وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (2)

وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (2)



وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (2)

الأدلة من السنة

إن الله – سبحانه - افترض على الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم والناس أجمعين، لكن لم يأمرنا بالغلوِّ فيه وإطرائه، بل هو صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فيما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ((لا تُطْرُونِي كما أَطْرَت النَّصَارَى ابنَ مريم، إنما أنا عَبْدٌ، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه))([1]).

وفي الحديث الآخر أنه قال - وهو في السياق -: ((لعنةُ اللهِ على اليهودِ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد)) يُحَذِّر ما صنعوا، قالت عائشة - رضي الله عنها -: (ولولا ذلك لأُبْرِزَ قَبْرُه، ولكنْ خُشي أن يُتَّخَذَ مَسْجِدًا)([2]).

ولذا؛ يجب أن نعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون بالغلو فيه، بل من غالى في النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يعظِّمْ النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلو فيه، فإذا غاليت فيه فقد عصيتَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ومن عصا أحدًا فهل يُقال: إنه عَظَّمه؟! إذًا يجب علينا أن لا نغالي في النبي صلى الله عليه وسلم كما غالى أهلُ الكتاب في أنبيائهم، بل نقول: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لا يُعْبَد، ورَسُولٌ لا يُكَذَّب.

الأدلة من السنة:

إليك بعضُ الأدلة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم من السنة الشريفة:

لو أردنا أن نجمع النصوص الواردة في السنة الشريفة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم وتقديمها على محبة الناس والمال والأهل والناس أجمعين لطال بنا الحديث؛ لذا فإنني سأقتصر على ذكر بعض الأحاديث التي فيها الكفاية والغنية إن شاء الله.

1- من ذلك ما رواه الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((لأنتَ يا رسول اللهِ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلَّا من نفسِي؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيدِه، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسِك، فقال له الفاروقُ عمرُ رضي الله عنه: فإنَّه الآن واللهِ لأنتَ أحبّ إليَّ من نفسِي، فقالَ صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر))([3]).

فقد نصَّ هذا الحديث على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم وتقديمها على أغلى ما يحبُّ المرءُ - وهي نفسه -، وفيه فضل عمر رضي الله عنه لمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فوق محبة نفسه، ففيه ردٌّ ظاهرٌ على الرافضة الذين يلعنونه ويكفِّرُونه، قاتلهم اللهُ أنَّى يؤفكون.

2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فوالذي نفسِي بيدِه؛ لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه ووَلَدِه))([4]).

فهذا الحديث نصٌّ ظاهرٌ على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم، ووجوب تقديمها على محبة الوالد والولد والناس أجمعين، ويؤكد ذلك أيضًا الحديثُ الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ والنَّاسِ أجمعين))([5])، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمنُ أحدُكم ...))؛ أي: لا يحصلُ له الإيمان الذي تبرأ به ذمته ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول أحب إليه من أهله وولده والناس أجمعين، بل ومن نفسه أيضًا - كما تقدم في حديث عمر رضي الله عنه -، أما من لم يكنْ كذلك فهو - والعياذ بالله - من أصحاب الكبائر إذا لم يكن كافرًا - نسألُ اللهَ السلامة -.

لأنه لم يعهد في لسانِ الشرعِ الحنيفِ نفيُ اسمِ مُسَمَّى أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ به ورسولُه، إلا إذا تُرِكَ بَعْضُ واجباتِه، فأما إن كان الفعلُ مستحبًّا في العبادةِ لم ينفِها لانتفاءِ المستحب، إذ لو صحَّ هذا النفيُ؛ لجاز أن ينفيَ عن جمهورِ المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج وحب الله ورسوله؛ لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعلُ أفعالَ البرِّ مثلَ ما فعلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى الصديق والفاروق - رضي الله عنهما -، فلو كان من لم يأتْ بكمالِها المستحب يجوزُ نفيُها عنه لجازَ أن يُنفى عن جمهورِ المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقلٌ.

وعلى هذا؛ فمن قالَ إنَّ المنفي هو الكمالُ؛ فإنْ أرادَ أنه نفيُ الكمالِ الواجبِ الذي يُذَمُّ تاركُه ويتعرضُ للعقوبةِ فقد صَدَق، وإن أرادَ أنه نفي الكمالِ المستحبِ فهذا خطأ، فإنه لم يقعْ قط في كلامِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم([6]).

3- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثٌ منْ كنُّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمانِ، أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا للهِ، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفرِ بعدَ أن أنقذَه اللهُ منه كما يكره أنْ يُقْذَفَ في النارِ))([7]).

قال شيخ الإسلام - رحمه الله - تعليقًا على هذا الحديث الشريف: (أخبرَ صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمور الثلاث منْ كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمانِ؛ لأن وجودَ الحلاوةِ للشيء ِيتبعُ المحبةَ له، فمن أحبَّ شيئًا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجدُ الحلاوةَ واللذةَ والسرورَ بذلك.

واللذةُ أمرٌ يحصلُ عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهي، فحلاوةُ الإيمانِ المتضمنة للذة والفرح تتبعُ كمالَ محبةِ العبدِ للهِ، وذلك بثلاثةِ أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها؛ فتكميلها: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، فإن محبةَ اللهِ ورسولِه لا يكتفي فيها بأصلِ الحبِّ، بل لابد أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه عما سواهما، وتفريعها: أن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا للهِ، ودفعُ ضدها: أن يكرهَ ضِدَّ الإيمانِ أعظم من كراهتِه الإلقاء في النارِ)([8]).

قلت: فيبين الشاهد من الحديث وجوب محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهي قوله: ((أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما))، إذ من المعلوم أنه لا يمكن حصول إيمان للعبد بغير هذه المحبة، ولكن الناس يتفاوتون فيها تفاوتًا كبيرًا، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى فاستكملوا الإيمان، وهم الذين كانت محبة الله ورسوله مُقَدَّمَة عندهم على محبة ما سواهما، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كالمستغرق في الشهوات المحجوب في الفضلات أكثر أوقاته، ومنهم من هو بين الأمرين.

فالمستوفي لهذه المحبة هو الذي قام بمستلزماتها، فتوجه بكليته نحو هذه المرتبة الرفيعة، فأحب ما يحب اللهُ ورسولُه، وكره ما يكرهه اللهُ ورسولُه، وامتثل الأوامر واجتنب النواهي، وأفرد اللهَ بالعبادة، والرسولَ صلى الله عليه وسلم بالمتابعة وتخلَّق بأخلاقه، فوجدَ بذلك حلاوة الإيمان في قلبه، ويا لها من حلاوة فإنه لا يحسُّ بطعمها إلا من ذاقها.



([1]) رواه البخاري، (3445).

([2]) رواه البخاري، (5816)، ومسلم، (531).

([3]) رواه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي r، (6632).

([4]) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول r من الإيمان، (15).

([5]) التخريج السابق.

([6]) تيسير العزيز الحميد، محمد بن عبد الوهاب، ص(473-475).

([7]) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، (16).

([8]) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، (10/205-206)، والعبودية، له، ص(126).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (2).doc doc
وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (2).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى