التعظيمُ الممنوعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 2

التعظيمُ الممنوعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 2





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛
الأدلةَ المانعةَ لهذا التعظيمِ المُبْتَدَعِ:

الدليلُ الأولُ: أنَّ الأصلَ في العباداتِ المنعُ حتى يقومَ دليلٌ على الأمرِ، وذلكَ حقيقةُ الدينِ، تتمثلُ في أمرين: ألَّا يُعْبَدَ إلا اللهُ، وألَّا يُعْبَدَ إلا بما شَرَعَ، وَقَصْدُ هذه الأماكنَ بالصلاةِ أو الدعاءِ أو الذكرِ ونحو ذلكَ قُرْبَةً وَتَبَرُّكًا مِنْ أنواعِ العبادةِ، ولا يوجدُ دليلٌ شرعيٌّ يُجيزُ أوْ يبيحُ ذلكَ.

      فالعباداتُ مبناها على التوقيفِ، فلا يُتَقَرَّبُ إلى اللهِ تعالى إلا بما شرعَ، ولا يُعْبَدُ سبحانه إلا بما أذنَ به مِنْ عباداتٍ؛ قالَ تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].

      وبهذا يُعلمُ أنَّ (كُلَّ مَنْ دَانَ بشيءٍ لم يُشَرِّعْهُ اللهُ فذاك بدعةٌ)([1])، قالَ الشاطبي: (وَلَا معنى للبدعةِ إلَّا أَنْ يكونَ الفعلُ في اعتقادِ المُبْتَدِعِ مشروعًا وليسَ بمشروعٍ)([2]).

وَقَرَّرَ ابنُ القيمِ هذه القاعدةَ فقالَ: (ومعلومٌ أنَّه لا حرامَ إلا ما حرَّمَهُ اللهُ ورسولُه، ولا تأثيمَ إلَّا مَا أَثَّمَ اللهُ ورسولُه بِهِ فاعلَه، كمَا أنَّه لا واجبَ إلا ما أوجَبَهُ اللهُ، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمَهُ اللهُ، ولا دينَ إلا مَا شَرَعَهُ اللهُ، فالأصلُ في العباداتِ البطلانُ حتى يقومَ دليلٌ على الأمرِ، والأصلُ في العقودِ والمعاملاتِ الصحةُ حتى يقومَ دليلٌ على الأمرِ، والفرقُ بينهما أنَّ اللهَ سبحانه لا يُعْبَدُ إلا بما شرعَه على ألسنةِ رُسُلِهِ، فَإِنَّ العبادةَ حَقُّهُ على عِبَادِهِ، وحَقُّهُ الذي أَحَقَّهُ هوَ ورضيَ بِهِ وَشَرَعَهُ ...)([3]).

وقالَ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهُ -: (بابُ العباداتِ وَالدياناتِ والتقرُّبَاتِ مُتَلَقَّاهُ عنْ اللهِ ورسولِه، فليسَ لأحدٍ أنْ يجعلَ شيئًا عبادةً أو قُرْبَةً، إلَّا بدليلٍ شرعيٍّ)([4]).

وسارَ السلفُ الصالحُ على هذا النهجِ القويمِ؛ فعنْ نافع أنَّ رجلًا عَطَسَ إلى جنبِ ابنِ عمرَ؛ فقالَ: (الحمدُ للهِ والسلامُ على رسولِه)؛ قالَ ابنُ عمرَ: (وأنَا أقولُ: الحمدُ للهِ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وليسَ هكذا علَّمَنَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، علَّمَنَا أنْ نقولَ: الحمدُ للهِ على كُلِّ حالٍ)([5]).

      وعنْ سعيد بنِ المسيب أنَّه رأى رجلًا يصلي بعدَ طلوعِ الفجرِ أكثرَ مِنْ ركعتين، يُكْثِرُ فيهما الركوعَ والسجودَ، فنهاهُ، فقالَ: (يا أبا محمدٍ، يعذبني اللهُ على الصلاةِ؟! قالَ: لا، ولكنْ يُعَذِّبُكَ على خلافِ السنةِ)([6]).

الدليلُ الثاني: تَرْكُ الصحابةِ - رضيَ اللهُ عنهم - التعبدَ والتبركَ بهذه الأماكنَ، معْ أنهم أحرصُ الأمةِ على التأسي بالرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم -، معْ علمِهم بتلكَ الأماكنَ، وشدةِ محبتِهم للرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم -، فكلُّ عبادةٍ من العباداتِ تَرَكَ فِعْلُها السلفُ الصالحُ فإنها تكونُ بدعةً، بشرطِ أنْ يكونَ المُقْتَضي لفعلِ هذه العبادةِ قائمًا والمانعُ منتفيًا([7]).

      قالَ حذيفةُ- رضيَ اللهُ عنه -: (كُلُّ عبادةٍ لمْ يَتَعَبَّدْ بها أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - فلا تتعبدوا بها، فإنَّ الأولَ لمْ يَدَعْ للآخَرِ مقالًا، فاتقوا اللهَ يا معشرَ القراءِ، خذُوا طريقَ مَنْ كانَ قبلَكُم)([8]).

وقدْ أوضحَ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهُ - هذا التركَ عندَ السلفِ؛ فقالَ: (كانَ أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعلي وسائرُ السابقين الأولين، من المهاجرين وَالأنصارِ، يذهبون مِنَ المدينةِ إلى مكةَ حُجَّاجًا وَعُمَّارًا ومسافرين، ولم يُنْقَلْ عنْ أحدٍ منهم أنَّه تحرَّى الصلاةَ في مُصلياتِ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم -، ومعلومٌ أنَّ هذا لوْ كانَ عندهم مُسْتَحَبًّا لكانوا إليه أسبقَ، فإنَّهم أعلمُ بسنتِه، وأتبعُ لها منْ غيرِهم، وَتَحَرِّي هذا ليسَ مِنْ سنةِ الخلفاءِ الراشدين التي حَثَّ الرسولُ - صلى اللهُ عليه وسلم - على التمسكِ بها، بلْ هوَ مما ابْتُدِعَ)([9]).

الدليلُ الثالثُ: نَهْيُ السلفِ الصالحِ وإنكارِهم هذا التعظيم قولًا وعملًا، وفي مقدمتِهم الفاروقُ عمرُ بن الخطابِ - رضيَ اللهُ عنه -، حيثُ أنكرَ ذلك بقولِه وعملِه، أمَّا قولُه: فعنْ المعرورِ بنِ سويد - رحمهُ اللهُ - قالَ: (خَرَجْنَا مع عمرَ بنِ الخطابِ، فعرضَ لنا في بعضِ الطريقِ مسجدٌ، فابتدرَه الناسُ يُصَلُّون فيه، فقالَ عمرُ: مَا شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجدٌ صلَّى فيه رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -، فقالَ عمرُ: أيها الناسُ، إنما هَلَكَ مَنْ كانَ قبلَكُم باتباعِهم مثلَ هذا، حتى أَحْدَثُوا بيعًا، فمنْ عَرَضَتْ له فيه صلاةٌ فلْيُصَلِّ، ومنْ لم تَعْرَضْ له في صلاةٌ فَلْيَمْضِ)([10]).

قالَ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهُ - مُعَلِّقًا على هذه القصةِ: (لَمَّا كانَ النبيُّ لمْ يقصدْ تخصيصَه بالصلاةِ فيه، بلْ صلَّى فيه لأنَّه موضعُ نزولِه، رأى عمرُ أنَّ مشاركتَه في صورةِ الفعلِ منْ غيرِ موافقةٍ له في قصدِه ليسَ متابعةً، بلْ تخصيصُ ذلكَ المكانِ بالصلاةِ منْ بدعِ أهلِ الكتابِ التي هَلَكُوا بها، ونهى المسلمين عنْ التشبهِ بهمْ في ذلكَ، فَفَاعِلُ ذلكَ مُتَشَبِّهٌ باليهودِ وَالنصارى في القصدِ، الذي هو عَمَلُ القلبِ وهذا هوَ الأصلُ، فإنَّ المتابعةَ في السنةِ أبلغُ من المتابعةِ في صورةِ العملِ)([11]).

وأمَّا إنكارُ عمرَ - رضيَ اللهُ عنه - بالفعلِ فَقَدْ وَرَدَ في قصةٍ أخرى أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ - رضيَ اللهُ عنه - بَلَغَهُ أَنَّ ناسًا يأتون الشجرةَ التي بُويعَتحتَها النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - فأمرَ بها فَقُطِعَتْ([12]).

هذا قولُ عمرَ بنِ الخطابِ - رضيَ اللهُ عنه - وفعلُه، الذي قالَ عنه النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((إِنَّ اللهَ جَعَلَ الحقَّ على لسانِ عمرَ وَقَلْبِهِ))([13]).

      وقدْ قالَ الإمامُ ابنُ وضاح القرطبي بعدَ أنْ روى هاتين القصتين: (وَكَانَ مالكُ بن أنس، وغيرُه مِنْ علماءِ المدينةِ يكرهون إتيانَ تلكَ المساجدَ وتلكَ الآثارِ للنبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - بالمدينةِ ما عدا قباء وَأُحُد).

      ثُمَّ قالَ: (وَسَمِعْتُهم يذكرون أنَّ سفيانَ الثوري دخلَ مسجدَ بيتِ المقدسِ فصلَّى فيه، ولمْ يتبعْ تلكَ الآثارَ، وَلا الصلاةَ فيها، وكذلكَ فَعَلَ غيرُه أيضًا ممن يُقتدى به، وقدمَ وكيعٌ أيضًا مسجدَ بيتِ المقدسِ فلمْ يَعْدُ فِعْلَ سفيان).

      ثُمَّ علَّقَ ابنُ وضاح على ذلكَ فقالَ: (فعليكُمْ بالاتباعِ لأئمةِ الهُدى المعروفين، فقدْ قالَ بعضُ مَنْ مَضَى: كَمْ مِنْ أمرٍ هوَ اليومَ معروفٌ عندَ كثيرٍ مِن الناسِ كانَ مُنْكَرًا عندَ مَنْ مضى، وَمُتَحَبِّبٍ إليه بما يُبْغِضُهُ عليه، وَمُتَقَرِّبٍ إليه بما يُبْعِدُهُ عنه، وَكُلُّ بدعةٍ عليها زينةٌ وَبهجةُ)([14]).

ويقولُ الإمامُ أبو شامة الشافعي: (اتباعُ السنةِ أولى من اقتحامِ البدعةِ، وإنْ كانَ صلاةً فِي الصورةِ، فبركةُ اتباعِ السنةِ أكثرُ فائدةً، وأعظمُ أجرًا، إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لتلك الصلاةِ أجرًا)([15]).

      ويؤكِّدُ هذا الدليلِ الذي يليه.

الدليلُ الرابعُ: أنَّ الصحابةَ- رضوانُ اللهِ عليهم - بايعوا رسولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - بيعةَ الرضوان تحتَ الشجرةِ التي ذكرَها اللهُ تعالى في القرآنِ في قولِه تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].

      وكانَ عددُهم ألفًا وَأربعمائة، ولم يَعْلَمْ أحدٌ منهم مكانَ هذه الشجرةِ حينَ رجعوا إليها في العامِ المقبلِ، فلمْ يجتمعْ منهم اثنان على تعيينِها، بلْإِنَّابنَ عمرَ- رضيَ اللهُ عنهما–(الذي يَحْتَجُّ بِفِعْلِه مَنْ يتبركُ بآثارِ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم – المكانيةِ، يُصَرِّحُ بأنَّ عدمَ تعيينِ هذه الشجرةِ وخفائَها عنهم كانَ رحمةً مِن اللهِ)؛ يقولُ ابنُ عمرَ: (رَجَعْنَا مِن العامِ المُقْبِلِ، فما اجتمعَ منا اثنان على الشجرةِ التي بَايَعْنَا تحتَها، كانتْ رحمةً مِنَ اللهِ)([16]).

يقولُ الحافظُ ابنُ حجر: (وسيأتي في المغازي موافقةُ المسيبِ حَزْن-والد سعيد-لابنِ عمرَ على خفاءِ الشجرةِ وبيانِ الحكمةِ في ذلكَ، وهوَ أنْ لا يحصلَ بها افتتانٌ لِمَا وَقَعَ تحتَها مِنَ الخيرِ، فلوْ أُبْقِيَتْ لَمَا أَمِنَ تعظيمَ الجُهَّالِ لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقادِ أنَّ لها قوةَ نَفْعٍ أوْ ضُرٍّ، كمَا نراه الآن شاهدًا فيما هو دونها، وإلى ذلكَ أشارَ ابنُ عمرَ بقولِه: (كانتْ رَحْمَةً مِن اللهِ)، أي كانَ خفاؤها عليهم بعدَ ذلكَ رحمةً من اللهِ تعالى)([17]).

ويؤكدُ ذلكَ القاضي عياض حيثُ يقولُ: (وفي حديثِ الشجرةِ أنَّهم نسوها من العامِ المُقْبِلِ، قيلَ: هذَا رحمةٌ للمؤمنين وَعصمةُ لهم؛ إذْ لوْ بقي مكانُها لَخِيفَ تعظيمُ الأعرابِ وَالجُهَّالِ لها وعبادتُهم إياها)([18]).

      أما روايةُ المسيب بنِ حَزْن، والتي تؤكدُ قولَ ابنِ عمرَ، فهي عنْ سعيد بن المسيب عنْ أبيه قالَ: (لَقَدْ رأيتُ الشجرةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا بعدُ، فَلَمْ أَعْرِفْهَا)([19]).

وعنْ طارق بنِ عبدِ الرحمن قالَ: (انطلقتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بقومٍ يُصَلُّون، قُلْتُ: ما هذا المسجد؟قالوا: هذه الشجرةُ حيثُ بايعَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - بيعةَ الرضوان، فأتيتُ سعيدَ بنَ المسيبِ فأخبرتُه، فقالَ سعيد: حَدَّثَنِي أبي أنه كانَ فيمَنْ بايعَ رسولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - تحتَ الشجرةِ، قالَ: فلمَّا خَرَجْنَا العامَ المُقْبِلَ نسينَاها فلمْ نَقْدِرْ عليها، قالَ سعيد: إنَّ أصحابَ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم - لم يعلمُوها وَعَلِمْتُمُوها أنتُم؟! فأنتُم أعلم!!)([20])، وفي روايةٍ: (فَرَجَعْنَا إِلَيْهَا الْعَامَ الْمُقْبِلَ فَعَمِيَتْ عَلَيْنَا)([21]).

      وتأملْ قولَ سعيدِ بنِ المسيب: (إنَّ أصحابَ محمدٍ - صلى اللهُ عليه وسلم - لم يعلمُوها وَعَلِمْتُمُوها أنتُم؟! فأنتُم أعلم!!)، فإنَّه يدلُّ على إنكارِه وَتهكمِه بِمَنْ أتى هذه الشجرةَ للصلاةِ عندَها، يقولُ الحافظُ ابنُ حجر: (قالَ سعيد هذا الكلامَ مُنْكِرًا، وقولُه:"فأنتم أعلم" هو على سبيلِ التهكُمِ، وفي روايةِ قيس بن الربيع: "إنَّ أقاويلَ النَّاسِ كثيرةٌ")([22]).

وقالَ الطبري - رحمهُ اللهُ -: (زعمُوا أَنَّ عمرَ بنَ الخطابِ - رضيَ اللهُ عنه - مَرَّ بذلكَ المكانِ بعدَ أَنْ ذَهَبَتْ الشجرةُ، فقالَ: أينَ كانت؟ فجعلَ بعضُهم يقولُ: ههنا، وبعضُهم يقولُ: ههنا، فلمَّا كَثُرَ اختلافُهم قَالَ: سيروا هذا التكلف، فذهبتْ الشجرةُ، وكانتْ سمرة، إمَّا ذهبَ بها سيلٌ، وإمَّا شيءٌ سوى ذلك)([23]).

ولكن الحافظَ ابنَ حجر ذكرَ ما يدلُّ على خلافِ ذلكَ، فيقول: (وجدتُ عندَ ابنِ سعد بإسنادٍ صحيحٍ، عنْ نافع أنَّ عمرَ بَلَغَهُ أَنَّ قومًا يأتون الشجرةَ فيُصَلُّون عندها فَتَوَعَّدَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَطْعِها فَقُطِعَتْ)([24]).

وهذا يؤكدُ حرصَ الصحابةِ- رضوانُ اللهِ عليهم - على حمايةِ جنابِ التوحيدِ، وقطعِ وسائلَ الشركِ، وذلكَ بعدمِ تقديسِ الأمكنةِ أوْ تعظيمِها إلا على الوجهِ الذي شُرِعَ لا بالبدعِ.

الدليلُ الخامسُ: أنَّ في المنعِ مِنْ هذا التعظيمِ للأمكنةِ تطبيقًا لقاعدةِ سَدِّ الذرائع، وهيَ أصلٌ شرعيٌّ مُعْتَبَرٌ، مبناه على الاحتياطِ وحمايةِ أحكامِ الدينِ، وسَدُّ الذريعةِ معناه الشرعي العام هوَ: (مَنْعُ كُلِّ الوسائل المؤديةِ إلى الشرِّ والمنكرِ والفسادِ، بشرطِ أنْ يكونَ الفسادُ معلومًا مِنْ جهةِ الشرعِ لا مِنْ جهةِ العقلِ)([25]).

وسَدُّ الذرعيةِ بمعناه الشرعي الخاص هو: (حسمُ وسائل الفسادِ بِمَنْعِ ما هوَ جائزٌ أو غيرُ ممنوعٍ إذا أدَّى إلى فعلِ مُحَرَّمٍ)([26]).

فلوْ قُلْنَا تنزُّلًا بأنَّ زيارةَ هذه الأماكن جائزةٌ، فإنَّه بتطبيقِ هذه القاعدةِ الشرعيةِ وسدًّا للمفاسد المترتبةِ عليها يُمْنَعُ مِنْ زيارتِها، فالشارعُ يمنعُ الفعلَ الذي يتضمنُ مصلحةً إذا كانَ ذريعةً إلى المفسدةِ، وذلكَ لتعارضِ مصلحةِ الفعلِ مع المفسدةِ التي يؤولُ إليها، وإذا تعارضتْ المصلحةُ والمفسدةُ قُدِّمَ دَفْعُ المفسدةِ على جَلْبِ المصلحةِ، عملًا بالقاعدةِ الشرعيةِ المعتبرةِ "درءُ المفاسد مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المصالح"، يقولُ الإمامُ الشاطبي: (ولا مصلحةَ تُتَوقَّعُ مطلقًا مع إمكانِ وقوعِ مفسدةٍ توازيها أوْ تزيد)([27]).

وَتعظيمُ هذه الأمكنةِ التي لم يُشْرَعْ تعظيمُها قَدْ ثَبُتَ شرعًا أنَّه يؤدي إلى مفاسد عظيمةٍ، ويمكنُ إيضاحُ ذلك ذلكَ مِنْ عِدَّةِ أوجهٍ:

الأولُ: أنَّ النهيَ عنْ هذا التعظيمِ للأمكنةِ سَدٌّ لذريعةِ الشركِ؛ حيثُ إِنَّ التقربَ إلى اللهِ تعالى بزيارتِها وَعبادتِه عندها يؤدي إلى تعظيمِها وَتقديسِها والفتنةِ بها، وربما أفضى إلى جَعْلِها معابدَ.

وَقَدْ تحققتْ هذه المفسدةُ في كثيرٍ مِنْ بلدانِ العالمِ الإسلامي، فأينما يَمَّمَتَ وَجْهَك رأيتَ قبةً وضريحًا ومشهدًا يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ تعالى، والنماذجُ على هذا كثيرةٌ جدًّا يصعبُ حصرُها([28]).

وسيأتي ذكرُ المخالفاتِ الشرعيةِ التي تحدثُ في هذه الأمكنةِ بمكةَ؛ مما يؤكدُ أنَّ تعظيمَ هذه الأمكنةِ يؤدي إلى مفاسدَ عظيمةٍ، وأنَّ الأولى هوَ سّدُّ الذرائع حمايةً لعقيدةِ التوحيدِ.

يقولُ العلامةُ نعمان الألوسي الحنفي: (وَلَا زالت الصحابةُ تَسُدُّ ذرائعَ التوسلِ الذي ادَّعَاه الـمُجَوِّزُون، كَمَا فَعَلَ عمرُ- رضيَ اللهُ عنه - مِنْ قَطْعِ الشجرةِ التي بُويعَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -)([29]).

الثاني: أَنَّ تخصيصَ هذه الأماكنَ بالعبادةِ يُشْبِهُ الصلاةَ عندَ المقابر([30])، إذْ أنَّه يُشْبِهُهَا فِي أنها وسيلةٌ إلى مُحَرَّم، فالصلاةُ عندَ القبورِ وسيلةٌ وذريعةٌ إلى عبادتِها، والصلاةُ في هذه الأماكنَ وسيلةٌ إلى تعظيمِها، وهو ذريعةٌ إلى اتخاذِ هذه الأماكنَ وَالآثارِ مساجدَ.

والأدلةُ الشرعيةُ نَصَّتْ على تحريمِ اتخاذِ قبورِ الأنبياء مساجدَ؛ مثلُ حديثِ عائشةَ وابنِ عباس - رضيَ اللهُ عنهما - قالا: ((لَمَّا نَزَلَ برسولِ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -؛ طَفِقَ يطرحُ خميصةً له على وجهِهِ، فإذا اغتمَّ كشفَها عن وجهِهِ فقالَ:لعنةُ اللهِ على اليهودِ والنصارىن اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، يُحَذِّرُ مَا صنعوا))([31]).

والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ، وهيَ صريحةٌ في تحريمِ اتخاذِ قبورِ الأنبياء مساجدَ مع أنهم مدفونون فيها، وهمْ أحياءٌ في قبورِهم([32])، فَمِنْ بابِ أولى عدم اتخاذِ مَا عداها مِنَ الأمكنةِ التي أقاموا فيها أوْ جلسُوا أوْ صَلُّوا فيها مكانًا للعبادةِ، أو التعيظمِ والتقديسِ، إلَّا ما جاءَ فيه تشريعٌ بوحيٍ مِنَ اللهِ - عزَّ وَجَلَّ -، مثلُ مقامِ إبراهيمَ - عليه السلامُ - وغيرِه مِنَ الأماكن المشروعةِ.

الثالث: إِنَّ فِي هذا التعظيمِ للأمكنةِ ذريعةً للتشبهِ بأهلِ الكتابِ في بِدَعِهم وأفعالِهم، حيثُ اتخذوا قبورَ وَآثارَ أنبيائِهم مشاهدَ وَمزاراتٍ، وَقَدْ جاءَ الشرعُ بالنهي عنْ التشبهِ بهم، ولذلكَ قالَ عمرُ- رضيَ اللهُ عنه -: (إنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ باتباعِهم مثلَ هذا، حتَّى أَحْدَثُوهَا بيعًا)([33]).

 



([1]) الاستقامة، ابن تيمية، (1/42).

([2]) الاعتصام، الشاطبي، (2/108).

([3]) إعلام الموقعين، ابن القيم، (1/244).

([4]) مجموع فتاوى ابن تيمية، ص(31-35).

([5]) رواه الترمذي، (2738)، والحاكم في المستدرك، (4/265-266)، بسندٍ حسن.

([6]) رواه البيهقي في السنن الكبرى، (2/446)، والخطيب البغدادي في الفقيه والتفقه، (1/147)، وعبد الرزاق في مصنفه، (3/52)، والدارمي (1/116)، بسندٍ صحيح.

([7]) انظر: الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة وبيان ما فيها من مخالفة السنن المشروعة، ابن الصلاح، ص(9)، والباعث على إنكار البدع والحوادث، ابن أبي شامة،ص(47).

([8]) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع، السيوطي،ص(62)، ورواه البخاري بنحوه، (13/250).

([9]) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/756-757)، بتصرف.

([10]) تقدم تخريجه.

([11]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (1/281).

([12]) رواه ابن وضاح القرطبي في كتاب البدع والنهي عنها،ص(42-43) عن نافع، قال الألباني: (ورجالُ إسناده ثقات)، انظر: تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق،أبو الحسن علي الربعي،ص(49).

([13]) رواه الترمذي، (5/617)، عن ابنِ عمرَ- رضيَ اللهُ عنه -، وقال الترمذي: (حديثٌ حسن)، ورواه ابن ماجه، (1/40)، المقدمة، فضل عمر رضيَ اللهُ عنه.

([14]) البدع والنهي عنها، ابن وضَّاح،ص(43).

([15]) الباعث على إنكار البدع والحوادث، ابن أبي شامة،ص(215).

([16]) رواه البخاري، (2958).

([17]) فتح الباري، ابن حجر، (6/137-138).

([18]) إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض، (6/270-272)، وانظر: إكمال إكمال المعلم،الأبي، (6/576)، ومكمل إكمال الإكمال، السنوسي، (6/577).

([19]) رواه البخاري، (7/512)، ومسلم، (3/1485).

([20]) رواه البخاري، (7/512).

([21]) التخريج السابق.

([22]) فتح الباري، ابن حجر، (7/512).

([23]) تفسير الطبري، (21/275)، وانظر: تفسير البغوي، (7/304، 305).

([24]) فتح الباري، ابن حجر، (7/513).

([25]) قاعدة الذرائع وأحكام النساء المتعلقة بها، د.وجنات ميمني،ص(54).

([26]) التخريج السابق.

([27]) الموافقات، الشطابي، (4/196).

([28]) انظر تتبعًا للواقع المعاصر في: دمعة على التوحيد حقيقة القبورية وآثارها في واقع الأمة، مجموعة من الباحثين، ذكروا أمثلةً مُحْزِنَةً مِنْ بلدان شتى في العالمِ الإسلامي.

([29]) جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، نعمان الآلوسي،ص(459).

([30]) اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، (2/753).

([31]) رواه البخاري، (1/633)، ومسلم، (5/15).

([32]) انظر: مجموعة الرسائل والمسائل، ابن تيمية، (5/562).

([33]) تقدم تخريجه.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التعظيمُ الممنوعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 2.doc doc
التعظيمُ الممنوعُ للأماكن بمكةَ المكرمةِ 2.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى