الفوائد الجنية من الهجرة النبوية (9)

الفوائد الجنية من الهجرة النبوية (9)



الفوائد الجنية من الهجرة النبوية (9)

سلمان بن يحي المالكي

عاشرا : الهجرةُ ومبدأ الشورى .

كلَّنا نعرفُ أن قريشاً اجتمعتْ في دارِ الندوة ، وتشاوروا كيف يفعلونَ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم ؟ نعم .. تآمروا واختلفوا في الرأي ، لكنهم اتفقوا على أن يجتمعَ عددٌ من أمزاعِ القبائلِ وأفرادها ليقتلوا الرسولَ صلى الله عليه وسلمَ فيَضِيعُ دمُه بين القبائلِ .

ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة ، وما أقربَ عِلاقةَ الماضي بالحاضرِ والحاضرِ بالماضي ؛ أعداءُ الله جادونَ لحربِ دينِ الله ، جادون لحربِ الدعاة ، كما كان أولئكَ جادينَ في دارِ الندوة ، فقط .. اختلفتِ الأدوارُ واتفقتِ الأهدافُ ، اختلفتِ الوسائلُ واتفقتِ الغايات .

كما أجد أن كفارَ قريشٍ في دارِ الندوةِ يشعُّون حماساً لإنهاءِ هذه الدعوةِ المحمديةِ ، أجد واللهِ أعداءَ الله يتطايرُ النومُ من أعينِهم حماساً لحربِ الدعاةِ وحربِ الإسلام ، أجدُ أن الدعاةَ يفتقرونَ إلى شيءٍ مما نجده عندَ أعداءِ اللهِ وهو الحماسُ لدعوتهِم ومبادئِهم ، والتخطيطِ البعيدِ المستمر ، كفارُ قريشٍ جلسوا يتشاورون ويعقدون ويتآمرون ، والسؤال المهم الذي ينبغي أن نستفيده : هلِِ المسلمونَ يتشاورونَ فيما يتعلقُ بأمورِ دينهم وعقيدتهم ؟ هل يلتقونَ ليتدارسوا أوضاعَ المؤامراتِ على هذه العقيدة ، وعلى هذا الدينِ ؟ كفارُ قريش في دارِ الندوة ، وكفارُ العصرِ الحاضرِ في دورٍ كثيرةٍ ، يتشاورونَ ويخططونَ ، والمسلمونَ نائمون ، كفار قريش في دار الندوة سلكوا السبيل الذي يحقق لهم أهدافهم ، وبنفس القوةِ وبنفسِ المنطقِ أعداءُ الإسلام في العصر الحاضر يسلكونَ السبيلَ ذاتَه ، ولهذا فإن الرسولَ صلى الله عليه وسلم علاجا للمشكلة التي مرَّ بها والمؤامرة التي حلت به واجه التخطيطَ بالتخطيط ، والقوةَ بالقوة ، والحكمة بالحكمة ، والأسلوبَ بالأسلوب .

 

الحادي عشر : الهجرةُ والتخطيط .

إن التخطيطَ للهجرةِ من أعظم الدروس التي نستفيدُها في دعوتنا ، مأساة كثيرٍ من المسلمين بل مأساةُ الدعاة أن التخطيطَ لديهم فيه ضعفٌ كبير ، إن لم أقل : إنه لا يوجد لدى الكثيرِ منهم أبدا مفهومُ التخطيط ، لديهمُ الإعدادُ الضعيف ، بينما نجده في الهجرةِ يتمثَّل في أشياءَ كثيرة ، يتمثل في الاستعدادِ المبكرِ من الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، يتمثلُ التخطيطُ في تهيئةِ أبي بكرٍ رضي الله عنه لذلك ، حيثُ جلس كما في الصحيحِ أربعةَ أشهرٍ ينتظرُ الهجرةَ معَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ويهيئُ الراحلةَ ، نجدُ التخطيطَ في إقامةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عليا مكانه ، وعندما بدأت مراحلُ الهجرة ؛ جاءَ التخطيطُ الدقيقُ في خُطُوَات ، وانتبهوا إلى هذه الخطوات وهذا التخطيط :

أولا: الانتقالُ إلى غارِ ثورٍ ، ولماذا اختارَ النبيُ صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ هذا الغار ؟ نعم . اختارا هذا الغارَ ليخالفوا ما أرادت إليه قريش ، فاتجهوا جنوبا .

ثانيا : توزيعُ الأدوار ، فعبدُ اللهِ بنُ أبي بكرٍ يأتي بالأخبار ، وعامرُ بنُ فهيرةَ يأتي بالغنمِ ليحلبوا ويشربوا ، ويغطي آثارَ عبدِ اللهِ بنِ أبي بكر ، وأسماءُ تأتي بالطعام ، وعبدُ اللهِ بنُ أُرَيقِط يَسْتَعِدُ للانطلاقِ بهم بعدَ ثلاثِ ليال ، أرأيتم كيفَ أنه ترتيبٌ محكمٌ دقيقٌ مخططٌ له ، فهل نحن عندما نريد أن نُقْدمَ على أي أمرٍ من أمورِ الدعوة ؛ نستعدُّ لذلك ؟ نخططُّ له ، نُجيدُ تحديدَ المراحل ، المؤسفُ أن الواحدَ منا إذا أراد أن يَعْمُرَ بيتا ؛ جَلسَ يُخططُ عدةَ أشهرٍ ، نعم .. إذا أقبل على أمرٍ من أمورِ الدنيا ؛ خطَّطَ ورتبَ واستعدَ ، ولكن في أمورِ الدعوة في أمورِ الإسلام فإنه يَخْبِطُ خبطَ عشواء ، ومن هنا جاءتِ النتائجُ السلبيةُ والنتائجُ السيئةُ لكثيرٍ من الدعواتِ وكثيرٍ من الحركاتِ ؛ لأنهم يتحركونَ بدونِ تخطيطِ ، يتحركونَ بدونِ دراسةٍ للواقع ، وبدونِ حسابٍ للمستقبل ؛ حسبَ الأسبابِ التي شرعها الله سبحانه وتعالى ، وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يا أحبابي ، وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُخططُ تخطيطاً بشريًا دقيقا ، يخططُ ليستفيدَ الدعاةُ من هذه التجربةِ ، إنها دروس ، فهل نستفيد منها ؟

تذكرتُ وفكرتُ في كثيرٍ من النكباتِ التي حلَّتْ بكثيرٍ من الجماعاتِ الإسلاميةِ في كثيرٍ من الدول ، ووجدتُ أن مِن أهمِّ أسبابِها ضعفُ التخطيطِ لمقابلةِ أعداءِ الله ، فالمسلمُ كَيِّسٌ فطن ، فلا يُقْدِمْ على أمرٍ إلا بعد أن يكونَ قد قلَّبَ جميعَ الأمور ، وأخذَ بجميعِ الوسائلِ والأسباب ، وهذا الدرسُ واضحٌ وجليٌ وعظيمٌ في سيرةِ الرسول صلى الله عليه وسلم ، تخطيطٌ محكمٌ دقيقٌ ، لا تجدُ فيه ثغرةً من الثغراتِ ، فسبحانَ الله ! ما أحوجنا إلى أن نقفَ أمامَ هذا الأمرِ العظيم ؛ لتستفيدَ منه الأجيالُ بعد الأجيالِ ، فإلى متى والمسلمونَ يتخبَّطونَ في أمورهم ؟ إلى متي ونحن أبناءُ الصُدفةِ ، وأبناءُ العواطفِ ؟ فقطْ عواطفُ تهيجُ ثم تخبوا ، فأين الجِدُّ ؟ أين العزيمة ؟ أين الوُضوح ؟ فالأمرُ من الجدِّية بمكان ، ثم نقول بعد ذلك ونتفاخر " النصر من عند الله " ؟! نعم ، بلا شكٍ : النصرُ من عند الله ، ولكن لا بُدَّ من الأخذِ بالأسباب ، لا بُدَّ من الأخذِ بالوسائلِ المشروعة ، فأين هذا من واقعنا ؟ أليس لنا في سيرةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلمَ عبرة ؟ أليس لنا فيه عِظة ؟ بدأ وحيدا صلى الله عليه وسلمَ وبالرقمِ القياسيِ بدأتْ الدعوةُ في ازيادٍ شيئا فشيئا ، حتى قامتْ دولةُ الإسلام .. أيها الأحباب :

أكرر فأقول : لا مكانَ للفوضى في هذا العصر ، بل لا مكانَ للفوضى في حياةِ المسلم أبدا ، فكلُ واحدٍ منا يحاسبُ نفسه ولو من زاويةٍ ضيقةٍ ، ألسنا نعيشُ فوضى داخلَ حياتِنا الخاصةِ اليومية ، هل كلُ واحدٍ منا ينظِّمُ وقتَه تنظيماً دقيقا ؟ هل كلُ واحدٍ منا يعيشُ هَمَّ هذه الدعوة ، ويفكِّرُ لها ليلَ نهار ؟ ثم ماذا عمِلَ إن كانَ فكَّرَ ورتَّبَ لذلك ؟ والله لا عُذر لنا أمامَ الله سبحانه وتعالى فيما نرى من المصائبِ والمشكلات .

 

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
نسخة المقال pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى