العشق الإلهي من شطحات الصوفية

العشق الإلهي من شطحات الصوفية





الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛.. في القرآن الكريم والحديث النبوي نصوصٌ صريحةُ الدلالة تعلن محبة الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له؛ كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} [البقرة: 165]، وكذلك قوله جل شأنه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقد بيَّن القرآن الكريم أن مظهر حب الله هو اتباع رسول الله؛ يقول تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
وبدلًا من أن يتبعَ الصوفيةُ المنهج الشرعي في المحبة، إذ بهم يبتدعون ألوانًا من البدعِ، منها ما زعموه من العشقِ الإلهي، حتى صار من أهمِّ مباحث الصوفيَّة، فقد جرى كلامُهم حوله نثرًا ونظمًا كما في تائيَّة عمر بن الفارض([1]) وديوان المُلاّ أحمد الجزري الكرديّ، وأشعار رابعة العدوية([2]).
وقد أفرد محمّد أمين الكرديّ فصلًا في المحبة والشوق والوجد، قال في مقطعٍ منه: (اعْلَم أنَّ المحبِّين على ثلاثة أقسام: عوامٌّ وخواصٌّ، وخواصُّ الخواصِّ، فأما العوامُّ فمحبتهم له تعالى لوفورِ إحسانِه، وأما الخواصُّ فمحبتهم خالصة عن الشوائب، وأمَّا خواصُّ الخواصِّ، فمحبتهم عبارة عن التعشُّق الذي به ينمحي العاشقُ عند تجلِّي نور معشوقِه)([3]).
لقد استحدث الصوفيةُ كلمات؛ مثل: العشق والغرام، مما لا يصح أن يوصف به الرب - تبارك وتعالى - ولا العبد في محبته لربه، وهذه نماذج من مصطلحاتهم وهي كثيرةٌ جدًّا، وكلها رموزٌ وألغازٌ، فتكلموا عن الحال والمقام والعطش والدهش، وجمع الجمع ... إلخ، والحقيقة أن كل هذا أوهام، والإسلام يحث على حفظ العقل، فكيف يسعى مسلمٌ لزوال عقله.
والصوفي عندما يتحدث عن أسرار الربوبية يحاول شيئًا لا يطيقه الإنسان، لذلك سيصل إلى كارثة "وحدة الوجود" التي هي كفر، ويفقد فيها الاتزان النفسي، وهي نزعةٌ خفيةٌ عند الإنسان الذي لا يخضع للوحي، وهي نزعة التكبر والتأله، ويحاول أن يأتِ بها عن طريق "وحدة الوجود".
إن الدخول في هذه المتاهات يُبْعِدُ المسلمَ عن العلم النافع والعبادة والعمل، فيتكلم في أشياء ليس لها وجود، ولا تعني في عالم الواقع شيئًا، والمسلمُ مأمورٌ بإعمارِ الدنيا لتكون جسرًا إلى الآخرة، وهذه المصطلحات تسيطر على الجاهل وتُرْبِكُ العاقلَ إذا لم يكن دينُه قويًّا.
وليس في الإسلام أسرار، فالقرآن واضح، والسنة واضحة، وهذه الألغاز تجعل الدين وكأنه بحاجة إلى "هيئة" لحَلِّ هذه الأسرار، ويتحول الأمر إلى باطنية تُفَسِّرُ كل شيء حسب أهوائها، فكل شيء نسبي وذاتي، (ولذلك يمنعون من قراءةِ كتبِهم لكلِّ أحدٍ)([4]).
إن الاسترسال في هذه المصطلحات سيؤدي حتمًا إلى عقيدة "وحدة الوجود"، وهذا انسلاخ من الدين، فالمسلمون يرجعون إلى الكتاب والسنة، والصوفية يرجعون إلى الذوق والكشف والخيالات وكلام مشايخهم، وهذا أمر مُشْكِلٌ؛ لأن لكل إنسان ذوق؛ فالنصراني يتذوق التثليث، والمشرك يتذوق الشرك ... إلخ.
كما تتميز هذه المرحلة عند الصوفية بما يسمونه "المقامات"؛ كالتوكل والرضا ...، وانحرفوا فيه أيضًا عن الفهم الإسلامي الصحيح، فالتوكل عندهم هو عدم الأخذ بالأسباب، قال الهروي: (التوكلُ في طريقِ الخاصةِ عمى عن التوحيدِ ورجوعٌ إلى الأسبابِ".
ويقول أبو سعيد الخراز: (كنتُ في الباديةِ فنالني جوعٌ شديدٌ فطالبَتْنِي نفسي أن أسأل اللهَ طعامًا، فقلتُ: ليس هذا من فعلِ المتوكلين)([5])، فهذا الشيخ خالف السنةَ في الخروج إلى البادية دون زاد، وفهم التوكل فهمًا خاطئًا، والله سبحانه وتعالى خلق الأسباب وطلب من العباد الأخذ بها، والمسلم لا يعتمد على الأسباب وحدها، ولكن يفعلها ويتوكل على الله ويطلب النتائج من الله.
وقالوا عن مقام "الرضا": أنه الاسترسال مع القدر، فيكون مستسلمًا لما يأتي من عند الله، وهذا الكلام تنقصه الدقة، فالمسلم لا يعترض على قدرِ الله؛ كالمرض والفقر ...، ولكن يدفع قدرَ اللهِ بقدرِ الله، فهو يدفع المرضَ بالدواء، ويدفع الفقر بالعمل والكسب.
أما إذا كان هناك أمرٌ دينيٌّ؛ مثل: الصلاة والصوم، فلا يقول: أنا لا أصلي لأن الله لم يقدرْ لي الصلاة!! فهذا من الحيل الشيطانية، ويشبه كلامَ المشركين، فالأوامر الشرعية يجب أن تُنَفَّذ، والمصائب تُدْفَعُ بقدر الله ويصبر عليها.
والخلاصة؛ أن هذه الألفاظ المستحدَثة عند الصوفية هي كما وصفها ابن القيم: (تسمعُ جعجعةً ولا ترى طحنًا)([6])!!
وبيَّن أبو حامد الغزالي شيئًا من شطحاتهم وانحرافاتهم، فقال: (وأما الشَّطحُ: فنعني به صنفين من الكلامِ أحدثهُ بعضُ الصوفيَّةِ؛ أحدهما: الدَّعاوي الطويلةُ العريضةُ في العشقِ مع اللهِ تعالى، والوصال المُغني عن الأعمالِ الظاهرةِ، حتى ينتهي قومٌ إلى دعوى الاتحادِ وارتفاعِ الحجابِ والمشاهدةِ بالرؤيةِ والمشافهةِ بالخطابِ، فيقولون: قيلَ لنا كذا، وقُلنا كذا، ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلَّاج، الذي صُلِبَ لأجلِ إطلاقِه كلماتٍ من هذا الجنسِ، ويستشهدون بقولِه: "أنا الحق"!! وبما حُكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: "سبحاني سبحاني"!!
وهذا فنٌّ من الكلامِ عظيمٌ ضررُه في العوامِّ، حتى تركَ جماعةٌ من أهلِ الفلاحةِ فلاحتَهم وأظهروا مثلَ هذه الدعاوي، فإن هذا الكلام يستلذُّه الطبعُ؛ إذ فيه البطالةُ من الأعمالِ مع تزكيةِ النفسِ بدركِ المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسِهم، ولا عن تلقُّفِ كلمات مخبّطة مزخرفة.
ومهما أُنْكِرَ عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: "هذا إنكارٌ مصدرُه العلمُ والجدالُ، والعلمُ حجابٌ، والجدلُ عملُ النفسِ، وهذا الحديث لا يلوحُ إلا من الباطن بمكاشفةِ نورِ الحق"، فهذا ومثلُه مما قد استطارَ في البلادِ شررُه، وعظمَ في العوامِّ ضررُه، وحتى من نَطَقَ بشيءٍ منه فَقَتْلُهُ أفضل في دينِ اللهِ من إحياء عشرة)([7]).

الهوامش:

([1]) راجع ترجمته في معجم المؤلفين، عمر رضاء كحالة، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى، (2/568)، بيروت - 1993م.

([2]) راجع ترجمتها في الأعلام، خير الدين الزركلي، الطبعة 11، ص(3/10)، دار العلم للملايين.

([3]) تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب، محمد أمين الكردي الأربيلي، ص(487).

([4]) حقائق التصوف، عبد القادر عيسى، (527).

([5]) التعرف، الكلاباذي، (150).

([6]) مدارج السالكين، ابن القيم، (3/437).

([7]) إحياء علوم الدين، الغزالي، (1/39).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
العشق الإلهي من شطحات الصوفية.doc doc
العشق الإلهي من شطحات الصوفية.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى