التوبة من الكتاب والسنة (3)

التوبة من الكتاب والسنة (3)






المسألة الثالثة: الإخبار بأن الله يقبل التوبة عن العباد وأنه هو التواب الرحيم:

وفي سياق المعالجة لداء اليأس والقنوط، تأتي نصوصُ الكتاب والسنة بتأكيد أمر التوبة والترغيب فيها بأسلوبٍ آخر، ألا وهو الإخبار والبيان أن اللهَ يقبل التوبة عن عباده، وأنه هو التواب الرحيم.

ذكر شيخُ الإسلام - رحمه الله - فائدةً ثانية من قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، فقال: (ومنها: أن أهل الفواحش الذين لم يغضوا أبصارَهم ولم يحفظوا فروجهم مأمورون بالتوبة، وإنما أُمِرُوا بها لتُقبَل منهم، فالتوبة مقبولة منهم ومن سائر المذنبين.

كما قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]، وسواء كانت الفواحش مُغَلَّظَة لشدتها وكثرتها، بخلاف ما عليه طائفة من الناس، فإنهم إذا رأوا من عَمِلَ من هذه الفواحش شيئًا آيسوه من رحمة الله.

فإن القنوط من رحمة الله بمنزلة الأمن من مكر الله تعالى، وحالهم مقابل لحال مُسْتَحِلِّي الفواحش، فإن هذا أَمَّنَ أهلَها من مكر الله، وذاك قَنَّطَ أهلَها من رحمة الله، والفقيهُ كل الفقيه هو الذي لا يؤيس الناسَ من رحمة الله ولا يُجَرِّئُهم على معاصي الله)([1]).

و(حكى شيخ الإسلام - رحمه الله - حال بعض الصحابة، منهم قدامة بن مظعون، الذين تأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]، فظنُّوا أن الخمر حُرِّمَت على العامة دون الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فشربوها متأولين، فلما ذُكِرَ لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جُلِدُوا، وإن أصروا على استحلالِها قُتِلُوا، فأقروا بالتحريم.

ثم حَصَّلَ لهم لذلك نوعاً من اليأس والقنوط لَمَا فعلوا، فكتب عمرُ إلى قدامة، يقوله له: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 1-3]، (ما أدري أي ذنبيك أعظم: استحلالك للمُحرم أولًا؟! أم يأسك من رحمةِ اللهِ ثانية؟!)([2]))([3]).

فالمهم، أن شيخ الإسلام بَيَّنَ أن التوبة مقبولة من سائر المذنبين؛ ولذلك استدلَّ بالآيتين اللتين توضحان أن الله يقبلُ التوبة، ففي الآية الأولى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، يوجه I الخطاب إلى عباده بطريق الاستفهام التقريري، فيقول: ألم يعلموا أن اللهَ هو يقبلُ التوبةَ عن عباده، أي يقبلُ التوبةَ من جميع عباده إذا أخلصوا في التوبة.

والآية الثانية: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]، إخبار بأن اللهَ يقبلُ التوبة ويعفو عن السيئات، لكنها أضافت وصفًا ثالثًا وهو العلم بأفعال العباد، وذلك إرشادٌ إلى أن يخلصوا في أعمالهم ويحسنوا تعاطيها.

لأن (التوبة لما كانت من الأعمال العظيمة، التي تكون كاملة بسبب تمام الإخلاص والصدق فيها، وقد تكون ناقصةً عند نقصهما، وقد تكون فاسدةً إذا كان القصد منها بلوغ غرض من الأغراض الدنيوية، وكان محل ذلك القلب الذي لا يعلمه إلا الله، ختم هذه الآية بقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ})([4]).

أما قول عمر بن الخطاب الذي حكاه شيخُ الإسلام - رحمه الله -، أنه عاتب قدامة بن مظعون t، فإنه عاتبه مُذَكِّرًا إياه بقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، للدلالة على أن الله الذي يعذب وأن عذابه شديد، فهو كذلك يغفر الذنوب ويقبل التوبة ويُنْعِمُ ويتفضل لأنه ذو الطول، فلا تيأس ولا تقنط، فإنك لو فعلت ذلك فما أدري أي الذنبين أعظم.

 

الهوامش:

([1]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (15/404-405).

([2]) قد أورد القصةَ النسائيُّ في السنن الكبرى، (3/253)، وعبد الرزاق في مصنفه، (9/240)، والبيهقي في السنن الكبرى، (8/315).

([3]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (11/404-405)، والاستقامة، له، (2/190).

([4]) تفسير السعدي، ص(759).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
المسألة الثالثة: الإخبار بأن الله يقبل التوبة عن العباد وأنه هو التواب الرحيم.doc doc
المسألة الثالثة: الإخبار بأن الله يقبل التوبة عن العباد وأنه هو التواب الرحيم.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى