فضل مكة المكرمة

فضل مكة المكرمة





      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ اصطفى اللهُ تعالى مكةَ المكرمةَ مِنْ بين بقاعِ الأرضِ ليكونَ فيها بيتُه الحرامُ، وَيتوجهُ إليه المسلمون منْ سائرِ أنحاءِ الأرضِ، ولهذَا للحرمِ أهميتُه عند اللهِ - عزَّ وجل -، وقدْ ذكرَه اللهُ تعالى فِي القرآنِ الكريمِ بأسماءٍ عديدةٍ؛ وهي: مكةُ، وبكةُ، وأمُّ القرى، والبلدُ الأمين، والبلدُ، والبلدةُ، والمسجدُ الحرام، ومعاد.

       وَمَا تعدد هذه الأسماءِ إلا دليل على شرفِ المُسَمَّى وَعِظَمِ مكانتِه عندَ اللهِ تعالى، وَقَدْ أشارَ بعضُ العلماءِ إلى أسماءٍ أخرى كثيرة لمكةَ المكرمة([1]).

       كَمَا تظهرُ أهميةُ مكةَ عندَ اللهِ تعالى حينَ جعلَ لها حرمًا، وهوَ ما أحاطَ بها وَأطافَ بها منْ جوانبِها، وحُكْمُه حكمُها في الحرمةِ تشريفًا لها وتعظيمًا لمكانتِها([2]).

       وتؤكدُ بعضُ الدراساتِ الحديثةِ إلى أن مركزَ تلاقي الإشاعات تتلاقى عندَ مكةَ([3])، كما توصَّلَ أحدُ الباحثين إلى أنَّ مكةَ المكرمةَ هي مركزُ الأرضِ، وَتُعتبرُ منتصفَ العالمِ، أي أنَّ الأرضَ اليابسةَ على سطحِ الكرةِ الأرضيةِ موزعةٌ حولَ مكةَ المكرمةَ، توزيعًا منتظمًا([4]).

       وَلهذا البلدِ الحرامِ فضائلُ كثيرةٌ أشادَ اللهُ - عز وجل - بها في القرآنِ الكريمِ في مواضعَ عديدةٍ، وزخرتْ سنةُ نبيِّه - صلى اللهُ عليه وسلم - بفضائلِها، مما دعَا العلماءَ لإفرادِها بالتصنيفِ قديمًا وحديثًا([5])، وسأشيرُ إجمالًا إلى أبرزِ هذه الفضائل.

1- حرمةُ مكةَ:

       فلقدَ حَرَّمَ اللهُ - عز وجل - هذه البلدةَ منذُ خَلْقِ السمواتِ وَالأرضِ؛ قَالَ تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91].

       ويؤكدُ هذا التحريمَ أحاديثُ كثيرةٌ؛ منها: حديثُ ابنِ عباسٍ: ((إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السماواتِ وَالأرضَ، فهوَ حرامٌ بحرمةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ ...))([6]).

       وقدْ أكدَ - صلى اللهُ عليه وسلم - حرمةَ مكةَ حينَ شبَّهَ حرمةَ الدماءِ وَالأموالِ وَالأعراضِ بحرمتِها([7]).

2- إقسامُ اللهِ تعالى بها فِي كتابِه:

       أقسم الله - عز وجل - في آيات عديدة من كتابه الكريم بالبلد الحرام، وفي ذلك دلالة على عظم المقسم به، وتنبيها إلى مكانته وعلو منزلته عنده - عز وجل -، حيث قال - سبحانه وتعالى -: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]، وَقَالَ جل جلاله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } [البلد: 1-2].

3- دعاءُ إبراهيمَ الخليلِ - عليه السلام - لمكةَ وَأهلِها:

       حيثُ ذكرَ اللهُ - عز وجل - هذه الدعواتِ؛ فقَالَ تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 35-37].

4- كونُها خير البلادِ وَأحبها إلى اللهِ:

       فلقدْ جاءتْ الأحاديثُ النبويةُ الصحيحةُ تقررُ أنَّ مكةَ المكرمةَ أفضلُ البلادِ وَأحبُّها إلى اللهِ - عز وجل - وَإلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.

       وَمِنْ ذلكَ مَا جاءَ عَنْ ابنِ عباسٍ، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمكةَ: ((مَا أَطْيَبك مِنْ بَلَدٍ، وَمَا أحبك إليَّ، وَلَوْلَا أنَّ قومَك أخرجونِي مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ))([8]).

       وعنْ عبدِ اللهِ بن عدي بنِ الحمراء قالَ: رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على الحزوةِ فقالَ: ((إِنَّكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وَأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، وَلَولَا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ))([9]).

5-كونُها مَأْرِزَ الإيمانِ:

       روى مسلمٌ فِي صحيحِه([10]) عَنْ ابنِ عمرَ عنْ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - قَالَ: ((إِنَّ الإسلامَ بَدَأَ غريبًا وَسيعودُ غريبًا كَمَا كَانَ، وَهوَ يأرزُ بينَ المسجدين كَمَا تأرزُ الحيةُ فِي جُحْرِهَا)).

قَالَ النوويُّ - رحمه الله -: (أي مسجِدَي مكةَ وَالمدينةِ)([11]).

6- حمايةُ مكةَ مِنَ الدجالِ:

       مِنْ خصائص مكةَ وَفضائِلها حمايةُ اللهِ لها بملائكتِه الكرامِ لمنعِ الدجالِ منْ دخولِها، وَكذلكَ المدينةُ النبويةُ، يدلُّ على ذلكَ مَا صَحَّ عَنْ أنسٍ - رضيَ اللهُ عنه - عَنْ النبيِّ - صلى اللهُ عليه وسلم - قَالَ: ((ليسَ مِنْ بَلَدٍ إلَّا سيطؤُه الدجالُ إلَّا مكةَ وَالمدينةَ، ليسْ لَهُ مِنْ نِقَابِها نَقْبٌ إلَّا عَليه الملائكةُ صافِّينَ يحرسونها، ثُمَّ ترجفُ المدينةُ بأهلِها ثلاثَ رجفاتٍ، فيُخْرِجُ اللهُ كُلَّ كافرٍ وَمنافقٍ))([12]).

7- مضاعفةُ الصلاةِ فِي المسجدِ الحرامِ:

        وَقَدْ ثَبُتَ ذلكَ فِي عدةِ أحاديث؛ منها: مَا صَحَّ عَنْ أبِي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - أنَّ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - قَالَ: ((صلاةٌ فِي مسجدِي هذا خيرٌ مِنْ ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلَّا المسجد الحرام))([13]).

       وَعَنْ جابر - رضيَ اللهُ عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم - قَالَ: ((صلاةٌ فِي مسجدِي أفضلُ مِنْ ألفِ صلاةٍ فيمَا سواه إلا المسجدُ الحرام، وَصلاةٌ فِي المسجدِ الحرامِ أفضلُ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ فيمَا سواه))([14]).

8- تحريمُ الإلحادِ فِي الحَرَمِ:

       نَصَّ اللهُ - عز وجل - على حرمةِ بَلَدِهِ الحرامِ، فَقَالَ - سبحانه وَتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: 25].

       قَالَ ابنُ جرير: (هوَ أنْ يميلَ فِي البيتِ الحرامِ بِظُلْمٍ)([15]).

       وَالإلحادُ أصلُه الميلُ وَالعدولُ عَنْ الشيءِ، وَالمرادُ بِهِ الظلمَ، فَيَعُمَّ كُلَّ معصيةٍ للهٍ - عز وجل -، سواءَ أكانتْ فِي حَقِّ اللهِ تعالى أَوْ فِي حَقِّ عبادِه([16]).

       وَقَدْ أَكَّدَ النبيُّ - صلى اللهُ عليه وسلم - هذا التحريمَ للإلحادِ فِي حَرَمِ اللهِ تعالى، وَبَيَّنَ أَنَّ فاعلَه مِنْ أبغضِ الناسِ عِنْدَ اللهِ تعالى، فَعَنْ ابنِ عباسٍ - رضيَ اللهُ عنه - قَالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ))([17]).

9- النهيُّ عَنْ استحلالِ مكةَ، وَتحريمُ القتالِ وَالصيدِ وَقطْعِ الأشجارِ فيها وَأخذِ اللقطةِ مِنْ حَرَمِها:

       وَقَدْ دلتْ الأحاديثُ على ذلك، مِنها: ما صَحَّ عن أَبي هُريرة رضي اللَّهُ عنهُ قال: لمّا فتح اللَّهُ على رسول الله - صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم - مَكّةَ قَامَ رسولُ اللَّهِ - صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم - في النَّاسِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثنى علَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((إنَّ اللهَ حَبَسَ عنْ مَكّةَ الفيلَ وَسلّطَ عليها رسُولَهُ وَالمؤمنين، وإنها لم تحلَّ لأحدٍ كانَ قبلي وإنَّما أُحلّتْ لي ساعةً مِنْ نهارٍ وَإنَّها لم تَحلَّ لأحدٍ بَعْدي، فلا يُنْفّرُ صَيْدُها وَلا يُخْتَلى شَوْكُها وَلَا تحلُّ ساقطَتُها إلا لمُنْشدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لهُ قتيلٌ فَهُوَ بخيرِ النَّظرَيْن؛ إما أن يَفْدِيَ وإما أن يقيد ...))([18]) الحديث.

 



([1]) انظر: أخبار مكة، الفاكهي، (1/279)، ومثير الغرام الساكن، ابن الجوزي، (1/323-327)، شفاء الغرام، الفاسي، (1/75-84)، وقد توسع الفاسي في ذكر أسمائها.

([2]) انظر: تهذيب الأسماء واللغات، النووي، (2/82)، وانظر بحثًا موسعًا في ذلك: "الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به دراسة تاريخية ميدانية"، د.عبد الملك بن دهيش.

([3]) مجلة المنهل، العدد (475)، المجلدان الربيعان (13)، نقلًا عن: الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به، د.عبد الملك بن دهيش ص(35).

([4]) صاحب البحث هو: أ.د. حسين كمال الدين إبراهيم، ونشر بحثَه في مجلة البحوث الإسلامية، المجلد الأول، العدد الثاني (1395).

([5]) وهي مصنفات عديدة؛ منها: أخبار مكة للأزرقي، وأخبار مكة للفاكهي، وفضائل مكة للجندي، والجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف لابن ظهيرة القرشي، ومن الكُتُبِ الحديثة: فضائل مكة لعاتق البلادي، وفضائل مكة الواردة في السنة، د.محمد الغبان.

([6]) رواه البخاري، (3/449)، ومسلم، (2/986).

([7]) رواه البخاري، (1/157-158)، ومسلم، (3/1305).

([8]) رواه الترمذي وحسنه، (5/723)، وابن حبان، (9/23)، والحاكم وصححه، (1/486).

([9]) رواه الترمذي، (5/722)، وقال: (حسن صحيح)، والنسائي في الكبرى، (2/479-480)، وابن ماجه، (2/1037)، والحاكم، (3/7، 431)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

([10]) رواه مسلم، (1/123).

([11]) شرح مسلم، النووي، (2/177).

([12]) رواه البخاري، (4/95)، ومسلم، (4/2265).

([13]) رواه البخاري، (3/63)، ومسلم، (2/1012).

([14]) رواه أحمد في مسنده، (3/343)، وابن ماجه، (1/451)، وقال المنذري: (رواه أحمد وابن ماجه بإسنادين صحيحين، انظر: الترغيب والترهيب، (1769)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، (1155).

([15]) تفسير الطبري، (9/130).

([16]) انظر: فتح الباري، ابن حجر، (12/210)، ومجموع فتاوى ابن باز، (3/390).

([17]) راوه البخاري، (12/210).

([18]) رواه البخاري، (1/205)، ومسلم، (2/988، 989)، وانظر أحاديث أخرى في فضائل مكة الواردة في السنة، (1/84).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
فضل مكة المكرمة.pdf pdf
فضل مكة المكرمة.doc doc

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى