المتواتر من الأماكن في مؤلفات السيرة النبوية

المتواتر من الأماكن في مؤلفات السيرة النبوية





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يمكن إجمال الملحوظات والأخطاء التي وقع فيها معالي الدكتور في هذا المبحث على النحو التالي:

أ-إن مما يؤخذ على معالي الدكتور في قوله أولا:" المتواتر من الأماكن المأثورة في مؤلفات السيرة النبوية" أنه حصر الأماكن في مكان واحد، هو مكان مولده صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لمكان آخر مع أنه صرح بقوله "الأماكن" وترك كثيرا من الأماكن المتواترة في كتب السيرة كالكعبة المشرفة، وبئر زمزم، ومقام إبراهيم، والصفا والمروة، وعرفات، ومنى، ومزدلفة، كلها أماكن متواترة ذكرت في كتب السير النبوية ولها تاريخها الحافل.

فقد ترك معالي الدكتور ذكر ذلك كله وأهمله، وأجهد نفسه-في هذا المبحث- في إثبات مكان المولد والزعم بأنه متواتر مع أن صنيعه يدل جزما على أن مكان المولد ليس من الأماكن المتواترة قطعا، لأنه نقل عن الكتب التي ذكرها أنها تحكي أربعة أقوال في تحديد مكان ولادته صلى الله عليه وسلم، والخلاف دليل قطعي على عدم التواتر، فإن التواتر في أمر لا يقبل فيه تعدد الأقوال، فنحن مثلا لم نجد أقوالا متعددة في تحديد موقع الكعبة أو المقام أو الصفا والمروة أو بئر زمزم، والسبب في ذلك أنها متواترة عند الناس، أما مولد النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر علماء السيرة أربعة أقوال في تحديده وليس بينها ترجيح، فهذا دليل على عدم تواتره.

بل هناك من يخالف الدكتور في قوله ويرى أن ما رجحه الدكتور ليس بصحيح ولا دليل عليه، مثل الشيخ حمد الجاسر وهو متخصص في هذا المجال، وكذلك الشيخ عبد الله العياشي، وسيأتي ذكر أقوالهما، فدعوى التواتر لا يمكن قبولها من معالي الدكتور بحال.

ب-إن ذكر علماء السيرة للأماكن هو تبع لحوادث السيرة النبوية وليس أصالة، وأما عنوان المبحث كما ذكره معالي الدكتور فيوحي بأصالة ذلك، وهذا ليس بصحيح.

ج- لقد اشتمل ما سطره معالي الدكتور في هذه المسألة[1] الموجزة على مغالطات عملية غير مقبولة، تستغرب من مثل معاليه هو أستاذ منهج البحث العلمي في كلية الشريعة بجامعة أم القرى، أذكرها كما يلي:

المغالطة الأول: ذكرها معالي الدكتور بقوله: إن المؤرخين لهم منهجان:

الأول: حاطب الليل، وهو الذي يذكر جميع ما شاهده من غر تميز، وقد أشار إلى هذا بقوله:" إذ إن من وظائف المؤرخ أن يرصد كل ما يقال عن المكان والحدث، بصرف النظر عن صحته، أو عدم صحته"[2].

الثاني: يكون أكثر دقة، فيسقط من الاعتبار ما لم تشهد له الشواهد، ثم بين في النهاية الراجح، وقد أشار إلى هذا بقوله:" ومنهم من يكون أكثر دقة، فيسقط من الاعتبار ما لم تشهد له الشواهد، أو الوقائع بادئ ذي بدء، ومن عرض لها يرتد عليها فيزيفها، ويبطلها من اعتباره، ثم بين في النهاية الراجح من تلك الأقوال"[3]، ثم قال:" ومن هذه المدونات نذكر:

كتاب:" الاستيعاب في أسماء الأصحاب" ثم ذكر نقل ابن عبد البر، قال: قال الزبير: حلمت به أمه صلى الله عليه وسلم أيام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى، وولد صلى الله عليه وسلم بمكة في الدار التي كانت تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج..."[4].

فإذا رجعنا إلى كتاب ابن عبد البر رضي الله عنه سنجد ما يلي:

1- أن ابن عبد البر في هذه المسألة بالذات-وهي مولده صلى الله عليه وسلم- لم يتعرض إلى نقد أي رواية، بل ذكر الروايات وسكت عنها، فهو في هذه المسألة بالذات ليس من أصحاب المنهج الثاني، وإنما ذكر معالي الدكتور أنه من أصحاب المنهج الثاني، ثم ذكر بعده نص الزبير ليثبت به مكان المولد وهذا إيهام للقارئ بأن هذا القول هو الصحيح، وهذه الطريقة مخالفة للأمانة العلمية، وخاصة إذا علمت أن ابن عبد البر ذكر قولا ثانيا في مولده صلى الله عليه وسلم، ولم يرجح شيئا، وسأبين هذه بعد قليل.

2-ارتكبت معالي الدكتور أمرا مخالفا للأمانة العلمية-ولعله من غير قصد- فقد عمد إلى نقل ابن عبد البر لقول الزبير وحذف منه آخر عشر كلمات وهي:" وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان"[5]، وقد حذفها معالي الدكتور، لأنها تخالف مراده، إذ بها سيقع معالي الدكتور بين أمرين أحلاهما مر، فإما أن رجح هذا القول-هو صنيعه هنا- فعليه تكون ولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، ومعالي الدكتور لعله ممن لا يقول بهذا القول، لأن شهرة يوم المولد تفوق شهرة مكان المولد بمراحل كثيرة، وقد رجح معالي الدكتور قول المرقريزي في تاريخ الولادة وهو المشهور، وسيأتي قريبا، وإما أن يرد هذا القول ليسلم له تاريخ ولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول وهو المهم عند من يحتفلون بالمولد، فلا يصح إثبات مكان المولد بهذا القول، لأن من يثبت أن تاريخ الولادة هو الثاني عشر من ربيع الأول لن يرضى بهذا القول، وهذا الرد لهذا القول دليل على أنه ليس بمتوتر كما يدعي معالي الدكتور، ومن المعلوم أن يرجح أن ولادته صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول هم جمع كثير، فأين المتواتر والمخالفون أكثرية؟ مع العلم أنه لا يمكن الجمع بين مكان الميلاد وتاريخ الميلاد في الثاني عشر من ربيع الأول، ولكن الذي يمكن معه الجمع بين مكان الولادة وتاريخ الميلاد، هو القول بأن مولده الشريف كان في شهر رمضان، وهذا ما يرده الأكثرية، فليت معالي الدكتور يتنبه لهذا الملحظ المهم.

وعليه فيبقى القول الآخر الذي ذكره ابن عبد البر رحمه الله وهو: أنه صلى الله عليه وسلم ولد في شعب بني هاشم[6] ويكون هو الراجح، وللأمانة فإن معالي الدكتور لم يذكر ترجيحه هنا صريحا بل يفهم من موقفه من كتاب الاستيعاب وأنه ممن يعتمد الراجح، وسيأتي ترجيحه لهذا القول صريحا[7].

المغالطة الثانية: إرباك معالي الدكتور لمن يقرأ هذا المبحث، فهو عدما رجح قول ابن عبد البر في أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في الدار التي تدعى لمحمد بن يوسف-كما يفهم من صنيعه، جاء في تحليله لكتاب "الروض الأنف..." للسهيلي "ت 581هــــ" وذكر أن ولادته في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف قول ضعيف، وذلك لأن السهيلي ذكر القول بصيغة التمريض، حيث يقول: فقد ذكر:" أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد بالشعب، وقيل: بالدار التي عند الصفا، وكانت بعد لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، ثم بنتها زبيدة مسجدا حين حجت..." صدر حديثه عن مكان ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول الراجح، كما هي عادة الملفين، ثم ثنى بالقول الآخر المرجوح، وهو أنه "ولد بالدار التي عند الصفا" فمن ثم أعقبها بقوله:" وقيل" وهي للتمريض، والتضعيف"[8].

فالقارئ سيحتار هل الدار التي ذكرها ابن عبد البر، غير التي ذكرها السهيلي؟ فيكون لحمد بن يوسف داران، إحداهما بالصفا والأخرى بمكان آخر؟ أم هي دار واحد؟ أن محمد بن يوسف شخصان مختلفان، أن أن معالي الدكتور له أكثر من ترجيح، أن أنه يذكر ترجيح كل صاحب كتاب فقط ولا يذكر رأيه، مع أنه سيتضح فما يأتي أنه يرجح أن مولده صلى الله عليه وسلم هو مكان مكتبة مكة المكرمة الآن ويدافع عنه بقوه، مع أن الناظر في الكتابين يرى بوضوح أنهما لا يرجحان، صراحة قولا، بل يذكران الأقوال فقط.

مع أن القول الذي قواه هو مولده بالشعب من غير تحديد لأي دار بالشعب، فالقولان ليس فيهما ما يريد معالي الدكتور من تحديد المكان بالموقع المعروف.

ولو قيل: إن الولادة غالبا تكون في بيت الوالد، لقيل: هذا احتمال، وهناك احتمالات أخرى وجيهة، منها: أن المرأة حامل عند الولادة أو قبلها بقليل تذهب إلى بيت أمها أو عمتها أو خالتها حتى تعينها على الولادة، وهذا أمر معول به من قديم.

وعليه فإن الأمر إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، فعاد الأمر إلى وجوب الاستدلال بما لا يعارض بمثله، وترجيح أحد الاحتمالات بغير دليل تحكم في إثبات القضية، وهذا أمر مردود علميا.

المغالطة الثالثة: الدعوى بغير دليل، وهي في هذا الفصل كثيرة، ولكن سأذكر ما يخص هذه الفقرة، وهي:

1-أن السهيلي رحمه الله إذا قرن القول: بقيل فهذا يدل على تضعيف القول، إذ يقول معالي الدكتور:" ثم ثنى بالقول الآخر المرجوح، وهو أنه ولد بالدار التي عند الصفا، فمن ثم أعقبها بقوله: وقيل وهي للتمريض، والضعيف"[9].

وهذا تقول منه على السهيلي، فاعتماد "قيل" لتضعيف القول ليس من منهج أصحاب السير، وقد علم تساهلهم في المرويات أصلا فكيف يدققون هذا التدقيق، بل هذا المنهج هو لبعض المحدثين، وقد قرأت مقدمة السهيلي لعلي أظفر بهذا التنصيص فلم أحده، فلعل هذا التفريق من معالي الدكتور، ولكن للأسف لم يحالفه الصواب فيما قرر.

كما أني تتبعت هذا في كتاب السهيلي، إذ قلت: لعل معالي الدكتور تتبع هذا في الكتاب فوجد أن هذا هو منهج السهيلي، إذ الدكتور معلوم قدره في البحث العلمي، ولكن للأسف قد وجدت السهيلي يصدر قولا مختلفا فيه "بقيل" ثم يقول وهو أقرب للصواب حيث قال: "وقال في أمهات بني عبد مناف وأنا صفية فأمها: بنت عبد الله بن سعد العشيرة بن مذحج، إلا أقلها، فيستحيل أن يكون في عصر هاشم من هو ابن له لصلبه ولكن هكذا رواه البرقي عن ابن هشام، كما قلنا، ورواه غيره بنت عبد الله من سعد العشيرة وهي رواية الغساني وقد قيل فيه عائذ الله وهو أقرب إلى الصواب"[10].

فانظر كيف قال السهيلي: قيل، ثم عقب قوله فقال وهو أقرب للصواب، ولكن لعل هذا مما فات معالي الدكتور وأحببت لفت نظره إلى هذه الفائدة، لتصحح المعلومة.

2-ذكر معالي الدكتور أن ابن عبد البر والسهيلي والصالحي ذكروا القول الراجح في هذه المسألة ولكنه لم يذكر مستندهم في ترجيحهم، مع أنهم لم يصرحوا بترجيح قول من الأقوال، فإن كان معالي الدكتور يرى أنهم رجحوا قولا، فليذكر المستند على ذلك الترجيح من كتبهم، إذ ما نقله عنهم ليس فيه أي ترجيح لقول دون الآخر.

وقد راجعت هذه الكتب، ولم أجد أحدا من أصحابها رجح قولا من الأقوال، بل يذكرونها ويتجاوزونها إلى غيرها بل لا يهتمون بها، وما وجدته هو ترجيح الصالحي رحمه الله في كتابه أنه ولد بمكة لا في غيرها، وأما المواطن التي بمكة فلم يرجح منها شيئا[11]، وإن كان معالي الدكتور هو المرجح فليذكر مستنده ودليله، فالعلم بلا دليل غير مقبول، وتحميل الآخرين أقوالا لم يقولوها غير مقبول.

3-ما ذكره عن المقريزي رحمه الله لم يذكر له دليلا على ترجيحه مع أن المقريزي متأخر جدا فقد توفي سنة (845هـــ) وقول المقريزي يتعارض مع نقل ابن عبد البر الذي نقله معالي الدكتور سابقا، لأن تاريخ الولادة والمكان متعارضان، ومعالي الدكتور يقول بكلا القولين، وقد فاته أن القول بكلا القولين جمع بين المتناقضات، وقد تقدم بيانه.

4-أما دعوى معالي الدكتور أن الصالحي قدم القول الراجح بشيء من التفصيل فهذه دعوى عريضة لا يوجد لها أي دليل وغاية ما ذكره الصالحي أنه ذكر البيت، ثم ذكر من باعه ومن اشتراه، فأين التفصيل في الترجيح؟

مع أنه رجح صراحة أنه ولد صلى الله عليه وسلم بمكة فقط، ولم يرجح شيئا آخر، وهذا كتابه مطبوع، فليراجعه من أراد التوثيق والتثبت.

5-وأما المنهج الذي ذكره عن الدكتور عبد الله الرحيلي بقوله:" إن من التدقيق ما يكون خروجا عن منهج التدقيق والتمحيص، وذلك حينما يكون التدقيق مثلا، اتباعا للاحتمالات الضعيفة، وإسقاطا للاحتمالات الراجحة، أو الثابتة بالأدلة والمنهج، إن الأخذ بالاحتمالات الضعيفة اتجاه بغير بدليل، وإن الحكم للاحتمالات الضعيفة في مقابل الاحتمالات الراجحة، أو الأدلة الراجحة عدول عن منهج التحقيق والتثبت، ولو بدا ظاهر الأمر أنه تدقيق"[12].

فليس له علاقة بموضوعنا، لأن الدكتور الرحيلي يفترض وجود احتمالات راجحة وأخرى مرجوحة، أما مسألة بحثنا أعني مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم فليس فيها قول راجح وآخر مرجوح البتة، اللهم إلا إن قلنا إن الصالحي رجح إن مولده عند رغبة معالي الدكتور، فلا يتوجه هذا المنهج إلى مسألتنا، لأن الاحتمالات متساوية، وعلى معالي الدكتور أن يبحث على منهج آخر يبحث الترجيح بين الاحتمالات المتساوية.

 



[1] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (29-32).

[2] المرجع السابق (29).

[3] المرجع السابق.

[4] المرجع السابق، (30).

[5] الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (1/136).

[6] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر(1/137).

[7] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (31).

[8] المرجع السابق (30).

[9] المرجع السابق، (30).

[10] الروض الأنف(1/207-208).

[11] انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (1/338).

[12] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (32).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
المتواتر من الأماكن في مؤلفات السيرة النبوية.doc doc
المتواتر من الأماكن في مؤلفات السيرة النبوية.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى