تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه في رمضان

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه في رمضان





الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي

إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لزوجته عائشةَ حين قالت له: يا رسولَ الله أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةٍ القدرِ ما أقول فيها؟ قال: قولي: (اللهمَّ إنَّك عفوٌّ كريمٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي)([1]).

وقالت السيدةُ عائشةُ رضي الله عنها لمعاذةَ حينما سألت: ما بالُ الحائضُ تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاةَ؟ فقالت رضي الله عنها: (كانَ يصيبُنا ذلك فنؤمرُ بقضاءِ الصومِ ولا نؤمرُ بقضاءِ الصلاةِ)([2]).

وكلُّ ذلكَ يدلُّ على حجمِ العنايةِ التي أولاها صلى الله عليه وسلم لتعليمِ نسائِه وإرشادِهن؛ ومن تأملَ اليومَ واقعَ كثيرٍ من نساءِ أسرِنا بما في ذلك أسرِ بعضِ الدعاةِ وجدَ جهلًا ظاهرًا فيما لا يسعُ المرأةُ المسلمةُ جهلَه من أحكامِ الدينِ، وفيما عليه مدارُ أكثرِ عملِ المرأةِ المسلمةِ من واجباتٍ ومستحباتٍ.

وقدْ كانَ حريصٌ صلى الله عليه وسلم أنْ يعرفنَ حالَه وعبادتَه، وفي ذلك تربيةٌ بالقدوةِ وتأثيرٌ بالسلوكِ منه صلوات ربي وسلامه عليه.

تقول أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رضي الله عنها: (كانَ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى صلاةً أحبَّ أن يداومَ عليها، وكان إذا غلبَه نومٌ أو وجعٌ عن قيامِ الليلِ صلى من النهارِ ثنتي عشرةَ ركعة، ولا أعلمُ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قرأَ القرآنَ كلَّه في ليلةٍ ولا صلى ليلةً إلى الصبح، ولا صامَ شهرًا كاملًا غير رمضان) ([3]).

فأين أولئكَ الأخيارُ الذين يعيشونَ جوانبَهم الدعويةِ والعلميةِ والتعبديةِ في خفاءٍ، وهم بعيدونَ كل البعدِ عن أسرهِم وأهاليهم.

ثم يقومُ صلى الله عليه وسلم بحَثِّ أهلِه على العبادةِ وعلى الطاعةِ؛ تقول أم سلمة رضي الله عنها: (كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا بقيَ من الشهرِ عشرةُ أيامٍ لم يذر أحدًا من أهلِه يطيقُ القيامَ إلا أقامَه)([4]).

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: (كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجاورُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ، ويقول: تحروا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ)([5]).

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم وليَّ المرأةِ من منعهنَّ المساجد فقال: (لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ)([6])؛ إذا لم يصحبْ حضورَها محظورٌ، وأمنت الفتنةُ، وحافظت على الحجابِ الشرعي، وابتعدتْ عن الطِّيبِ ولباسِ الزينة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ)([7]).

ومنْ أجملِ ما قيلَ في هذا البابِ وقوفُ الفاروقِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه عند حدودِ ربه تعالى وعندَ كلامِ رسوله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمرَ رضي الله عنهما كانتْ امرأةٌ لعمر تشهدُ صلاةَ الصبحِ والعشاءِ في الجماعةِ في المسجدِ.

فقيل لها: لم تخرجينَ وقدْ تعلمينَ أن عمرَ يكرهُ ذلكَ ويغارُ؟

قالت: وما يمنعُه أن ينهاني؟ قال: يمنعُه قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله)([8]).

هكذا كانَ يحرصُ النبيُّ صلى الله عليه وسلمَ أن يعلمَ زوجاتِه ويحثهنَّ على العبادةِ والطاعةِ، ومع أن المسئوليةَ تقعُ على الزوجةِ بالأساسِ لكنه لا يمكن إغفالُ التقصيرِ من الزوجِ أو الأبِ وهو لاشك داخلٌ في إطارِ تضييعِ الأمانةِ وعدمِ القيامِ بالمسئوليةِ الواجبةِ ويكفى تحذيرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقولِه: (كلكمْ راعٍ وكلكمْ مسئولٌ عن رعيتِه، فالرجلُ راعٍ في بيتِه وهو مسئولٌ عن رعيتِه) ([9]).

وقال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرءِ إثمًا أن يضيعَ منْ يقوت)([10]).

وتقصيرُ أولياءِ الأمورِ في التربيةِ وما يرتبطُ بها من وعظٍ وتذكيرٍ وترغيبٍ ونحوِها من الطرقِ للتعليم والتأثيرِ هو اليومَ أكثرُ وضوحًا من التقصيرِ في التعليم.

يستوى في هذا الضعفِ الصلحاءُ وغيرُهم، ولذا أُشربت نفوسُ العديدِ من فتياتِنا الشبهاتِ التي يبثها في أوساطِهن مَنْ لا يريدُ للأمة عزًّا ولا للنساءِ عفةً وتدينًا وتعلقتْ عامتُهن بالشهواتِ المهلكةِ.

لذلك رأينا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم في رمضانَ إذنَه لزوجاتِه بالاعتكافِ معه، فعن عائشة رضي الله عنها (أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ذكرَ أن يعتكفَ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ، فاستأذنته عائشةُ فأذنَ لها وسألتْ حفصةُ عائشةَ أن تستأذنَ لها ففعلت)([11]).

ومن خلال هذا الاستئذانِ تتجلى لنا بصورةٍ مشرقةٍ القوامةُ المسئولةُ التي تحافظُ على استقرارِ الأسرةِ المسلمةِ وتعززُ الاحترامَ وتعمقُ الاطمئنانَ والثقةَ المتبادلةَ بين أفرادِها.

يقول تعالى في سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء : 34].

قال ابن كثير: (الرجلُ قيمٌ على المرأةِ، أي هو رئيسُها وكبيرُها والحاكمُ عليها ومؤدبُها إذا اعوجت)([12]).

وفي إذنِه صلى الله عليه وسلم لأزواجِه بالاعتكافِ دلالةٌ ظاهرةٌ على أن الاعتكافَ ليس خاصًّا بالرجالِ بل يعمُّ أيضًا النساء، لكنه مقيدٌ بإذنِ أوليائِهنَّ وأمنِ الفتنةِ عليهنَّ وضمانِ عدمِ الخلوةِ بالرجالِ الأجانبِ.

وكان صلى الله عليه وسلم حينَ يخرجُ لصلاةِ الجماعةِ بالمسجدِ يدعو أهلَه ونساءَه؛ ففي حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه؛ وفيه قال: (ثمَّ لم يُصلِّ بنا حتى بقي ثلاثٌ من الشهر، وصلى بنا في الثالثةِ ودعا أهلَه ونساءَه فقامَ حتى تخوفنا الفلاحَ؛ فقلت: وما الفلاحُ؟ قال: السحور)([13]).

وانظر إلى حرصه صلى الله عليه وسلم بتربيتهنِ والاهتمامِ بتعلميهن؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اعتكفَ مع بعضِ نسائِه وهي مستحاضةٌ ترى الدمَ، فربما وضعت الطستَ تحتها منَ الدم)([14]).

وهذه المشاركة في الخير ما كانت لتحدث لولا العنايةُ العميقةُ منه صلى الله عليه وسلم بتربيةِ زوجاتِه وأهلِ بيتِه، وحرصِه على أن يكونَ سببًا في نجاتِهم يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ.

وللنساءِ أوفرُ نصيبٍ في حفظِ زوجِها ومعاونتِه على الخيرِ والعملِ الصالحِ؛ فها هي فاطمةُ بنت عبد الملك بن مروان تحفظُ زوجَها أميرَ المؤمنين الخليفةَ الراشدَ عمرَ بن عبد العزيز في حياتِه وبعد موته:

(ففاطمةُ بنتُ أميرِ المؤمنين عبد الملك بن مروان كان لأبيها يوم تزوجت السلطانَ الأعظم على الشامِ والعراقِ والحجازِ واليمنِ وإيرانَ والسندَ وقفقاسيا والقرم وما وراء النهرِ إلى نجارا وجنوةَ شرقًا، وعلى مصرَ والسودانِ وليبيا وتونسَ والجزائرِ والمغربِ الأقصى وإسبانيا غربًا، ولم تكن فاطمة هذه بنت الخليفة الأعظمْ وحسبْ بل كانت كذلك أختَ أربعةٍ من فحول خلفاء الإسلام وهم: الوليدِ بن عبد الملك وسليمانَ بن عبد الملك ويزيدَ بن عبد الملك وهشامِ بن عبد الملك.

وكانت فيما بين ذلك زوجةُ أعظمَ خليفةٍ عرفه الإسلام بعد خلفاء الصدر الأولِ وهو أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وهذه السيدة خرجت من بيت أبِيها إلى بيتِ زوجها يوم زفت إليه وهي مثقلة بأثمن ما تملكه امرأةٌ على وجهِ الأرضِ من الحليِّ والمجوهراتِ ويقال: إن من هذه الحلي قرطي ماريةَ اللذين اشتهرا في التاريخِ وتغنَّى بهما الشعراءُ وكانا وحدهما يساويان كنزًا.

ومن فضول القول أن أشيرَ إلى أن عروسَ عمر بن عبد العزيز ـ في الوقت الذي كان فيه أعظم ملوك الأرض- اختار أن تكون نفقةَ بيتهِ بضعةَ دراهمَ في اليومِ ورضيت بذلك زوجةُ الخليفةِ التي كانتْ بنت الخليفةِ وأخت أربعةٍ من الخلفاء، بل اقترح عليها زوجها أن تترفعَ عن عقليةِ الطفولةِ فتخرجُ عن هذه الألاعيب والسفاسف التي كانتْ تبهرجُ بها أذنيها وعنقَها وشعرَها ومعصميها مما لا يسمنُ ولا يغني من جوعٍ، ولو بيعَ لأشبع ثمنه بطونَ شعبٍ برجالِه ونسائِه وأطفالِه، فاستجابتْ له واستراحتْ من أثقالِ الحليِّ والمجوهراتِ واللآلئِ والدررِ التي حملتْها معها من بيتِ أبيها فبعثتْ بذلك كلِّه إلى بيتِ مال المسلمين.

وتوفي أميرُ المؤمنينَ عمر بن عبد العزيز ولم يخلفْ لزوجتِه وأولادِه شيئًا، فجاءَها أمينُ بيت المالِ وقال لها: إن مجوهراتك يا سيدتي لا تزال كما هي، وإني اعتبرتُها أمانةً لك وحفظتُها لهذا اليوم، وقد جئتُ أستأذنُك في إحضارِها، فأجابتْه بأنها وهبتْها لبيتِ مالِ المسلمينَ طاعةً لأميرِ المؤمنين، ثم قالت: وما كنتُ لأطيعُه حيًّا وأعصيه ميتًا!! 



([1]) رواه مسلم، (1147).

([2]) رواه مسلم، (335).

([3]) رواه مسلم، (746).

([4]) قيام مضان، المروزي، (746)، وهو حديث حسن لغيره.

([5]) رواه البخاري، (2020).

([6]) رواه البخاري، (858).

([7]) رواه أبو داود في سننه، (567)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (567).

([8]) رواه البخاري، (858).

([9]) رواه مسلم، (1136).

([10]) رواه أحمد في مسنده، (6495)، وهو صحيح لغيره.

([11]) رواه البخاري، (2045).

([12]) تفسير ابن كثير، (2/292).

([13]) رواه الترمذي في سننه، (806)؛ وهو حديث صحيح.

([14]) رواه البخاري، (309).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه في رمضان.doc doc
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه في رمضان.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى