صفات أهل اليقين (2)

صفات أهل اليقين (2)





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ فأهل اليقين هم أهل الإيمان وأهل التميز في الأقوال والأفعال، ولهم صفاتٌ تتباين وتتمايز عن صفات باقي الناس؛ فمن صفاتهم:
  • أنهم هم الذين يؤمنون بآيات الله وإعجازه في كونه:
قال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 3-6]، وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].
فمن صفات أهل اليقين أنهم يتفكرون في ملكوت الله ويرون إعجاز الله في خلقه؛ عن عطاء قال: ((دخلتُ أنا وعبيد بن عمير على عائشة - رضي الله عنها -، فقالَ عبدُ الله بن عمير: حدثينا بأعجب شيءٍ رأيتِه منْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبَكَتْ وقالت: قامَ ليلةً من الليالي، فقال: يا عائشة! ذريني أتعبدُ لربِّي، قالت: قلتُ: واللهِ إنِّي لأحبُّ قربَك وأحبُّ ما يَسُرُّك.
قالت: فقامَ فتطهرَ، ثم قامَ يصلي، فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ حجرَه، ثم بكى فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ الأرضَ، وجاءَ بلالُ يُؤذنه بالصلاةِ، فلما رآه يبكي قال: يا رسول اللهِ! تبكي وقد غَفَرَ اللهُ لك ما تقدَّمَ من ذنبِّك وما تأخر؟! قال: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟ لقدْ نزلت عليَّ الليلةَ آياتٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكرْ فيها: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}))([1]).
قال الشاعر:

تأملْ في نباتِ الأرضِ وانظرْ

إلى آثارِ ما صنعَ المليكُ

عيون من لجين شاخصات

وأزهار كما الذهبِ السبيك

على قضبِ الزبرجدِ شاهداتٌ

بأنَّ اللهَ ليسَ له شريك

  • أنهم هم الذين يوقنون بأن النفع والضر بيد الله:
قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ((كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلأَمُ، إني اُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إذا سَأَلْتَ، فَاسْأَلِ اللَّهَ، وإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بشيء، لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بشيء قَد ْكَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بشيء، لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بشيء قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الاقْلأَمُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))([2]).
وعَنْ صُهَيْبٍ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ.
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ، فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ.
وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِالله دَعَوْتُ الله فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِالله فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ الله.
فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلى الْغُلاَمِ، فَجِيءَ بِالْغُلاَمِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ: لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى؛ فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى؛ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ.
ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى؛ فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ.
فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: اللهمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ الله.
فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: "بِاسْمِ الله رَبِّ الْغُلاَمِ"، ثُمَّ ارْمِنِي؛ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي.
فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ الله رَبِّ الْغُلاَمِ"، ثُمَّ رَمَاهُ؛ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.
فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا، حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ: يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ))([3]).
  • أنهم هم الذين يوقنون بالقضاء والقدر:
قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83].
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (الرِّضَا أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللهِ، وَلَا تَلُمْ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَاللهُ بِقِسْطِهِ وَعِلْمِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ)([4]).
يُذكر أن أعرابية فقدت أباها ثم وقفت بعد دفنه فقالت: (يا أبتي، إنَّ في اللهِ عوضًا عن فقدك، وفي رسولِه صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة ... ثم قالت: ربي لك الحمدُ، اللهمَّ نزلَ عبدُك مفتَقِرًا من الزاد، مخشوشن المهادِ، غنيًّا عما في أيدي العباد، فقيرًا إلى ما في يدِك يا جواد، وأنت يا ربي خيرُ من نزلَ بك المرملون، واستغنى بفضلِك المقلُّون، وولجَ في سعةِ رحمتِك المذنبون، اللهمَّ فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهادُه جنتك)([5])، ثم انصرفتْ راضيةً محتسبةً مأجورةً بإذن الله غير مأزورة.
قال الشاعر:
يُضيء لَنَا نُورُ اليَقِين سَبيلَنَا * * * فَتَنْزاحُ عَنَّا غُمَّةٌ وعَوَاثِرُ
وهذه محاورة وقعت بين الحسن بن علي رضي الله عنه، وبين من نقل كلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أبو ذر رضي الله عنه كان يقول: (الفقرُ أحبُّ إليَّ من الغِنى، والسقمُ - يعني المرض - أحبُّ إليَّ من الصحةِ)، فلما بلغ ذلك الحسنَ بن علي رضي الله عنه قال: (رَحِمَ اللهُ أبا ذرٍّ، أمَّا أنا فأقول: من اتَّكَل على حسنِ اختيارِ اللهِ له؛ لم يتمنَّ شيئًا)([6]).
  • أنهم هم الذين يستعدون للموت والحساب:
قال تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 1-3]، فأهل اليقين حينما يؤمنون بالموت والحساب فإنهم يستعدون لذلك بالأعمال الصالحة، ويوقنون تمامًا أنهم مقبلون على ربٍّ يحاسب على الصغيرة والكبيرة.
قال الشاعر:

هو الموتُ ما منه ملاذٌ ومهربُ

متى حطَّ ذا عن نعشِه ذاك يركبُ

نشاهدُ ذا عينَ اليقينِ حقيقةً

عليه مضى طفلٌ وكهلٌ وأشيبُ

ولكن عَلَا الرانُ القلوبَ كأنَّنا

بما قد علمناه يقينًا نُكَذِّب

نؤمِّلُ آمالًا ونرجو نتاجَها

وعلَّ الرَّدى مما نُرجيه أقربُ

يقول أحدهم: (رأيتُ الجنةَ والنارَ حقيقةً، فقيل له: كيف رأيتها حقيقةً؟ قال: رأيتُها بعيني رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لها بعينِه آثرُ عندي من رؤيتِي لها بعينِي؛ فإن بصري قد يطغى ويزيغُ بخلافِ بصرِه صلى الله عليه وسلم)([7]).
  • أنهم هم الذين يحسنون الظن بالله:
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، فهم بيقينهم يحسنون الظن بربهم، ويعلمون أنهم مقبلون على ربٍّ رحيم، يستر ويغفر.
عنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: ((بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - آخِذٌ بِيَدِهِ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}))([8]).
عن بكر بن عبد الله المزني قال: (فَقَدَ الْحَوَارِيُّونَ نَبِيَّهُمْ عِيسَى عليه السلام، فَقِيلَ لَهُمْ: تَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَحْرِ، فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ إِذَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، يَرْفَعُهُ الْمَوْجُ مَرَّةً وَيَضَعُهُ أُخْرَى، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُرْتَدٍ بِنِصْفِهِ وَمُتَّزِرٌ بِنِصْفِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِم، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ - قَالَ أَبُو هِلالٍ: ظننت مِنْ أَفَاضِلِهِمْ -: أَلا أَجِيءُ إِلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ : بَلَى، فَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فِي الْمَاءِ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَضَعَ الأُخْرَى، فَقَالَ: غَرِقْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا قَصِيرَ الإِيمَانِ، لَوْ أَنَّ لابْنِ آدَمَ مِنَ الْيَقِينِ قَدْرَ شَعِيرَةٍ مَشَى عَلَى الْمَاءِ)([9]).
عن الحسن قال: (ما أيقنَ عبدٌ بالجنةِ والنارِ حقَّ يقينهما إلا خشعَ ووَجَلَ وذَلَّ واستقامَ واقتصرَ حتى يأتيه الموتُ)([10]).
قال الشاعر:

يَا رَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً

فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَك أَعْظَمُ

إنْ كَانَ لَا يَرْجُوك إلَّا مُحْسِنٌ

فَمَنْ الَّذِي يَدْعُو إلَيْهِ الْمُجْرِمُ

أَدْعُوك رَبِّ كَمَا أَمَرْت تَضَرُّعًا

فَإِذَا رَدَدْت يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ

مَا لِي إلَيْك وَسِيلَةٌ إلَّا الرَّجَا

وَجَــمِيلُ ظَنِّي ثُمَّ أَنِّي مُسْلِمُ

 

الهوامش:
([1]) رواه ابن حبان في صحيحه، (2/378)، انظر: السلسلة الصحيحة، الألباني، (1/147).
([2]) رواه أحمد في مسنده، (2669)، والتِّرْمِذِيّ، (2516)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (7957).
([3]) رواه أحمد في مسنده، (24428)، ومسلم، (7621).
([4]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، (1/384).
([5]) أورد القصة الشيخُ علي القرني، في محاضرة له بعنوان "كشف الكربة عند فقد الأحبة".
([6]) تهذيب ابن عساكر، (4/220).
([7]) مدارج السالكين، ابن القيم، (2/400).
([8]) رواه أحمد في مسنده، (5436)، والبُخَارِي، (2441)، ومسلم، (7115).
([9]) اليقين، ابن أبي الدنيا، ص(97).
([10]) التخريج السابق.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
صفات أهل اليقين (2) doc
صفات أهل اليقين (2) pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى