قراءة لما نُقل عن الجيلاني في وحدة الوجود

قراءة لما نُقل عن الجيلاني في وحدة الوجود





 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
فهذه قراءة وجيزة لما نقل عن الشيخ الفاضل عبد القادر الجيلاني حول عقيدة وحدة الوجود، مع مناقشة هذه الأقوال ولا يهمنا صحة نسبتها إلى الجيلاني ولكن يهمنا أنها أقوال باطلة وضلالات تناقض كتاب الله العظيم وسنة الرسول الكريم.
يقول عبد القادر الجيلاني (قطب الأولياء الكرام):
الحمد لله الذي كيّف الكيف وتنزه عن الكيفية، وأيّن الأين وتعزز عن الأينية، ووُجد في كل شيء وتقدس عن الظرفية، وحضر عند كل شيء وتعالى عن العندية([1])...
ويقول:
...ثم قال لي: يا غوث الأعظم! ما أكل الِإنسان شيئاً وما شرب وما قام ولا قعد وما نطق وما صمت وما فعل فعلًا وما توجه لشيء وما غاب عن شيء إلا وأنا فيه، ساكنه ومتحركه. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، جسم الِإنسان ونفسه وقلبه وروحه وسمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وكل ذلك طهرت له نفس بنفس لا هو إلا أنا ولا أنا غيره([2]).
ويقول: ...فإذا تحقق عندكم العمل، رأيتم القدرة، فحينئذ يَجْعَلُ التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم، إذا لم يبق بينك وبين الله حجاب من حيث قلبك، قدّرك على التكوين وأطلعك على خزائن سره، وأطعمك طعام فضله، وسقاك شراب الأنس، وأقعدك على مائدة القرب منه، وكل هذا ثمرة العلم بالكتاب والسنة أعمل بهما ولا تخرج عنهما، حتى يأتيك صاحب العلم، الله عز وجل. فيأخذك إليه، إذا شهد لك معلم الحكم بالحذق في كتابه، نقلك إلى كتاب العلم، فإذا تحققت فيه أقيم قلبك ومعناك، والنبي في صحبتهما آخذ بأيديهما، ويدخلهما إلى الملك، ويقول لهما: ها أنتما ربكما([3]). اهـ [أرجو الانتباه إلى حدود العمل بالكتاب والسنة (حتى يأتيك صاحب العلم)].
ويقول: ...إذا قال لك القلب (لا) فهو حرام، وإن قال: (نعم) فهو حلال، وإن سكت فلم يقل: (نعم) ولا (لا) فهو شبهة، إن عدمت المألوفات وصبرت نفسك فهو القناعة، تدري كم عنده من الطاعات، والصوم والصلاة لا يعبأ بها، إنما مراده منك قلب صاف من الأقدار والأغيار([4]).
ويقول: ...بقي أبو يزيد البسطامي سبع مرات، لما سُمع منه من الكلام العجيب، يفتح إلى قلويهم أبواب القرب، لا يجمعهم مع الخلق سوى الصلوات الخمس ولقب الآدمية البشرية؛ وصورتهم صورة الِإنس، وقلوبهم مع القدر، وأسرارهم مع الملك([5]).
- يخبر عبد القادر الجيلاني عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يفتح أبواب القرب (من الله وبه وإليه وفيه) إلى قلوبهم، أي: إلى قلوب المريدين، إذاً: فعبد القادر الجيلاني -في هذا النص- يزكي أبا يزيد، وبالتالي فهو يوافقه على أقواله.
ويقول: قيل للحلاج حين صلب: (أوصني)، قال: نفسك إن لم تشغلها وإلا شغلتك([6]).
- يُظهر الحلاجَ هنا بمظهر المعلم الحكيم، المقصود، حتى عند الصلب، إذاً فالحلاج مزكىً عند الجيلاني، وهذا يعني أن الجيلاتي يتلقى أقوال الحلاج بالقبول، فهو يؤمن بأقواله وعقيدته.
ويقول: ...وإذا كان القطب اطّلع على أعمال أهل الدنيا وأقسامهم وما تؤول أمورهم إليه، ويطّلع على خزائن الأسرار، ولا يخفى عليه شيء في الدنيا من خير أو شر، لأنه مفرد الملك بطانته، نائب أنبيائه ورسله، أمين المملكة، فهذا هو العين القطب في زمانه([7])...
ويقول: ...يا عبدَ الهوى والطبع، يا عبدَ الثناء والحمد، ما جفّ به القلم وسبق به العلم من الأقسام، لا بد من استيفائهما، لكن الشأن هل يأخذها بك، أو به يوجدك، ويقعدك مع التوحيد...أطلب القرب من باب فنائك...ويكون (أي: العارف أو الواصل) نائب الرسول في المتابعة، يُترك ثم يؤخذ، ثم يُؤخذ، يَتْرُك المتروك ويأخذ المأخوذ، يضيء لك الأمر كفلق الصبح، يجدد على العبد ثوبَي الوجود تارة والفناء تارة، يُفْتقد، فيُقبل الحق عليه، وتارةً يوجد- فيخبر عن الحق (روى قلبي عن ربي)([8])...
- قبل الانتقال إلى كتاب آخر من كتب الشيخ، يجدر الانتباه إلى قوله: «يجعل التكوين في أيدي قلوبكم وأسراركم»، و«قدّرك على التكوين»، وقوله في نص سابق: «فإذا جاءت نوبة الحكم كانوا في صحن الحكم»، ثم عرض هذه الأقوال على الآية القرآنية الكريمة: ((...مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) [الكهف:26]، وقوله: (ها أنتما ربكما).
طبعاً! الأمر واضح، إن الذي يعتقد أن مخلوقاً ما، سواء كان إنساناً أو ملكاً، يمكن له (التكوين)، وأن يتصرف في الكون، إنما هو كافر؛ لأنه يناقض نص الآية الصريح.
- لكن! همسة أهمسها في أذن القارىء: إنهم يؤولون- كما يقول الِإمام الغزالي- النصوص المخالفة للكشف لتتفق مع كشفهم!! وعليه فهم يؤولون هذه الآية، ليصبح معناها: (إن كل من يحكم فهو الله)، لأن الله لا يشرك في حكمه أحداً، وبما أن هناك من يحكم ولو في أمر واحد، إذن فهو الله؛ لأن الحاكم هو الله وحده، ولأنه لا يشرك في حكمه أحداً؛ وطبعاً! هذه هي وحدة الوجود.. نعود إلى الشيخ.
يقول الجيلاني:
...ثم إذا لم يجد عند الخالق نصرَةً، استطرح بين يديه مديماً للسؤال أو الدعاء والتضرع والثناء والافتقار مع الخوف والرجاء، ثم يعجزه الخالق عز وجل عن الدعاء، ولم يجبه حتى ينقطع عن جميع الأسباب، فحينئذ يَنْفذ فيه القدر، ويفعل فيه الفعل، فيفنى العبد عن جميع الأسباب والحركات، فيبقى روحاً فقط، فلا يرى إلا فعل الحق، فيصير موقناً موحداً ضرورة، يقطع أن لا فاعل في الحقيقة إلا الله، لا محرك ولا مسكن إلا الله، ولا خير ولا شر ولا ضر ولا نفع ولا عطاء ولا منع ولا فتح ولا غلق ولا موت ولا حياة ولا عز ولا ذل إلا بيد الله...ويكون ولا حراك به في نفسه ولا في غيره، فهو غائب عن نفسه في فعل مولاه، فلا يرى غير مولاه وفعله، ولا يسمع ولا يعقل من غيره، إن بَصر وسمع([9])...اهـ.
هنا عبارة جديدة وهي: (فيبقى روحاً فقط)، وكذلك المفردات المتلاحقة: (لا خير ولا شر ولا ضر...)، والتي يفهم الصوفي والمتمرس بعباراتهم إلى ماذا ترمز وتشير، وكذلك قوله: (فلا يرى غير مولاه وفعله).
ويقول: ...والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي -رحمه الله- لما رأى رب العزة في المنام، فقال: كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال، فقال: فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها([10])...
- في هذا النص تزكية واضحة لأبي يزيد البسطامي ولمكاشفته، وهذا يعني أنه يؤمن بعقيدة أبي يزيد، وبالتالي يمكننا أن نكون موقنين أنه يتبنى أقواله، كما يتبنى قوله في هذا النص، الذي هو: (فانسلخت من نفسي...)، والذي نعرف بعد قراءتنا لهذا الركام من أقوالهم وإشاراتهم، أنه يعني به الانسلاخ من فكرة تفريق الخلق عن الحق ومن الشعور بها.
ويقول: ...فحينئذ يصير مَحْقاً من أهل الحقيقة...وإن كنت في حالة (حق الحق)، وهي حالة (المحو والفناء)، وهي حالة الأبدال المنكسري القلوب لأجله، الموحدين العارفين، أرباب العلوم والعقل، السادة الأمراء خفراء الخلق خلفاء الرحمن وأخلائهِ وأعيانه وأحبائه عليهم السلام([11])..
- ما يجب الانتباه إليه: قوله: (حق الحق، المحو، الفناء، الموحدين، العارفين، خفراء الخلق وما بعدها..)، ومن لم يعرف معناها ومرماها فعليه البدء بقراءة الكتاب من أوله بوعي وحفظ، ويقول: ...فحينئذ يسمع نداء من قبل الحق عز وجل من باطنه: اترك نفسك وتعال، اترك الحظوظ والخلق إن أردت الخالق، واخلع نعليك (دنياك وآخرتك)، وتجرد عن الأكوان والموجودات وما سيوجد والأماني بأسرها، وتعرّ عن الجميع وافْن عن الكل، وتطيب بالتوحيد، واترك الشرك، وصدّق الإرادة([12]).
ويقول: إلى متى المعاد؟ إلى متى الحق؟ إلى متى الهوى؟ إلى متى الرعونة؟ إلى متى الدنيا؟ إلى متى الآخرة؟!!! إلى متى سوى المولى؟ أين أنت من خالقك والأشياء؟
المكوّن الأول الآخر الظاهر الباطن، والمرجع والمصدر إليه([13]).
* ملحوظـات:
قوله: اخلع نعليك: (دنياك وآخرتك)، وقوله: إلى متى الآخرة؟! إذا خلعنا الآخرة! فماذا بقي لنا؟ وماذا نفعل بعشرات الآيات التي تأمرنا بالإيمان بالله واليوم الآخر؟!
وما معنى قوله سبحانه: ((لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)) [الممتحنة:6]؟!
وما معنى قوله: ((وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى)) [النساء:77]؟!
وما معنى قوله: ((وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأنعام:32].
وما معنى قوله سبحانه: ((...وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ)) [الأنفال:67]؟!
وما معنى قوله سبحانه: ((وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يوسف:57].
وما معنى قوله سبحانه: ((وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأعراف:169]، وقوله: ((وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [يوسف:109]، وقوله: ((وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)) [النحل:30]، وقوله: ((وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) [الإسراء:19]، وقوله: ((وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) [العنكبوت:64]، وقوله: ((وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ)) [الأحزاب:29]، وقوله: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)) [الشورى:20]...وغيرها وغيرها من الآيات.
فهل حكمة الشيخ (الكشفية) تنسخ آيات الله؟!
وماذا في الأمر؟! فهؤلاء القوم هم المحبون المحبوبون العارفون المقربون الصديقون الواصلون الموحدون الذائقون المدللون الأولياء الصالحون الخلص أصحاب الأسرار الذين أشرفوا على عتبة أحوال الأنبياء، المتحققون بالأسماء والصفات والذات المتصرفون في الكون، الأقطاب الغيوث الطيبون الراضون المرضيون المقدسون القديسون المتقون الذاكرون المحفوظون السائرون السالكون العارجون الأوتاد الأبدال الأخيار الصفوة المخلصون المختارون المصطفون المختصون بالعلوم اللدنية الداخلون في بحار الأنوار الذائقون من معاني اسمه الصمد والقيوم والعزيز والجبار والمتكبر أي المتصفون بها والمتحققون بها والعارجون بها منها فيها إليها عليها حتى يصبحوا في الغاية: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42]..
والأوصاف كثيرة تعجز عنها العبارات والإشارات والكلمات والحروف والجمل والسطور والمقاطع والصفحات والملازم والفصول والأبواب والكتب والمجلدات والمكتبات..
- فلا جرم! من كانت هذه نعوتهم وصفاتهم، فهم يستطيعون- ولهم الحق- التصرف والحكم بنسخ القرآن كله، وحديث -رسول الله صلى الله عليه وسلم- كله، ووجود الأنبياء كلهم، وأحكام الشرائع كلها، ورسالات النبيين كلهم، بجرة قلم، أو بقوله: [كن فيكون]!!
ولهم المنة والفضل والشكر والإحسان والحمد والثناء والنعمة والكرم والجود والحكم والتصرف والحكمة والعلم والكشف وما بعد الكشف، ما قبل الكشف وما فوق الكشف وما تحت الكشف، وكشف الكشف، وكشف كشف الكشف، والعلم اللداني، وما فوقه وتحته وأمامه وخلفه وحوله وقبله وبعده...إلخ.
- (هذا من عدوى العلوم اللدنية).
ويقول الشيخ: ...فبظاهره ينظر إلى ما في السوق، وبقلبه ينظر إلى ربه عز وجل، إلى جلاله تارةً وإلى جماله تارة أخرى([14]).
- عرفنا فيما سبق أن عبد القادر الجيلاني له أسلوب هو في القمة من حيث التعمية والإلغاز، وهذا نص يحمل نفس معنى الجملة: «إياك أن تقول: أناه، واحذر أن تكون سواه». وأترك للقارئ تحليلها مع العلم أن أسلوب عبد القادر الجيلاني في الرمز واللغز لا يفوقه إلا أسلوب تلميذه عمر السهروردي.
ويقول: ...ما ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13]، فقال: في كل شيء اسم من أسمائه، واسم كل شيء من اسمه، فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله، باطن بقدرته وظاهر بحكمته، ظهر بصفاته وبطن بذاته، حجَب الذات بالصفات وحَجَب الصفات بالأفعال، وكشف العلم بالإرادة وأظهر الإرادة بالحركات، وأخفى الصنع والصنيعة، وأظهر الصنعة بالإرادة، فهو باطن في غيبه وظاهر في حكمته وقدرته، ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )) [الشورى:11].
ولقد أظهر في هذا الكلام من أسرار المعرفة ما لا يظهر إلا من مشكاة فيها مصباح أمره برفع يد العصمة: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل}([15]). اهـ.
1- نسبة هذا التفسير لابن عباس غير صحيح.
2- يريد الشيخ أن يجعل ابن عباس يفسر قوله سبحانه: ((مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)) [الجاثية:13] أن السماوات والأرض جميعاً هي من الله، بمعنى هي جزء منه!
لذلك جعله (ناقلاً) يقول: (في كل شيء اسم من أسمائه، واسم كل شيء من أسمائه)، ومعنى هذا واضح، فاسم (الشمس) مثلاً هو من أسماء الله! والقمر هو من أسمائه سبحانه، وكذلك كل ما في السماوات والأرض، مثل: المريخ، المشتري، الثريا، الهواء، التراب...ومنها الدنسيات (جل الله وعلا علوًا كبيراً).
وهنا نرى بوضوح أن هذه العبارات (في كل شيء اسم من أسمائه واسم كل شيء من أسمائه...) تحمل نفس معنى قول قائلهم: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا)، وقول الآخر: (ولا يهولنك صدور الكائنات الدنسية من سنخ القدسية) وما ماثلها مما ورد في هذا الكتاب ومما لم يرد.
ثم جعله يقول: (فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله) وهذا واضح أيضاً. إنه يعني: إنك يا مخاطب بما أنك موجود بين الأشياء التي في الأرض، من هواء وماء وتراب وأحجار وغيرها وفي السماوات وبما أنها كلها أسماء الله وصفاته وأفعاله، إذاً: فأنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله!! (ولا ننسى أن عبارة (أفعال الله) يعنون بها حركاته جل وعلا).
وقوله: (ظاهر بصفاته...)، يعني أن كل ما يظهر لنا ونراه ونلمسه هو صفات الله! فهو ظاهر بها، فالحجر -مثلاً- يحمل صفة الحجرية التي نراها وهذه الصفة الحجرية تحجب عنا حقيقة كونه من الذات؟!
ويقول: يا هذا، الفناء إعدام الخلائق، وانقلاب طبعك عن طبع الملائكة، ثم الفناء عن طبع الملائكة، ثم لحوقك بالمنهاج الأول، وحينئذ يسقيك ربك ما يسقيك، ويزرع فيك ما يزرع([16])؟!
- يفسر كلمة (الفناء)، إنها إعدام الخلائق...ثم لحوقك بالمنهاج الأول، فما هو المنهاج الأول؟ إنه القول الذي يكررونه (كان الله ولا شيء معه) هذا هو المنهاج الأول!
وقال: ثم قال لي: يا غوث الأعظم، نم عندي لا كنوم العوام ترني! فقلت: يا رب! كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات.. في فناء ذاتك بالذات. ثم قال لي: يا غوث الأعظم، قل لأصحابك وأحبابك، من أراد منكم جنابي فعليه باختيار الفقر، ثم فقر الفقر، فإذا تم الفقر فلا ثمَّ إلا أنا([17]).
- ما يُنتبه له هو: (في فناء ذاتك بالذات)، و(فلا ثم إلا أنا) وهما واضحتان.
ولكن معنا الآن عبارة جديدة، هي (فقر الفقر) التي يعني بها (إعدام فكرة الخلق) وكذلك عبارة (فإذا تم الفقر) أي: فإذا تمت الغيبة عن مشاهدة الخلق على أنهم خلق.
ومما ينسب له، من قصيدة (والعارفون كلهم ينسبونها له):
وسِرّي سرُّ الله سارٍ بخلقه           فلذ بجنابي إن أردتَ مودتي
وأمري أمرُ الله إن قلتُ كن يكن            وكل بأمر الله فاحكم بقدرتي
وشاهدتُ ما فوق السماوات كلها                   كذا العرشُ والكرسيُّ في طي قبضتي
وجودي سَرى في سرّ سِر الحقيقة                     ومرتبتي فاقت على كل رتبة
ومطلع شمس الأفق ثُم مغيبها                 وأقطار أرض الله في حال خطوتي
أقلّبها في راحتي ككورة             أطوف بها جمعاً على طول أحتي([18])
ويقول أحمد الرفاعي (الغوث):
...وراقبه في الخلوات والجلوات، واحمده واشكره على الفقر والغنى، واترك الأغيار، فما في الدار غيره ديار، وكن صوفيًّا صافياً([19]).
ويقول: الذكر حِفظُ القلب من الوسواس، وترك الميل إلى الناس، والتخلي عن كل قياس، وإدراك الوحدة بالكثرة، وحسنُ ملحوظة المعنى([20]).
ويقول: ...إن لله تعالى بعدد كل شيء خلقه أسماء([21]).
ويقول:
طلبتُ في الكون باقي كي أهيم به             غير الحبيب، فسرّ الحب وافاني
وقال لي: خل عنك الغير منخلعاً               عن السوى، فسوى من تَدْره فاني
فصرتُ منه لديه فيه عنه به           والغير راح بلا تَرْكي ونسياني([22])
ويقول: ...إذا أراد الله تعالى لعبد أن يؤهله لهذه المنزلة (الغوثية) وهذه الأحوال، أول ما يكلِّفه نفسه، فإذا داراها وأدبها وساسها واستقامت معه، كلَّفه أهله، فإذا داراهم وأحسن عشرتهم، كلَّفه جيرانه ومحلته، فإذا داراهم وأحسن إليهم وأقام بحقوقهم كلفه أمر بلده، فإذا أحسن إليهم وداراهم كلَّفه جهةً من الأرض، فإذا أقام بحقوقهم وأحسن إليهم كلفه جميع الأرض، وإذا سبقت له العناية الأزلية وأحسن إليهم وداراهم وأحسن سريرته مع الله تعالى فيهم، كلفه أمور الدنيا كلها، فإذا أقام بها كلَّفه ما بين السماء والأرض، فإن بينهما خلقاً كثيراً لا يعلمهم إلا الله تعالى، فإن هو داراهم وأحسن إليهم كلفه ما عدا بني آدم من المخلوقات، فإن هو داراهم وأحسن إليهم كلفه سماء بعد سماء إلى جميع السماوات، حتى ينتهي إلى مقام الغوثية، ثم يرفع منزلته حتى تصير صفته من صفات الحق سبحانه...فإذا صح لهذه الأمور، صار عينَ سرّ الله في أرضه، فيه ينزل الغيث، وبه يرفع البلاء، وبه تنزل البركات، حتى لا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة، ولا يَطَّلِعُ الله على خلقه إلا بنظره، ولا تقطر قطرة إلا بإذنه([23]).
 
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
اقتبس هذا المقال من كتاب: (الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ) للمؤلف: (محمود عبد الرؤوف القاسم).


الهوامش

([1]) الفيوضات الربانية، (ص:41).
([2]) الفيوضات الربانية، (ص:5). ونكرر القول أنه لا يهمنا إن كان كل ما في كتاب (الفيوضات الربانية) صحيح النسبة للجيلاني أم لا؛ لأن الذي يهمنا هو أن هذا الكتاب هو عقيدة عشرات الملايين من الذين ساروا على نهج الطريقة القادرية طيلة قرون طويلة.
([3]) الفتح الرباني، (ص:217).
([4]) الفتح الرباني، (ص:357).
([5]) الفتح الرباني، (ص:360).
([6]) الفتح الرباني، (ص:367).
([7]) الفتح الرباني، (ص:354).
([8]) الفتح الربايى، (ص:355).
([9]) فتوح الغيب، (ص:8، 9).
([10]) فتوح الغيب، (ص:25).
([11]) فتوح الغيب، (ص:28).
([12]) فتوح الغيب، (ص:127).
([13]) فتوح الغيب، (ص:144).
([14]) فتوح الغيب، (162).
([15]) فتوح الغيب، (165).
([16]) فتوح الغيب، (ص:170).
([17]) الفيوضات الربانية، (ص:8).
([18]) الفيوضات الربانية، (ص:48، 49، 50).
([19]) قلادة الجواهر، (ص:151).
([20]) قلادة الجواهرة، (ص:148).
([21]) قلادة الجواهر، (ص:191).
([22]) قلادة الجواهر: (ص:232).
([23]) قلادة الجواهر، (ص:195).

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى