يكون، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضانَ حين يلقاه جبريلُ، وكان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضانَ فيدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريحِ المرسلةِ) ([12]).

وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلًا إلَّا ألَّا يجد، حتى إنه ربما سأله رجلٌ ثوبَه الذي عليه؛ فيدخل بيته ويخرج وقد خلع الثوبَ فيعطيه السائل([13]).

ويعطي صلى الله عليه وسلم عطاءَ من لا يخشى الفقرَ، فقد حدث أن أعطى غنمًا بين جبلين([14]).

فرمضانُ شهرُ الجودِ والبذلِ والعطاءِ، فالصدقةُ تطهرُ نفسَ المؤمن وماله، وتحفظ عليه النعمةَ، وتدفع عنه الآفاتِ والمصائبَ وتقيه مصارعَ السوء، وتكون حارسًا عظيمًا على نفسِه وأهلِه، وبالصدقةِ تأتلفُ القلوبُ وتزول الضغائنُ، حتى يستشعر المؤمنُ حلاوةَ الإسلام الذي دفعَ الغنيَّ لا للتصدقِ على الفقير، إنما لإعادةِ حقِّه الذي فرضه ربنا سبحانه في مالِ الغني، فلنحسنْ إلى فقرائِنا، ولننشلهم من مذلةِ المسألة، ولنشعرهم بالعزةِ والكرامةِ وحياةِ الشرفاءِ.

وحبذا لو كانت الصدقةُ في السرِّ، فقد جاء في الحديث الذي رواه الطبراني بسند حسن، عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (صنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ، وصدقةُ السرِّ تطفئُ غضبَ الربِّ، وصلةُ الرحمِ تزيد في العمر)([15]).

ورمضان شهر الصبر، فإن الصبرَّ لا يتجلى في شيء من العبادات تجليه في الصوم، حيث يحبس المسلم نفسه: عن الأكلِ، والشربِ، والجماعِ، وغيره في النهار طوال شهرٍ كاملٍ؛ ولهذا كان الصوم نصف الصبرِ وجزاء الصبر الجنةَ، كما يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وفيه ليلةُ القدرِ، التي هي خير من ألف شهر، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [القدر: 1 - 5].

وقد حسبَ بعضُ أهلِ العلمِ ألفَ شهرٍ، فوجدوها تزيد على ثلاثٍ وثمانينَ سنة، وإنه لفضلٌ عظيمٌ أن يدركَ العبدُ ليلةَ القدرِ؛ فيكون قد أدركَ فضلَ ثلاثَ وثمانينَ سنة أو أكثر، فوالله لا يُحرمُ خيرَها إلا محرومٌ، وقيامها فيه غفرانُ ما تقدمَ من الذنوبِ، فيالها من نعمة على المؤمنينَ سابغة.

وفيه دعاءٌ مستجابٌ، فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ لله في كلِّ يومٍ وليلةٍ عتقاء من النار في شهرِ رمضانَ، وإنَّ لكلِّ مسلمٍ دعوة يدعو بها فيستجابُ)([16]).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ للصائمِ عندَ فطرِه لدعوةٌ ما تردُّ)([17])، فليحرصْ العبدُ عند إفطارِه على التضرعِ إلى الله تعالى بجوامعِ الكلمِ.

وفي رمضانَ تجتمعُ أمهاتُ الطاعات، فالصلاةُ والصياةُ وزكاةُ الفطرِ، فيه فرائضُ واجبةٌ، ثم هناك تلاوةُ القرآنِ والذكرُ والدعاءُ والصدقةُ والعمرةُ وإطعامُ الطعامِ، من المستحباتِ المؤكداتِ، وحصولُ هذه الطاعاتِ وغيرِها في هذا الشهرِ يجعلُه بمثابةِ توبةِ أمة، فأين المشمرون؟

ويضافُ لاجتماع هذه الطاعات اجتماعُ المسلمين لأدائها، فجماعيةُ الطاعةِ في رمضان تبعثُ في النفسِ نشاطًا وثباتًا، فالناسُ كلهم صائمون، ويجتمعون في صلاةِ التراويح، والنفسُ من عادتِها أنها تنشطُ عند المشاركةِ، وهكذا يشتدُّ أزرُك في العبادةِ بكثرةِ المشاركينَ لك فيها.

وختامًا، فقد أقبل عليكم رمضانُ والخيرَ والفضلَ كلَّه معه، فأحسنوا جوارَه وإكرامَه، جدوا فيه واجتهدوا، توبوا فيه وارجعوا، أكثروا فيه من الذكرِ والاستغفارِ وتلاوةِ القرآنِ والصدقةِ والسعي لقضاءِ حوائجِ المسلمين، عسى الله أن يعتقَ رقابَنا من النارِ إنه جواد كريم.

فإن رمضانَ أيامٌ معدودات، وفرصٌ سانحات، وإن اغتنامَ هذه الأيام لدليلٌ على الحزمِ، وإن انتهازَ تلكَ الفرصِ لعنوانُ العقلِ، ذلكم أن الوقتَ رأسُ مالِ الإنسان، ولئن كان حفظُ الوقتِ مطلوبًا في كلِّ حين، فلهو أولى وأحرى بالحفظ في الأزمنةِ المباركةِ، ولئن كان التفريطُ فيه وإضاعته قبيحًا في كل زمان، فإن قبحَ ذلك يشتد في المواسمِ الفاضلة.

فحريٌّ بكل عاقلٍ أن يغتنمَ هذه الأوقاتِ المباركاتِ ويجتهدَ فيها بصالحِ الطاعاتِ، ويتنقل فيه بين روضاتِ العباداتِ، من صلاةٍ وصيامٍ، وقراءةٍ للقرآن، وذكرٍ ودعاءٍ، وصدقةٍ وبرٍّ، وغيرها من القربات.


almagdy3@gmail.com 

([1]) رواه أحمد وصححه شعيب الأرنؤوط.

([2]) هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فيصل بن علي البعداني، ص14-15، بتصرف يسير.

([3]) رواه أحمد وحسنه شعيب الأرنؤوط بشواهده.

([4]) رواه البخاري ومسلم.

([5]) رواه احمد 2/174 وصححه الالباني  في صحيح الترغيب والترهيب 1429.

([6]) رواه احمد وحسنه الالباني  احمد 5/343  وصححه الالباني  في صحيح الجامع 2123.

([7]) رواه أحمد وحسنه الألباني.

([8]) تفسير الطبري (2/114-115).

([9]) متفق عليه.

([10]) متفق عليه.

([11]) من وحي القلم.

([12]) متفق عليه.

([13]) أخرجه البخاري.

([14]) أخرجه مسلم.

([15]) رواه الطبراني، وحسنة الهيثمي في مجمع الزوائد.

([16]) أخرجه البزار، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.

([17]) أخرجه ابن ماجه.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
فضل رمضان وبركته.doc doc
فضل رمضان وبركته.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى