بدعة الخروج عن الذكر الشرعي إلى الذكر المحرف البدعي

بدعة الخروج عن الذكر الشرعي إلى الذكر المحرف البدعي





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ ثم أما بعد، هذا ولعلماء الشافعية جهود مباركة في محاربة ما أحدثه أهلُ البدع من الأذكار والأدعية، وقبل إيراد بعض تلك الأذكار المحدثة، أود أن أذكر أولًا بدعةً محرمةً يقعُ فيها كل من أحدث ذكرًا جديدًا لم يأتِ به الشرع الحنيف.

من الأصول المقررة أن ألفاظ الأذكار توقيفية؛ لذا لا يجوز لأحد أن يُحدث في الأذكار ألفاظًا مبتدعة وعبارات جديدة لم يأتِ بها الشرع المطهر، وقد دلَّت على هذا الأصل بعضُ الأحاديث؛ ومنها:

حديث البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتَ مضجعَكَ فتوضأ وضوءَك للصلاةِ، ثم اضطجعْ على شقِّك الأيمن، ثم قُلِ: اللهمَّ أسلمتُ وجهي إليك، وفوضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأَ ولا منجى منك إلا إليك، اللهمَّ آمنتُ بكتابِك الذي أنزلتَ، وبنبيِّك الذي أرسلتَ؛ فإن متَّ من ليلتِك فأنتَ على الفطرةِ، واجعلهنَّ آخر ما تتكلمُ بِه))، قال: فرددتها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتُ: اللهمَّ آمنتُ بكتابِك الذي أنزلتَ، قلتُ: ورسولك، قال: ((لا، ونبيك الذي أرسلتَ))([1]).

ومنها تعليم النبيَّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه y بعض الأذكار كما يعلمهم السورة من القرآن؛ ومن ذلك:

ما رواه مسلمٌ في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يعلمُهم هذا الدعاء كما يعلمُهم السورةَ من القرآنِ، يقولُ: ((اللهمَّ إنا نعوذُ بك من عذابِ جهنم، وأعوذُ بكَ من عذابِ القبرِ، وأعوذُ بكَ من فتنةِ المسيحِ الدجالِ، وأعوذُ بكَ من فتنةِ المحيا والممات))([2]).

ومن ذلك: دعاء الاستخارة، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: (كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يعلمُنا الاستخارةَ في الأمورِ كلِّها كما يعلمُنا السورةَ من القرآنِ)([3]).

فهذه بعض النصوص الشرعية الدالة على مكانة الدعاء النبوي، وأهمية العناية بألفاظه المأثورة لكمالها ورفعتها وسلامتها ووفائها، وحرص الصحابة y على ضبطها والمحافظة على والوقوف عندها، مع أن القوم أهل علم وفصاحة، وذلك لعلمهم أن هذا الأمر توقيفي لا مجال للرأي والقياس فيه.

وبهذا يظهر أن ما يفعله أصحاب الطرق الصوفية من الخروج عن الذكر الشرعي إلى ذكر مُحرف إحداثٌ في الدين، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

قال الشيخ علي محفوظ - رحمه الله - في فصل في بدع الطرق الصوفية: (ومنْ بدَعِهم المحرمةِ: أنهم خرجوا عن الذكرِ الشرعي إلى ذكرٍ محرَّفْ يخالفُ الكتابَ والسنةَ والإجماعَ ... فإن الذكرَ الذي لا يوافقُ قولَه تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]، ولا قوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضلُ ما قلتُه أنا والنبيون من قَبلِي "لا إله إلا الله"))([4])، وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحةِ؛ حرامٌ بإجماعِ الأمةِ ومردودٌ على فاعلِه، كيف لا، وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ منه فهو ردٌّ)) متفقٌ عليه، وفي روايةٍ لمسلم: ((منْ عَمِلَ عملًا ليسَ عليه أمرُنا فهو ردٌّ))([5]).

وهؤلاء قد أحدثوا في الدين ما ليس منه، وتعبَّدوا بما لم يرِدْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابِه ولا عن صالحِ المؤمنين، ولاريبَ أن تحريفَ أسماءِ اللهِ تعالى من أقبحِ البدعِ المحرمةِ؛ إذ فيه إخراجُها عن حقيقتِها الواردةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وتسميتُه تعالى بما لم يَرِدْ به نصٌّ صحيحٌ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فهو من الإلحادِ المحرمِ بالإجماعِ.

وقد قال الفخر الرازي وغيرُه من أكابر المفسرين عند قولِه تعالى: {لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]: (إن من جملةِ الإلحادِ أن تسميه تعالى بما لم يسمِّ به نفسَه، كـ"السخي" و"أبي المكارم"، لعدم وروده، وإن دلَّ على الكمالِ)([6])، فما بالك بالألفاظِ التي شاعَ سماعُها من غالبِ أربابِ الطرقِ اليومَ المشتملة على الفظاظةِ، والكيفيات المنكرة، فهم يتقربون إلى اللهِ بالسيئات، فهي أحرى باسمِ الإلحادِ والضلالِ.

وقال العارف الصاوي في "حاشيته على الجلاللين": (ويُطلقُ الإلحادُ على التسميةِ بما لم يرِد، وهو بهذا المعنى حرامٌ، لأن أسماءه توقيفيةٌ، فيجوزُ أن يُقال: يا جواد، لا أن يُقال: يا سخي، ويُقال عالم دون عاقل، وحكيم دون طبيب، وهكذا، فمن خرج في ذكرِه عن الكتابِ والسنةِ فقد أهلَك نفسَه ومن تَبِعَه)([7]).

ثم بيَّن الشيخُ علي محفوظ بطلان حجة هؤلاء القوم في تبريرهم لهذه البدعة فقال: (وأما قولُهم: وجدنا أشياخَنا هكذا يذكرون بحضرةِ العلماءِ وهم ساكتون ...؛ فهو لا يصدرُ إلا من جاهلٍ، لجوازِ أن هؤلاء الأشياخ جاهلون بأمرِ دينِهم، أو أكابر استغرقوا في حبِّ خالقِهم حتى خرجوا بذلك عن حدِّ التكليفِ([8]).

وعلى كلا الاحتمالين لا يجوزُ الاقتداءُ بهم، لأنهم حينئذٍ لا يصلحون للوراثةِ ولا يُورث عن الأشياخِ إلا ما يكونُ منهم حالةَ الصحوِ موافقًا للشريعةِ، والعارفون منهم لا يخرجون في أحوالِهم عنها قيدَ شعرةٍ ما داموا في صحوهم، وقد تبرءوا ممن يخرجُ في حركاتِه وسكناتِه عن الكتابِ والسنةِ.

كيف لا يتبرءون وقد تبرَّأَ من ذلك الأئمةُ المجتهدون، الذين وقفوا على حقيقةِ الأمورِ، فعن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أنه كان يقول: (إياكم والقول في دينِ اللهِ تعالى بالرأي، وعليكُم بالسنةِ، فمن خرجَ عنها ضلَّ)، وكان يقول: (لا ينبغي لأحدٍ أن يقولَ قولًا حتى يعلمَ أنَّ شريعةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تقبلُه)، وقد تبرَّأَ ممن يخرجُ عن الكتابِ والسنةِ.

وعن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه كان يقول: (إذا رأيتُم كلامِي يخالفُ كلامَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فاعملوا بكلامِ رسولِ اللهِ واضربوا بكلامِي الحائطِ)، وكان يقول: (كلُّ شيءٍ خالفَ أمرَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَقْطٌ، ولا يقومُ معه رأيٌّ ولا قياسٌ، فإنَّ اللهَ تعالى قطعَ العذرَ بقولِه صلى الله عليه وسلم، فليس لأحدٍ معه أمرٌ ولا نهيٌ).

ورُوي عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه كان إذا سُئل عن مسألةٍ يقولُ: (أو لأحدٍ كلامٌ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وكما صحَّ عن الثلاثةِ صحَّ عن الإمام مالك - رحمه الله -، روى ابنُ عبد البر أن ابن عيسى قال: سمعتُ مالك بن أنس يقول: (إنما أنا بشرٌ أخطئُ وأصيبُ، فانظروا في رأيي، فكلُّ ما وافقَ الكتابَ والسنةَ فخذوه، وكلُّ ما لم يوافقْ الكتابَ والسنةَ فاتركوه)([9]).

فتبيَّن بهذا أن قول المحرفين للذكر "هكذا وجدنا أشياخنا يذكرون"؛ لا يصح أن يكون دليلًا على الشريعة، بل ينادى عليهم بالسفه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وأما قولهم: "بحضرة العلماء وهم ساكتون"؛ فهو باطلُ أيضًا، لجواز أن يكونَ سكوت العلماءِ عن هؤلاء الجهلةِ لظنِّهم أن الأمرَ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ لا يفيد عندهم، بل ذلك هو الظنُّ في هداةِ الأمةِ الذين هم ورثةُ الأنبياء، ويجوز أن من حضرَهم كان ممن تسموا باسم العلماء وليسوا منهم.

وجملةُ القول: حجتهم داحضةٌ، وكما يحرمُ الذكرُ بما لم يوافقْ الكتابَ أو السنةَ أو الإجماعَ، يحرمُ سماعُه، لأن للسامعِ حكمُ المسموعِ، كما أن للناظرِ حكمُ المنظورِ، والساكتُ على الجريمةِ شريكُ الجاني، ولذا كان السمع للغيبة في الإثم كالناطقِ بها، نسأله تعالى السلامة)([10]).

 

الهوامش:

([1]) رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب فضل من باب على الوضوء، مع الفتح (1/357)، (247)، وكتاب الدعوات، باب إذا بات ظاهرًا، (6311)، ومسلم كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، (2710).

([2]) رواه مسلم، كتاب المساجد، (590).

([3]) رواه البخاري، كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، مع الفتح (3/48)، (1162).

([4]) رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة، (3585)، وقال: (حديث حسن غريب).

([5]) سبق تخريجه، ص(39).

([6]) انظر: التفسير الكبير، الرازي، (15/75)، دار الفكر، وتفسير القرطبي، (9/395)، وزاد المسير، ابن الجوزي، (3/293)، وفتح القدير، الشوكاني، عند تفسير الآية السابقة.

([7]) (2/311-312).

([8]) ليس هذا من علامات الحب الصحيح النافع، بل الحب الذي يحبه اللهُ ورسولُه - صلى الله عليه وسلم -، هو الاقتداء والاتباع، وترك التكلف والابتداع؛ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32].

([9]) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، (1/757)، ت/أبو الأشبال.

([10]) الإبداع في مضار الابتداع، علي محفوظ، ص(289-292)، بتصرف.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
بدعة الخروج عن الذكر الشرعي إلى الذكر المحرف البدعي.doc doc
بدعة الخروج عن الذكر الشرعي إلى الذكر المحرف البدعي.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى