شواهد التواتر المحلي للأماكن المأثورة في مكة المكرمة (2)

شواهد التواتر المحلي للأماكن المأثورة في مكة المكرمة (2)





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛
اهتمام الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله بالأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة
       يقرر معالي الدكتور هنا أن الملك عبد العزيز رحمه الله من الخلفاء والملوك الذين أبدوا اهتماما خاصا بالأماكن الإسلامية بمكة يستدل على ذلك بأمرين:
       الأول: تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك المعم فمنح سعاد الشيخ عباس قطان الأرض البيضاء المعروفة بدار السيدة خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، لإقامة مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم على أنقاض الدار، كما تفضل فمنحه أيضا المكان الذي ولد فيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم[1].
       الثاني: أن ما قام به جلالة الملك خطو جيدة مباركة كانت بعد استشارة كبار العلماء.
       ولكن بعد قراءة بعد ما سطره معالي الدكتور في كتابه يتبين كثرة المغالطات التي وقع فيها معالي الدكتور-هداه الله- ومن أهما ما يلي:
       1- أن الملك عبد العزيز لم يمنح الشيخ عباس قطان أرض السيدة خديجة رضي الله عنها أو مولد النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء كما يوهم قوله ولكن كان بطلب مقدم من عباس قطان وعمته فاطمة كل منهما تقدم بطلب، تقدمت فاطمة بطلب من الحكومة بالسماح لها بإنشاء مكتبة مكان المولد، وتقدم عباس بطلب إنشاء مبنى مدرسة تحفيظ في مكان مولد السيدة فاطمة رضي الله عنها"دار السيدة خديجة رضي الله عنها".
       وهذا يعني أن الملك عبد العزيز لم يبادر أو لم يكن الأمر من اهتماماته، بل طلب منه فوافق، وهذا ليس فيه كبير اهتمام، بل لم يأمر الملك عبد العزيز بإنشاء أي منهما على نفقته أو نفقة الحكومة أو ساهم ولو بجزء من ذلك، فهذه موافقة، والموافقة لا تعد اهتماما، لأن الاهتمام يكون من شأنه المبادرة والحرص ودفع المال والمتابعة كما هو الحال في توسعة المسجد الحرام، وليس في هذا الأمر شيء من ذلك، فعلام المغالطة ودعوى الاهتمام؟؟؟
       2-حقيقة الأمر أن الملك عبد العزيز وافق للسيدة فاطمة قطان بهدم المولد الشريف وبناء مكانه مبنى آخر يكون مكتبة يتسفاد منها، فالملك عبد العزيز ساهم وبشكل واضح وكبير في إزالة مكان من الأماكن التي تمارس عندها البدعة، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم من أزالة أماكن الأصنام، ويقيم مكانها مكانا يذكر فيه اسم الله، لا أنه ساهم في المحافظة وهذا خلاف ما يرى معالي الدكتور، ونظرة الملك عبد العزيز هي النظرة التي كان عليها السلف، وهي إزالة الآثار إذا احتاج الناس إلى ذلك من بناء مرافق ونحوها.
       وأما المكتبة اليوم فلا يصح الإطلاق عليها أنها مولد النبي صلى الله عليه وسلم ولم على فرض صحة مولده بذاك المكان، بل إن كمان المولد الشريف قد انتهى من الوجود من عام "1370هــــ" ولكن المغالطة تبقى لتعلق النفوس بشائبة تعظيم الأماكن على مناهج مخالفة لهدي السلف، فمن المعلوم لدى كل عاقل أن الرجل إذا باع داره ثم اشتراها منه رجل، فهدمها وبنى مكانها بيتا آخر، فلا يقول عاقل: أن هذه دار الرجل الأول، بل يقول: هي دار الرجل الثاني، ويقال: كانت مكانا دار الرجل الأول وانتهت من الوجود.
       ويقال مثل هذا فيما فعل السيد عباس قطان، بل إنه منح الأرض البيضاء المعروفة بدار السيدة خديجة رضي الله عنها، فالمثبت في الصك أنها أرض بيضاء أي ليس هناك دار وهذا يعني أنها أزيلت من قبل، فعلام يتباكى معالي الدكتور على أزالتها ويهم بالبناء عليها وأنه من قبيل اهتمام الملك عبد العزيز بالآثار!!!
       ولعل معالي الدكتور لم ينتبه لهذا مع وضوحه، إذ كيف يعقل أن يكون بناء مدرسة حديثة على أرض بيضاء يحيي ذكرى شيء منهدم وتكون المدرسة وقتها أثرا إسلاميا مع أنها حديثة البناء؟ ولماذا لم يقل معالي الدكتور عندما هدم الوليد بن عبد الملك حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأدخلها في المسجد: أن ما بني في السد في ذلك المكان هو إحياء لتلك الآثار.
       فكيف سيجيب معالي الدكتور على هذا مع أنه قرر سابقا حزن من عاصر هدم حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم[2]؟ فلماذا نقل بكاء من حضر تلك الواقعة، مع أن هذا الصنيع سوف يحي ذكرى ما تهدم على حد قوله؟
       وهنا استشكال يطرح نفسه: لماذا هدمت دار المولد المزعوم أصلا وازيلت من الوجود؟ ثم لماذا منحها الملك عبد العزيز واشترط أن يبنى عليها مرافق للمسلمين"مكتبة" كما هو مسطر في الصك؟ لماذا لم يأمر بتجديد البناء القديم المزعوم؟ فيكون بذلك حافظ على هذا الأثر، بل المتبادر إلى الذهن أن الملك عبد العزيز وعباس قطان اتفقا على إزالة هذا الأثر، ويكون عباس قطان بطلبه هذا هو من تآمر لإزالة مكان المولد المزعوم، فكيف يكون الملك عبد العزيز معتنيا بالأثر وهو مشترك في خد دار المولد المزعوم؟
       3-إن منح الملك عبد العزيز دار المولد المزعوم وهي قائمة موجودة لعباس قطان يحتمل أمرين اثنين:
       الأول:أن يكون الملك عبد العزيز يعلم أنها ليست بدار المولد فليست بأثر يجب الحفاظ عليه، لذا أذن لعباس قطان بهدمها وبناء المكتبة مكانها.
       الثاني: أن يعلم الملك عبد العزيز بأنها دار المولد حقيقة، ثم يمنح هذه الدار لعباس قطان، وهذا يدل على أنه تعمد إزالتها لا الحفاظ عليها.
       وعلى كلا الاحتمالين: ليس هناك أن عناية من الملك عبد العزيز بالآثار الإسلامية بمكة المكرمة، فهل سيحترم معالي الدكتور عقول القراء؟ فالاستخفاف بعقلية القارئ واستهجانها أمر معيب على الكاتب والباحث الصادق، لأن هذا الأسلوب يعد نوعًا من التدليس والتضليل وطمس الحقائق.
       4-القول بأن الملك عبد العزيز اعتنى بالأماكن المأثورة هو مكابرة وتغيير للوقع، بل الملك عبد العزيز وأبناؤه اهتموا بالحرم المكي اهتماما عظيما، وكان ذلك على حساب الأماكن المأثورة يعلم ذلك كل منصف، فالتوسعة للمسعى والمنطقة الشرقية أزالت جميع المعالم بل حتى مكان المولد المزعوم، فقد وافق الملك عبد العزيز على هدمه وبناء مكتبة مكانه، فكيف يصح أن يقول معالي الدكتور أن الملك اعتنى بالأماكن المأثورة بمكة المكرمة؟
       وعليه أن يصحح العبارة فيقول: إن الملك عبد العزيز اعتنى بالمسجد الحرام واعتنى بهدم وإزالة الأماكن البدعية التي يعتقد فيها غير الحق.
       5-إصرار معالي الدكتور أن الملك عبد العزيز هو الذي أمر بأن يجعل مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم مكتبة، مع أن الصك الذي ذكره معالي الدكتور: يشهد بأن فاطمة قطان هي التي طلبت بأن تكون مكتبة وجاءت الموافقة على ذلك، فما أدري لماذا يصر معالي الدكتور على أن يحمل الملك عبد العزيز ما لم يتحمله[3]؟
       6-عندما أزيل مولد علي رضي الله عنه وكان لصيقا لجبل أبي قبيس أو قريبا منه-كما يقول معالي الدكتور-[4] وأدخل ضمن توسعة الطرق، وعمل الأنفاق الآتية من حي العزيزية، هل يعد هذا اهتماما بالآثار أم إهمالا لها؟ وكذلك دار الأرقم أزيل عام (1375هــــ) لتوسعة المسعى، ودار السيدة خديجة رضي الله عنها أزيل (1401هـــــ) للمصلحة العامة هل يعد هذا اهتماما من الملك عبد العزيز وأبناءه الملوك أم إهمالا؟
       7-ادعى معالي الدكتور أن الملك عبد العزيز فعل ما فعل بعد استشارة العلماء فلماذا لم يذكر معالي الدكتور نص الفتوى كما ذكر نص الصك في كتابه، وهذا أمر عجيب مع أن نص الفتوى أهم من نص الصك.
       8- إن غاية ما استدل به معالي الدكتور على استشارة الملك عبد العزيز هو أربع قصص الأولى والثانية للأستاذ- عبد الزراق محمد عبد الزراق حمزة، وما يتعلق فيها بموضع الاستشارة أن إمام الحرم المكي الشيخ عبد الظاهر أبو السمح، ونائبه فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة"طلبا من الملك عبد العزيز يرحمه الله منحها أي دار الأرقم، لتكون مقرا لمدرسة دار الحديث، فوافق الملك عبد العزيز"[5].
       وهذه القصة من أولها إلى آخرها ليس فيها أي استشارة لا تصريحا ولا تلوحيا، بل ما نقلته هنا هو أقرب ما يمكن أن يفهم منه ذلك، ومع ذلك فإن الذي نقلته هنا ليس فيه أي استشارة، وإنما هو طَلب طُلب من الملك عبد العزيز فوافق عليه، ومن المعلوم أنها لو كانت استشارة فهذا يعني أن الملك عبد العزيز قد اتصل بهما وطلب رأيهما في هذا الموقع، فأشار عليه بجعله مدرسة...إلى آخره، وهذا لم يكن، فكيف يقال إن الملك عبد العزيز في هذه القصة استشار كبار العلماء؟
       -وأما القصة الثالثة فنقلها عن العلامة مسعود عالم الندوي فليس فيها ذكر الملك عبد العزيز البتة فضلا على أن يكون فيها استشارة.
       وأما القصة الرابعة فنقلها عن العلامة السيد رشيد رضا، وهذه على عكس مطلوب الدكتور، إذ ليس فهيا أي استشارة ولو إشارة أو إحياء بل كل ما فيها أن االعلامة رشيد رضا طلب من الملك عبد العزيز أن يجعل بيت السيدة خديجة رضي الله عنها وبيت المولد مدرستين لتخريج المحدثين والدعاة، وأن تكون زيارة هذين الموضعين بإذن رسمي[6]... ولكن رد الملك عبد العزيز جاء بالرفض القاطع حيث قال الملك عبد العزيز:" لا يمكننا ذلك بدون فتنة كبيرة"[7]، فجاء رد الملك عبد العزيز على عكس القصة الأولى، فكيف يكون قد استشار العلماء الكبار، هذا ما لا يصدقه عقل.
       -وأما قول معالي الدكتور:" وأما ثالثة الأثافي..."[8] فهي قصة بناء مدرسة سميت بمدرسة النجاح في موقع ما يسمى" مولد الإمام علي" وقصة بناؤها أبعد ما يكون عن استشارة الملك عبد العزيز، بل ملخص القصة كما ذكره معالي الدكتور: أن الشيخ عبد الله خوجه ذهب إلى الرياض لإعداد"حفلة تخرج لمعهد الأنجال" لخبرته في إعداد الحفلات، وقد نجح هذا الحفل، وعندها طلب القائمون على المعهد من الشيخ أن يتمنى، وهو بدورهم سوف يوصلون منه أن يحدد موقع الوقف، فأخبرهم أنه وجد ذلك المكان وهو ما يسمى"مولد الإمام علي" فجاءت الموافقة، بل وأعطوه ما يحتاج للبناء عن طريق "بن لادن".
       فهذه الواقعة ليس فيها استشارة، وإنما هو طلب بواسطة القائمين على معهد الأنجال، وكذلك هذه الواقعة فيها إزالة لمكان مأثور وهو مولد"السيد علي" فهذا يعتبر تعد على مشاعر المسلمين، وهدم للأماكن المأثورة بمفهوم من يقدس مثل هذه الأماكن، ومع هذا فقد أزيلت هذه المدرسة الآن وهو يعتبر تعد آخر على الآثار والأماكن المأثورة!! وما الظن لو تدخل من يزعم حب علي من الروافض في هذا الموضوع وأجلب بخيله ورجله، أتراه على حق يا معالي الدكتور؟
       9-إن معالي الدمور وقع في مشكلة علمية لم يستطع أن يتحرر منها طوال كتابه ألا وهي: عدم التفريق بين المشهور والصحيح.
       فهناك أمور قد تكون مشهورة بين الناس ولا يلزم أن تكون صحيحة من أمثلة ذلك: قول كثير من الحجاج في أيام التشريق سنرمي الشيطان ويريدون الجمرات، فقولهم هذا مشهور ولكن ليس بصحيح، وكالحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم:" الدين المعاملة" وكذلك"خير البر عاجله" وكذلك"النظافة من الإيمان" فهذه مع شهرتها بين الناس لا أصل لها أي ليست بأحاديث أصلا، وأمثلة هذا كثير جدا لا يكاد يحصيه كتاب، وعليه فشهرة مكان مكتبة مكة المكرمة بأنه هو مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم خاصة عند المتأخرين لا يلزم منه أن يكون ذلك هو الصحيح، فإن في المولد أربعة أقوال، ولم يذكر أحد الترجيح فيها بدليل قوي يستقيم معه القول، ولكن معالي الدكتور أخذ هذه الشهرة وجعلها على الصحيح، بل ادعى التواتر العلمي والشفهي المحلي[9]، مع العلم بأن هذا المصطلح لم يسبقه إليه أحد من أهل الحديث أو السير والتاريخ وأضاف إلى ذلك الشهرة التي ذكرها القاضي وحكم بأنها تواتر، فتمسكه بالتواتر وسماه هذه المرة بالمحلي في إثبات مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم استنادا إلى قول فضيلة رئيس المحكمة حيث جاء في الصك قول فضيلته:" الشهير في محلته شهرة تغني عن تحديد وصفه"[10] وقول معالي الدكتور بعد ذلك:" أن في هذين الصكين ما يثبت التواتر المحلي لكلا هذين المكانين المأثورين" ليس بصحيح فإن كلام الشيخ عبد الله بن دهيش رحمه الله ليس نقلا بالإجماع، وإنما ذكر الشيخ أن هذا الكان مشتهر بين الناس؟ سواء أكانت الشهرة صحيحة أم غير صحيحة، ولو سلمنا أن الشيخ عبد الله بن دهيش رحمه الله نقل الإجماع وأنى له ذلك، فيقال عندها: من أين له بالإجماع رحمه الله.
       وما أدري بأي شيء يعجب القارئ وكل ما يذكره معالي الدكتور يدل على نقيض ما يريد إثباته وبعد هذا كله لا يزال الدكتور مصرًا على أن مكتبة المولد أثرًا إسلاميًا مع أن جميع المعطيات تدل على أن المولد قد انتهى من الوجود، وأن المكتبة ليست من الآثار الإسلامية، بل هي بناية حديثة بنيت عام "1370هــــ" فهل يعقل أن تكون من الآثار الإسلامية المأثورة من ذلك الزمان.
 


[1] الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (109-101).

[2] الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (22-23).

[3] الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (111-113).

[4] المرجع السابق (122).

[5] المرجع السابق (114-115).

[6] الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (119).

[7] المرجع السابق (120).

[8] المرجع السابق (121-122).

[9] الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (108).

[10] المرجع السابق (111)

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
اهتمام الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله بالأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة.doc doc
اهتمام الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله بالأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى