أقسام الخوف من حيث المشروعية: الخوف المشروع

أقسام الخوف من حيث المشروعية: الخوف المشروع






الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ثم أما بعد؛ فالخوف شعور فطري أوجده الله تعالى في النفس البشرية، يقوى ويضعف حسب الحالة التي يكون فيها الإنسان، فلا يخلو شخصٌ من هذا الشعور، وها هو القرآن الكريم يصفُ نبيَّ اللهِ وهو في حالة الخوف الشديد فيقول: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]، ولكن هذا الخوف منه ما هو مشروع، ومنه ما هو غير مشروع، وفيما يلي تفصيل في ذلك.
1- الخوف من مقام الله:
من الخوف المشروع الذي يردع صاحبَه عن اقتراف المنكرات والاجتراء على السيئات، ويَرُدُّه بإذن الله إلى جنة الإيمان، الخوفُ من مقام الله، الذي جعله اللهُ تعالى سبيلًا للتقرب اليه وابتغاء مرضاته، ومقام الله تعالى يعني منزلته العالية([1]).
وورد الخوف من مقام الله تعالى في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع؛ قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14].
يقول الماوردي: (وفي مقام ربِّه قولان؛ أحدهما: هو مقام بين يدي العرض والحساب، الثاني: هو قيام الله تعالى بإحصاء ما اكتسب من خير وشر)([2])، فهو مهيمنٌ عليه مراقبٌ له حافظٌ لأحواله([3]).
فالقيام هنا مثله في قوله تعالى: {أَفمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى ُ كلِّ َنفْسٍ ِبمَا َ كسَبَتْ}، (فهو كنايةٌ عن خوف الربِّ، وإثبات خوفه له بطريق برهان بليغ، لأن من حصل له الخوف من مكان أحدٍ يهابه وإن لم يكنْ فيه، فخوفُه منه بالطريق الأولى)([4]).
(وفي إضافةِ المقام إلى الربِّ تفخيمٌ وتهويلٌ واقع من النفوسِ موقعًا عظيمًا)([5])، وقال الرازي: (مقام ربِّه: أي المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربِّه، وهو مقام عبادته، كما يُقال: هذا معبد الله، أي المقام الذي يُعْبَدُ اللهُ فيه)([6]).
وخوف مقام الله يكون بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه، يقول ابن عباس: (خافَ ثم اتقى، والخائفُ من أطاعَ اللهَ وترك معصيته، وقال إبراهيم النخعي: هو الرجلُ الذي إذا أرادَ أن يذنبَ أمسك مخافةَ اللهِ)([7]).
وقد صَحَّ عن أبي ذر قال: ((أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيتُه فإذا هو نائم، ثم أتيتُه وقد استيقظَ فجلستُ إليه، فقال: ما مِنْ عَبْدٍ قال: لا إله إلا الله، ثم ماتَ على ذلك إلا دخلَ الجنةَ، قلتُ: وإن زَنَى وإن سَرَق؟! قال: وإنْ زَنَى وإن سَرَق، قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإنْ زَنَى وإن سَرَق، ثلاثًا، ثم قال في الرابعة: عَلَى رغمِ أَنْفِ أِبِي ذَر، قال: فخرجَ أبو ذر وهو يقول: وإنْ رَغِمَ أنف أَبِي ذَر))([8]).
وقال قتادة: (إن للهِ مقامًا قد خافه المؤمنون، هو الرجلُ يَهمُّ بالمعصيةِ فيذكر مقامَه للحساب فيتركها)([9])، فخوفُ المقام هو الخوفُ من عظمة الله تعالى ومنزلته، واطلاعه على عبدِه ومراقبته له، بجبروته وقهره وسطوته؛ مما يجعل من نفسِه حارسًا على نفسه عند ارتكاب المعصية، فينزجر عنها ويَعُد إلى جادَّةِ الصواب.
2- الخوف من عذاب الله:
من أنواع الخوف الممدوح الذي يترتب عليه ثمارٌ طيبة، تدفع بالمسلم إلى جادة العمل الصالح، والابتعاد عن كل ما يلوح له في الطريق من المنكرات، الخوفُ من عذاب الله تعالى.
والعذابُ هو الإيلام الشديد، الذي يقعُ على النفس أو الجسد، أو الاثنين معًا، وعذاب الله تعالى منه ما كان في الدنيا ومنه ماكان يوم القيامة.
أما ما وقع في الدنيا من عذاب فكان على اختلافٍ وتنوع، وقد ذكره اللهُ تعالى في قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
وقال الله تعالى في وصف ما نزل بقوم لوط: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82-83].
وقال اللهُ تعالى في ثمود قوم صالح: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31]، فأهلكهم الله تعالى فلم يبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا كما يهمد الزرع.
وقال تعالى في قوم عاد: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 19-20]، وذكر ابنُ كثير: (أن الريح كانت تأتي أحدَهم فترفعه ثم تنكسه على أُمِّ رأسه، فيسقط على الأرض فتُكْسَرُ رأسه، فيبقى جثةً بلا رأس؛ ولهذا قال كأنهم أعجاز نخل خاوية)([10]).
وقال تعالى عن فرعون: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 16].
وقال تعالى في قوم مدين: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78].
وقال تعالى في قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]))([11]).
وقد نُهى النبيُّ عن المرور بمنازل أهل العذاب إلا مع البكاء والخشية؛ فقد قال ابن عمر: ((لما مرَّ النبيُّ بالحجر - منازل ثمود قوم صالح -، قال: لَا تَدْخُلوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلمُوا أَنْفسَهُمْ، أَنْ يُصِيبَكمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلاَّ أَنْ تكوُنوا بَاكِين، ثمَّ قنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى أَجَازَ الْوَادِيَ))([12]).
أما الآخرة فعذابها أشد وأنكى وأكبر وأخزى؛ كما قال الله تعالى:  {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127]، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت: 16]، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} [القلم: 33]، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((إنَّ أهون أهلِ النارِ عذابًا يومَ القيامةِ لرجل يوضعُ في أخمصِ قدميه جمرتان يغلي منهما دماغُه كما يغلي المرجلُ بالقمقم))([13]).
3- الخوف من التقصير في الواجبات:
يقول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8]؛ جاء الأمرُ الإلهي من فوق سبع سماوات للعباد بالقيام بالفرائض والابتعاد عن الرذائل، حتى يفوزوا بإذن الله بالأجر العظيم ويدخلوا الجنة.
وهناك من جعلته درجةُ التقوى والورع أن يرجفَ قلبُه عند القيام بالفرائض والطاعات، مخافةَ أن لا تكون قد وقعت على الوجه الأكمل فلا يُقبل منه، ويشير إلى ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] أي يعطون ما أعطوا.
فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه، سواء كان ذلك في حقِّ الله تعالى كالزكاة والكفارة وغيرها، أو في حقوق العباد، كالودائع والديون وأصناف الإنصاف والعدل([14])، وقلوبهم خائفة أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأن أعمالهم لا تُقبل منهم([15])؛ (خوفًا من عدم وقوعها على الوجه اللائق، لأنهم راجعون إليه تعالى ومبعوثون يوم القيامة، وحينئذٍ تنكشفُ الحقائق ويحتاج العبدُ إلى عملٍ مقبول لائق)([16]).
وقد رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} فقلتُ: أَهُم الذين يشربون الخمرَ ويسرقون؟ قال: لَا يا بنت الصديقِ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يُقْبَلَ منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون))([17]).
وصورة هذا الرجل كما ذكره الثعالبي: (أما المُخلِّطُ فينبغي أن يكونَ أبدًا تحت خوفٍ من أن ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وأما التَّقيُّ والتائبُ، فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت، وفي قوله تعالى: {أَنَّهُمْ إلى رَبِّهمْ رَاجِعُونَ} تنبيهٌ على الخاتمة، وقال الحسن: معناه الذين يفعلون من البرِّ ويخافون ألا ينجيهم ذلك من عذابِ ربِّهم)([18]).
(فوجلُ العارفِ من طاعته أكثر من مخالفته؛ لأن المخالفة تمحوها التوبةُ، والطاعة تطلب التصحيح، وقال الحسن البصري: المؤمنُ يجمعُ إحسانًا وشفقةً، والمنافقُ يجمعُ إساءةً وأمنًا)([19]).
(وقيل "مَا آتَوْا" دون الصدقات أو الأموال، ليَعُمَّ كل أصناف العطاء المطلوب شرعًا، وليَعُمَّ القليل والكثير، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب، فهم يعملون الأعمال الصالحة بقلوبهم وجوارحهم، وهم مضمرون وجلًا وخوفًا من ربِّهم أن يرجعوا إليه فلا يجدونه راضيًا عنهم، أو لا يجدون ما يجده غيرُهم ممن يفوتهم في الصالحات، فهم لذلك يسارعون في الخيرات ويُكْثِرُون منها ما استطاعوا)([20]).
وهؤلاء المؤمنون في أعلى درجات التقوى والورع، فهم يعملون ويُقَدِّمُون ويرجون رضا اللهِ، ومع ذلك خائفون وَجِلُون أن يكون قد وقعَ في عملهم بعضُ التقصير، فلا يقبل منهم ويحبطه.
 

الهوامش:
([1]) ابن منظور، لسان العرب، (12/498).
([2]) النكت والعيون تفسير الماوردي، راجعه وعلَّق عليه ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ، (5/437).
([3]) أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بتفسير البيضاوي، دار الجيل، جزء واحد، بلا طبعة، دار الجيل، ص(707).
([4]) محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، علق عليه محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار القكر، ط 2، 1398 هـ - 1978م، (9/298)، وسأشير إليه لاحقًا.
([5]) البحر المحيط، أبو حيان، بيروت، لبنان، دار الفكر، (10/401).
([6]) التفسير الكبير، الرازي، (29/122).
([7]) تفسير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط 1، ص(23-26).
([8]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك باللهِ شيئًا دخل الجنة ومن مات مشركًا دخل النار، (154).
([9]) زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، خَرَّجَ آياته وأحاديثه ووضع حواشيه أحمد شمس الدين، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية، ص(26-27).
([10]) تفسير ابن كثير، بيروت، دار الفكر، بلا طبعة، (7/267)، بتصرف.
([11]) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن الكريم، باب قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}، (4686).
([12]) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب نزول النبيِّ الحجر، (4419).
([13]) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب أهون عذاب أهل النار، (363).
([14]) التفسير الكبير، الرازي، (23/100).
([15]) لباب التأويل في معاني التنزيل، الخازن، (3/307).
([16]) روح المعاني، الألوسي، (18/45).
([17]) رواه الترمذي، كتاب التفسير، باب تفسير سورة المؤمنون، (3225).
([18]) الجواهر الحسان في تفسير القرآن، الثعالبي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، (4/15).
([19]) البحر المحيط، أبو حيا، (5/82).
([20]) التحرير والتنوير، ابن عاشور، (18/63).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
أقسام الخوف من حيث المشروعية: الخوف المشروع doc
أقسام الخوف من حيث المشروعية: الخوف المشروع pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى