وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (1)

وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (1)





الأدلة القرآنية

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله؛ ثم أما بعد؛ فإن الله – سبحانه - افترض على الناس محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم والناس أجمعين، لكن لم يأمرنا بالغلوِّ فيه وإطرائه، بل هو صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فيما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ((لا تُطْرُونِي كما أَطْرَت النَّصَارَى ابنَ مريم، إنما أنا عَبْدٌ، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه))([1]).

وفي الحديث الآخر أنه قال - وهو في السياق -: ((لعنةُ اللهِ على اليهودِ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد)) يُحَذِّر ما صنعوا، قالت عائشة - رضي الله عنها -: (ولولا ذلك لأُبْرِزَ قَبْرُه، ولكنْ خُشي أن يُتَّخَذَ مَسْجِدًا)([2]).

ولذا؛ يجب أن نعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون بالغلو فيه، بل من غالى في النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يعظِّمْ النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلو فيه، فإذا غاليت فيه فقد عصيتَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ومن عصا أحدًا فهل يُقال: إنه عَظَّمه؟! إذًا يجب علينا أن لا نغالي في النبي صلى الله عليه وسلم كما غالى أهلُ الكتاب في أنبيائهم، بل نقول: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لا يُعْبَد، ورَسُولٌ لا يُكَذَّب.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرٌ مُرسَل من عند الله، ولولا أن اللهَ اجتباه برسالته لم يكنْ له من الحق هذا الحق الذي يفوق حقَّ كلِّ بشرٍ، أما أن يكون مساويًا لحق الله عز وجل، أو يكون في قلب الإنسان محبةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تزيد على محبة الله، فإن هذا خطأٌ عظيم، فمحبةُ الرسول صلى الله عليه وسلم تابعةٌ لمحبة الله، وتعظيمُنا له صلى الله عليه وسلم تابعٌ لتعظيم الله عز وجل، وهو دون تعظيمِ الله تعالى، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن نغلو فيه، وأن نجعل له حقًّا مساويًا لحق الله عز وجل.

إنه يجب على المسلم أن يكون تعظيم الله تعالى ومحبته في قلبه أعظمَ من محبةِ وتعظيمِ كلِّ أحدٍ، وأن تكون محبةُ النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمُه في قلبه أعظمَ من محبةِ وتعظيمِ كلِّ مخلوق، وأما أن يساوي بين حقِّ الرسول صلى الله عليه وسلم وحقِّ الله تعالى فيما يختص الله به فهذا خطأٌ عظيمٌ.

إن التمسك بالسنة والحرص عليها - وليس مجرد الادعاء والكلام والعاطفة - هو الدليل الحقيقي على كمال محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكم من إنسان يدَّعي كمالَ محبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخالف سنته صباحًا ومساءً!! ويرتكبُ ما يبغضه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ويبغض فاعلَه!! فتجد مثلًا بعض الناس يعَلِّق على سيارته عبارة جميلة كدليل على محبة النبي صلى الله عليه وسلم: "كلنا فداك يا رسول الله"، ومع ذلك هو آكلٌ للرِّبا، أو عاقٌّ لوالديه، أو مضيعٌ للصلوات، ولأمثال هؤلاء يُقال:

تَعْصِي النبيَّ وأنتَ تزعمُ حبَّه

هذا لعمرُك في القياسِ شنيعُ

لو كانَ حبُّك صادقًا لأطعْتَه

إن المحبَّ لمنْ يُحِبُّ مُطيعٌ

الأدلة القرآنية:

1- من ذلك قول الحق جلت قدرته: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

فالآية نصٌّ صريح في وجوب محبة الله ورسوله، وتقديمها على كل محبوب مهما كان نوعه وأيًا كان جنسه، وفيها التهديد والوعيد الشديدان لمن قدَّم محبة غير الله ورسوله على محبة الله ورسوله، من أهلٍ وعشيرةٍ ومالٍ وغير ذلك، كما بيَّن ذلك المفسرون([3])، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين.

وكفى بهذه الآية حضًا وتنبيهًا ودلالةً وحجةً على لزوم محبته ووجوبها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرَّعَ تعالى من كان ماله وأهله وولده أحبَّ إليه من اللهِ ورسولِه، وأوعدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، ثم فسَّقَهم بتمام الآية، وأعلَمَهم أنهم ممن ضلَّ ولم يهدِه الله([4]).

وتقتضي محبةُ الرسول صلى الله عليه وسلم تجريدَ المتابعة له - بأبي هو وأمي -، وتقديم قوله وسنته على قول كلِّ أحد كائنًا من كان، وطاعة أمره واجتناب نهيه، لأنه المُبَلِّغُ عن الله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].

فمحبتُه صلى الله عليه وسلم ومتابعته ومحبة أوامره وامتثالها وبغضُ ما يبغضه واجتنابه شرطٌ في الإيمان، ودليلٌ على المحبة الصادقة لله، لأن محبته صلى الله عليه وسلم متفرعة من محبة الله وتابعة لها، فمن وفَّقه اللهُ وعمل بمقتضى ذلك كان كامل الإيمان والمحبة، أما من أخلَّ بها بأن ارتكب بعض ما يكرهه اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم، أو ترك بعض ما يحبه اللهُ ورسولُه، مع وجوبه والقدرة عليه؛ فإن ذلك دليلٌ على نقص محبته، فعليه بالتوبة والاستغفار؛ لأن الذنوب والمعاصي تُنْقِصُ من محبة الله ورسوله بقدر ذلك، ولكن لا تزيلها بالكلية إذا كانت ثابتةً في القلب ولم تكن عن نفاق.

دليل ذلك ما رواه البخاري - رحمه الله - في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في حديث الرجل الملقب بحمار، والذي كان يشرب الخمر، وقد أقام صلى الله عليه وسلم عليه الحدَّ أكثر من مرة، فلما كَثُرَ ذلك منه لَعَنَهُ رجلٌ فنهاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال له: ((لا تَلْعَنْهُ فَإنَّه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه))([5])، هذا مع كونه صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الخمرَ وشاربها وحاملها والمحمولة له، ففي الحديث دلالة على حرمة لَعْنِ أحدٍ بعينه إذا كان مذنبًا إذا كان يحبُّ اللهَ ورسولَه([6]).

2- ومن الآيات الدالة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم أيضًا قوله عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].

يقول شمس الدين الإمام ابن القيم - رحمه الله - تعليقًا على هذه الآية: (فالآيةُ دليلٌ على أن من لم يكنْ الرسولُ صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسِه فليسَ منَ المؤمنين، وهذه الأولويةُ تقتضي أمورًا؛ منها: أن يكونَ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلى العبدِ من نفسِه، لأن الأولويةَ أصلُها الحبُّ، ونفسُ العبدِ أحبُّ إليه من غيرِه، ومع هذا يجب أنْ يكونَ الرسولُ أولى به منها، فبذلك يحصلُ له اسمُ الإيمانِ المطلقِ.

ويلزمُ من هذه الأولويةِ والمحبةِ كمالُ الانقيادِ والطاعةِ والرضا والتسليمِ، وسائرِ لوازمِ المحبةِ من الرضا بحُكمِه وإيثارِه على ما سواه، ومنها: ألا يكونَ للعبدِ حكمٌ على نفسِه أصلًا، بل الحكمُ على نفسِه للرسولِ، يحكمُ عليها أعظم من حَكمَ السيد على عبدِه، أو الوالد على وَلَدِه، فليس له في نفسِه تصرفٌ قَطْ، إلا ما تصرَّفَ فيه الرسولُ الذي هو أولى به منها.

ثم قال رحمه الله: ومن العجبِ أن يدَّعي حصولَ هذه الأولولية والمحبة التامَّة من كان سعيُه واجتهادُه ونصيبُه في الاشتغالِ بأقوالِ غيرِه وتقريرِها والغضبِ والمحبةِ لها، والرضى بها والتحاكمِ إليها، وعرض ما قاله الرسولُ عليها فإن وافقَها قَبِلَه وإن خالفَها التمسَ وجوهَ الحِيَلِ، وبالغَ في ردِّه ليًّا وإعراضًا)([7]).

3- ومن الآيات الدالة على وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

وهذه الآية كما يقول العلامة ابن كثير - رحمه الله -: (حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبةَ اللهِ وليسَ هو على الطريقةِ المحمديةِ، فإنه كاذبٌ في نفسِ الأمرِ حتى يتبعَ الشرعَ المحمدي والدينَ النبوي في جميعِ أقوالِه وأفعالِه.

ولهذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}؛ أي يحصل لكم فوقَ ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظمُ من الأولِ، كما قالَ بعضُ العلماءِ الحكماءِ، ليس الشأنُ أن تُحِبَّ إنما الشأنُ أنْ تُحَبَّ، وقال الحسن البصري وغيرُه من السلف: زَعَمَ قَوْمٌ أنهم يحبونَ اللهَ فابتلاهم اللهُ بهذه الآيةِ ...)([8]).

قلتُ: والآيةُ كما هو ظاهرٌ للعيان، فيها دعوة ضمنية إلى وجوب محبته صلى الله عليه وسلم، لأنه سبحانه وتعالى قد جعل اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم برهانًا ودليلًا على محبته، ومن البدهي المعلوم أن هذا الاتباع لا يتأتى إلا بعد الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان به صلى الله عليه وسلم لابد فيه من تحقيق شروطه، والتي من أهمها وأولها محبته صلى الله عليه وسلم، مصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((فوالذي نفسِي بيدِه؛ لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِه))([9]).

فمحبته صلى الله عليه وسلم شرطٌ في الإيمان الذي لا يتحقق الاتباعُ إلا بوجوده، كما أن محبته تعالى من جهة أخرى - كما تقدم - مستلزمة لمحبة ما يحبه تعالى من الواجبات وغيرها، واتباعُ رسولِه صلى الله عليه وسلم هو من أعظم ما أحبه الله تعالى وأوجبه على الخلق، فهو عز وجل أعظمُ شيءٍ بُغضًا لمن لم يتبعْ رسولَه وخليلَه صلى الله عليه وسلم، فمن كان صادقًا في حبه لله تعالى اتبع رسولَه صلى الله عليه وسلم لا محالة، وكان اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، فليعلم هذا ولينتبه إليه لما فيه من تلازم عجيب بين محبة الباري ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

الهوامش:

([1]) رواه البخاري، (3445).

([2]) رواه البخاري، (5816)، ومسلم، (531).

([3]) تفسير ابن كثير، (2/342)، وتفسير القرطبي، (8/95)، وتفسير البغوي، (2/277).

([4]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، (2/563).

([5]) رواه البخاري، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة، (6780).

([6]) جامع الرسائل، ابن تيمية، (2/258-259)، ومجموع الفتاوى، له، (28/208-209).

([7]) الرسالة التبوكية، ابن القيم، ص(29-30).

([8]) تفسير ابن كثير، ص(1/358).

([9]) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول r من الإيمان، (14).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (1).doc doc
وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (1).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى