صفات أهل اليقين بالله (1)

صفات أهل اليقين بالله (1)





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أهل اليقين هم أهل الإيمان وأهل التميز في الأقوال والأفعال، ولهم صفاتٌ تتباين وتتمايز عن صفات باقي الناس؛ فمن صفاتهم:
1- أنهم هم الذين يؤمنون بالغيب:
قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 3-5]، فأهل اليقين يؤمنون بالبعث والجزاء والحساب والجنة والنار؛ لذا فإن الحياة بما فيها وبمن فيها تهون في أعينهم أمام مرضاة الله تعالى وانتظار الجزاء الأوفى منه سبحانه.
ولقد تعلَّم الصحابةُ الكرام هذا اليقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينما انطلق رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، ((فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.
قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بَخٍ، بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ، بَخٍ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، إِلاَّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ))([1]).
قال الشاعر:

شَبُّوا على عِشق ِ الشهادة ِ والفدا

ولكل ِ مكرمة ٍ خيول ُ سباق ِ

وتشبثوا ِبعُرى اليقين وكلما

جاش َ الغُزاةُ تشمَّروا عن ساق

2- أنهم هم الذين يوقنون بأن الرزق بيد الله وحده:
ومن صفات أهل اليقين التيقن الكامل بأن الرزق ليس بيد أحدٍ من البشر، وإنما هو بيد الله تعالى وحده؛ قال سبحانه: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 20-23]، لذا تجدهم ينفقون ويتصدقون ولا يخشون الفقر والإقلال، ويعطون ويبذلون عن إيمان ويقين.
3- أنهم هم الذين لا يزيغون عن الحق ولا تتشابه عليهم الأمور:
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]، فأهلُ اليقين الحقُّ عندهم واضح وضوح الشمس، لذا فهم لا يُراءون ولا ينافقون.
دخل هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي الكعبةَ، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، فقال له: (سَلْنِي حاجةً - فرصة ثمينة، الخليفة يعرض عليه أن يسأله ما شاء، اطلب، فماذا قال؟ - قال: إني لأستحي من اللهِ أن أسالَ في بيتِه غيرَه).
فلما خرجوا قال له: (فالآن سَلْنِي حاجتك، فقال سالم: من حوائج الدنيا أَمْ حوائج الآخرة؟ - طبعًا حوائج الآخرة لا سبيل إليها، لا سبيل إلى تحصيلها من قِبَل المخلوقين، هم لا يستطيعون أن يعطوك شيئًا من أمور الآخرة - قال: بل من حوائج الدنيا، قال: واللهِ ما سألتُ الدنيا من يملكها -يعني الله، يقول: أنا ما دعوت قط ربي أن يعطيني شيئًا من حُطام الدنيا -، فكيف أسألُ من لا يملكُها؟!).
4- أنهم هم الذين يُحَكِّمُون شرعَ اللهِ تعالى في جميع أمورهم:
قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وأهل اليقين يُحَكِّمُون شرعَ الله تعالى في جميع أمورهم، فلا يُحَكِّمُون الهوى ولا الطاغوت، ويجاهرون بكلمةِ الحقِّ لعلمِهم أن الأرزاق والآجال بيدِ الله تعالى وحده؛ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ))([2]).
قال الشاعر:

لا تَجْزَعِي إن الفؤادَ قد امتطى

ظهرَ اليقينِ وفي معارجِه ارتقَى

غذيتُ قلبِي بالكتابِ وآيِّه

وجعلتُ لي في كلِّ حقٍّ منطقًا

ووطئتُ أوهامِي فما أسكنتُها

عقلِي وجاوزتُ الفضاءَ مُحلقًا

5- أنهم هم الذين يؤمنون بالقرآن الكريم:
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]؛ فأهل اليقين يدورون مع القرآن حيث دار، يتخلقون بأخلاقه ويقفون عند حدوده.
رُوي أن عالمًا من العلماء المتقدمين ألَّف كتابًا في التفسير، فلم يجد سَعَةً ومالًا من أجل أن يستنسخ الكتاب، كانت هذه الكتب تُسْتَنْسَخُ عند الورَّاقين، ولربما كلَّفهم ذلك مبالغ إذا كان الكتاب كبيرًا لا يستطيعون دفعها، فركب هذا العالم سفينةً، وسار على النهر ليذهب إلى رجلٍ من أهل الغنى والثراء؛ ليعرض عليه هذا الكتاب من أجل أن يتبرعَ لِنَسْخِه.
فبينما هو بالسفينة إذ مرَّ برجل يمشي على قدميه يريد الركوب، فطلب من صاحب السفينة أن يحمل هذا الرجل ويُحْسِن إليه، فتوقفت فحملوا بها هذا الرجل، فسأل الرجلُ العالمَ: من أنت؟ فأخبره باسمه، فقال: أنت العالم المُفَسِّر؟ قال: نعم، قال: وأين تريد؟ قال: أريد أن أذهب إلى فلان علَّه أن يتبرع بِنَسْخِ هذا الكتاب.
فقال هذا الرجل للعالم: وكيف فسَّرتَ قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؟ فأخبره عمَّا قال وتفطن لمقصده!! ثم قال لصاحب السفينة: ارجع بي إلى حيث حملتني، ورجع إلى بيته، وبقى فيه.
وبعد مدة ليست بالبعيدة، إذا برجلٍ يطرق الباب ومعه رسول فعرَّفه بنفسه، وقال: إنه مُرْسَل من قبل فلان - الرجل الذي كان يريد أن يذهب إليه -، وقال: إنه قد بلغه أنك قد كتبت كتابًا في التفسير، فهو يريد أن يطَّلِعَ عليه، فبعث إليه بجزءٍ من أجزاء هذا الكتاب، فلما نظر إليه أمر أن يوزن له بالذهب، فَوُزِن فبعث به إلى هذا العالِم.
 
الهوامش:
([1]) رواه أحمد في مسنده، (12425)، ومُسْلم، (4950).
([2]) رواه أبو داود، (4344).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
صفات أهل اليقين بالله (1) doc
صفات أهل اليقين بالله (1) pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى