موقف الصُّوفية من الجهاد

موقف الصُّوفية من الجهاد






إنَّ المتأمل في تاريخ الصوفية يجد أن موقفهم من الجهاد ومقاومة الاستعمار في القديم والحديث موقف متباين، يسوده التذبذُب والاضطراب؛ فبينما نرى طائفةً منهم أعلنت الجهاد وقاومت الاستعمار، وأقضَّت مضاجع المستعمرين، نرى على النَّقيض الآخر طائفةً أخرى نكَصَت عن الجهاد، ونكَلَت عن الحرب، وانزوت على نفسها فَرَقًا وهَرَبًا.
وثالثة وهي شرُّ طوائف الصُّوفيَّة جميعًا، وهي الطَّائفة التي وقفت معه جنبًا إلى جنب، تؤازره، وتناصره، وتقاتل في صفوفه، وتحت رايته، وتدعو الناس إلى الرُّضوخ له، وتحذِّر من مغبَّة مقاومته([1]).
يقول الباحث جمال خليفة في كتابه «موقف فقهاء الشَّام وقضاتها من الغزو الصَّليبي» وهو يؤرخ للغزو الصَّليبي لديار الإسلام في القرن الخامس الهجري: (ضمَّت مدن بلاد الشَّام مجموعةً من فقهاء الصُّوفية في النِّصف الثاني من القرن الخامس الهجري، والّذين غالبًا ما تلقبهم المصادر بالصُّوفي، والدِّراسات الحديثة اهتمَّت بالأدب الصُّوفي والفلسفة الصُّوفية، ولكن موقفهم من الغزو الصَّليبي مازال بحاجةٍ إلى بحثٍ وتحليلٍ، ويبدو أنَّ بعض فقهائِهم قد بلغوا مرتَبَةً اجتماعيةً وعلميةً مرموقة، فكان الحسن بن الحسين الصُّوفي الكلابي يلقب برئيس دمشق([2]) أي: رئيس الفقهاء الصُّوفيَّة بدمشق، والصُّوفي سَهْل بن بِشْـر أبو الفرج الإسفرائيني الدِّمشقي، والصُّوفي أبو القاسم علي بن محمَّد بن يحيى السّلمي ناهيك عن الإمام الغزالي الذي زار دمشق وبقيَ فيها ثلاثة أعوام يعظ بآرائه خلال الفترة (489-492هـ) وكتب فيها أعظم مؤلَّفاته (إحياء علوم الدين) لكنَّه لم يذكر شيئًا عن موقفه خاصة، والصُّوفية عامةً من الغزو الصَّليبي رغم معاصرته لوصول الحملة الصَّليبية الأولى، ولا يشير كذلك في مؤلَّفاته إلى موقف الصُّوفية من الجهاد والحروب بشكل عام، ولعلَّ ذلك الموقف يستند إلى مبدأ الاعتزال المعروف الذي تقوم عليه آراؤه وأفكاره).
ويضيف قائلًا: (وعلى الرغم من أنَّ مصادرنا لا تشير إلى موقفهم من الغزو الصَّليبي لبلاد الشام لكنها لابد وأنَّها أثَّرت سلبًا على الرُّوح المعنويَّة للسُّكان ولو بصورةٍ غير مباشرة، وذلك بتأكيدها على الاعتزال في وقت كان المسلمون بحاجة إلى تعميق فكرة الجهاد ولذلك تعرضوا لنقدٍ لاذعٍ من بعض المشايخ في الفترات المتأخرة كابن تيميَّة الذي كتب: ولو أنَّهم اتَّخذوا من الرَّسول أُسوةً لبذلوا ما في وسعهم في تحريض المسلمين على الجهاد والكفاح، ولحملوا سيوفَهم وخرجوا إلى ساحات الوَغَى كما فعل الرَّسول والصحابة ولا سيَّما أنَّهم عاشوا في عصر تعرَّضَ الإسلام فيه للزوال، وتعرَّض المسلمون فيه لأشدِّ أنواع البلاء)([3]).
يقول الدكتور زكي مبارك بعد أن تحدث عن الحروب الصَّليبية: «أَتَدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصَّليبية؟
لتعرف أنَّه بينما كان بطرس النَّاسِك يقضي ليله ونهاره في إعداد الخُطَب وتحبير الرَّسائل يحثُّ أهل أوروبا على احتلال أقطار المسلمين كان الغزالي (حُجَّة الإسلام) غارقًا في خلوته منكبًا على أوراده (المبتدعة) لا يعرف ما يجب عليه من الدَّعوة إلى الجهاد.
ويكفي أن نذكر أنَّ الإفرنج قبضوا على أبي القاسم الرَّملي الحافظ في يوم فتح بيت المقدس ونادَوا عليه ليفتدى فلم يفده أحد، ثم قتلوه وقتلوا معه من العلماء عددًا لا يُحصيه إلا الله كما ذكر السّبكي في طبقاته، وما ذكرنا هذه المأساة إلا لنعدَّ القارئ لفهم حياة الغزالي». انتهى([4]).
ويقول الدكتور سفر الحوالي وهو يرصد مدى الانحراف الذي أحدثه المتصوفة في الدَّولة العثمانية: (وامتدَّ البلاء إلى الأربطة والثُّغور التي بنيت أساسًا للجهاد ومقارعة الكفَّار إذ تحولت إلى زوايا وتكايا للصُّوفية)([5]).
ولاشكَّ أنَّ هذه المسألة – الجهاد وموقعه في الفكر الصُّوفي - تحتاج إلى مزيد تفصيلٍ وبيان؛ لغموض يَكْتَنِفُها من جهة ولعدم العدل في التعامل مع هذه القضيَّة من جهة أخرى، ولا شكَّ أنَّه لا يجوز -مع شَنَئَانِ الصُّوفية- ألَّا نَعدِل في تعاملنا وحُكْمِنا عليهم إذ إنَّ هذا خلاف ما أمرنا به من العدل مع من عادانا من الكفار، فكيف بمن ينتسب لأهل الإسلام في العموم.
فلابدَّ لنا من التنبيه إلى أنَّ الصُّوفية جزء من الأمَّة يمرُّ بها ما يمرُّ بالأمَّة من قوةٍ وضعفٍ، ومن علوٍ وانكسار، ومن اجتماعٍ وتفرق، والغَبْن كل الغبن يكون حين يتحالف المسلم مع العدو الكافر أو أن يجعل المسلم نفسه مطيَّةً لمن يحادَّ الله ورسوله سواء أكان صوفيًّا أو غير ذلك.
يقول الدُّكتور عبد الله عبد الرزاق إبراهيم: (ولقد ساعد أيضًا على انتشار هذه الطَّريقة (التجانية) قيام الإدارة الاستعماريَّة بتشجيع رجال الطُّرق الصُّوفية وخصوصًا الطَّريقة التجانية، وكان هذا التَّشجيع بالمال والنُّفوذ وذلك من أجل تشويه صورة الدِّين الإسلامي عن طريق نشر البدع والخرافات)([6]).
ويقول روم لاوندو: (وقد عرف الأوروبيون رغبة رجال الطُّرق الصُّوفية في الحصول على المال والنفوذ فراحوا يغذون هذه الرُّوح حتى قال جوليان بأنَّ الحكومة الفرنسية عرفت كيف تجمع الطُّرق الصوفية حولها عن طريق التَّمويل والحماية)([7]).
(وبعد الفتح بدأ المراغنة إعادة بناء طائفتهم، ووجدوا الدَّعم من الحكومة (الإنكليزية) التي أقامت حِلْفًا مع الختميَّة، وهذا ما ساعد الختميَّة على استعادة نفوذها، وظل السيِّد (المرغني) على تعاون مع الحكومة، وبعد الحرب العالميَّة الأولى وانهيار الدَّولة العثمانيَّة سافر وَفْدٌ من زعماء السُّودان إلى لندن لتهنئة الملك بالنَّصر، وكان السيِّد المرغني على رأس الوَفْد، وكان السيد عبد الرَّحمن المهدي مع الوَفْد، وسلَّم سيف والده الإمام المهدي إلى الملك تعبيرًا عن الوَلاء، وكان ردُّ الملك أنَّه قَبِلَ السَّيف كرمز للولاء وأنه يردُّه إليه وإلى ورثته)([8]).
يلخِّص الدكتور عبد الله إبراهيم واقع الطُّرق الصُّوفية في أفريقيا بقوله: (ووجدنا في كثير من مناطق القارة الأفريقية تنافسًا بين هذه الطُّرق وصل إلى حدِّ التَّعاون مع القُوى الوثنية ضد حركات الجهاد الإسلامية، بل ورفض زعماء الطُّرق الصُّوفية الانضمام إلى بني وطنهم لتكوين جبهة إسلاميَّة واحدة ضدَّ هذا المعتدي، ولعل خير دليلٍ على هذا العمل قيام الطَّريقة التجانية في الجزائر بالتَّحالف مع القُوى الفرنسية ضدَّ الأمير عبد القادر الجزائري، وحدث نفس الشَّيء عندما تحالفت القُوى الإسلاميَّة من الطريقة القادريَّة ضد الحاج عمر الفوتي التكروري في منطقة ماسينابل، وحاصرت قوات أحمد البكاي القادري قوات الحاج عمر الذي اضطر لخوض غمار معركة حربية ضدّ هؤلاء المسلمين ليخلِّص جيشه من الحصار، وكانت النتيجة استشهاد هذا الزَّعيم الإسلامي على أيدي القوات الصُّوفية وليس القُوى الفرنسية)([9]).
يقول الدكتور عمّار علي حسن: (لقد انقسم موقف الصُّوفية من الاحتلال البريطاني لمصر، فهناك طرق مثل الإدريسيَّة الأحمديَّة كانت تحصل على مساعدات بريطانيَّة كبيرة، وكان شيخها يمد الإنجليز بمعلوماتٍ عن تحركاتِ الأدارسة في منطقة عَسْير بالجزيرة العربية، وهناك المرغنية والختمية التي وجد البريطانيون في معارضتها للمهدية في السُّودان موقفًا يخدم مصالحهم، فقدَّموا إليها الدَّعم المادّي والمعنوي، كما ساند الاحتلال الطريقتين الغنيميَّة والدمرداشيَّة التي ارتبط شيخها مصطفى الدمرداش باشا بعلاقاتٍ خاصةٍ مع جورج لويد المندوب السَّامي (1925-1929) وعلى الجانب الآخر عارض محمَّد ماضي أبو العزايم شيخ الطَّريقة العزمية الاحتلال، وسمح لجمعية اليد السَّوداء المناهضة للإنجليز، وفي المقابل نجد الشيخ محمد إبراهيم الجمل شيخ الطريقة السمانية وصل به الحال في تأييد الإنجليز إلى جمع توقيعات المواطنين ضد ثورة (1919م) والدَّعوة إلى بقاء الإنجليز)([10]).
نلحظ مما سبق وجود تباين في المواقف، فثمَّة المجاهد الذي يقارع أعداء الله، وثمَّة المهادِن المستخذي الذي جعل نفسه مركبًا سهلًا لأعداء الأمة.
من الأمثلة الناصعة في الجهاد والفداء الحركة السَّنُوسِيَّة المجاهدة التي قامت بدورٍ كبيرٍ ضدَّ أعداء الأمة في ليبيا.
فهل كانت الحركة السَّنُوسِيَّة صوفيَّة مغرقة في التصوف منشغلة بالحلقات الراقصة المسمَّاة زورًا وبهتانًا حلقات ذكر؟ أم كانت تقضي وقتها في السُّكْر والحال والصحو والمحو؟ أم تراهم يقضون زمانهم بقراءة كتب ابن عربي والحلاَّج؟ أم كانوا يشغلون مريديهم بالطَّواف حول القبور واستجداء الرَّحمات من المقبورين؟
يقول المستشرق الأمريكي لوثروب ستودارد عن السنوسي: (وكذلك حصلت ريبة بمكَّة لميلِه إلى بعض المبادئ الوهَّابيَّة)([11]).
ويقول أيضًا متحدثًا عن الحركة السَّنُوسِيَّة: (وهم أشدُّ أعداء الأوروبيِّين من بين جميع طرق الدراويش، وقاعدتهم الجهاد ضدّ الكفار وجمع كلمة المسلمين أجمعين على العدو العام)([12]).
يقول صلاح مؤيد العقبي: (الطَّريقة السَّنُوسِيَّة طريقة إصلاحيَّة تجديديَّة، تأثَّر مؤسِّسُها بالحركة الوهَّابية لصاحبها محمَّد بن عبد الوهَّاب قدَّس الله روحه، وتهدف السَّنُوسِيَّة فيما تهدف إليه نشر الإسلام وإصلاح عقيدته ممَّا عَلِقَ به من أنواع البدع والضلالات)([13]).
ولكن ما الذي يدور داخل الحركة؟ ما هو المنهج الذي يتدارسونه؟
وفي بيان اختلافها عن باقي الزوايا قال العقبي: (تختلف الزَّوايا السَّنُوسِيَّة في مهامِّها ووظائفها عن الزَّوايا المعروفة منذُ زمنٍ بعيد، فهي كما خطَّط لها مؤسِّسها الإمام السّنوسي زيادة على رسالتها في التَّربية الرُّوحية والتَّعليم وبعض الأعمال الخيريَّة والاجتماعية، فهي مؤسَّساتٌ لتكوين الدُّعاة ومراكز عمل وجهاد يدرب فيها الأتباع في كلِّ يوم جمعة على استعمال السِّلاح، وتعقد لذلك مسابقات تُخصَّصُ فيها الجوائز للفائزين، كما يتعلَّم الفروسيَّة والرماية وركوب الخيل، كما تُعلم مختلف الصِّناعات كالنِّجارة والحدادة والسِّباكة والسِّباحة والزِّراعة وغرس الأشجار)([14]).
يقول الدكتور علي الصلَّابي: (وكان علماء الحركة السَّنُوسِيَّة يحاربون العقائد الفاسدة بين القبائل في الصَّحراء الكبرى، ويرشدون الناس إلى حُرْمة الغُلو في تقديس المشايخ الأحياء والأموات، ولا تأذن لأتباعها أن يذكروا ميتًا عند قبره بغير الدُّعاء له والترحم عليه)([15]).
ويقول الشَّيخ محمَّد رشيد رضا /: (استطاعت دولة فرنسا إفساد بأس جميع الطَّرائق المتصوفة في إفريقية، واستمالة شيوخها بالرِّشوة إلا الطَّريقة السَّنُوسِيَّة)([16]).
ولا بأس أن نسوق مثالًا آخر يحذو حَذو الحركة السَّنُوسِيَّة أَلَا وهي حركة شامل في أوائل هذا القَرْن التي قارعت القوَّات القيصريَّة في بلاد الشِّيشان، وقد كان يُسمّي أتباعه بالمريدين، وقد كان أيضًا منتميًا للطَّريقة النَّقْشَبنديَّة، ولكنه لم يقم بالأوراد الصُّوفية المُبتَدَعَة المعروفة اليوم، ولم يكن يؤدِّي رابطة شركيَّة يدعو فيها غير الله ويتصوَّر فيها صورة الشَّيخ، ولم تكن صورة الشَّيخ في جيبه -كما تفعل الصُّوفية اليوم- ولا يعلِّقها على جداره في مصلَّاه، بل كان كثَّ اللحيةِ متَّبعًا لسنَّة النبي ^.
أمَّا أنَّه سمَّى مقاتليه بالمريدين فإنما فعل ذلك بُغيَةَ اختراع اسم يجمعهم حوله كما يجتمع مريدو الصُّوفية حول شيخهم تشبيهًا لتنظيمه وحركته بالتنظيم الصُّوفي وحركتها([17]).
نلحظ من هذا النَّقل وما قبله مسألةٌ هي غايةٌ في الأهميَّة وهي التَّأكيد على الالتزام بالكتاب والسنَّة ونبذ الخرافة والجهل والبُعد عن البِدَع سواءً العلميَّة أو العمليَّة، وهذا بلاشكّ يُعدُّ فيصلًا في المسألة وحدًا مانعًا، فكلما اقترب الصُّوفي من حقائق الكتاب والسنَّة وابتعد عن الخرافة والجهل والتَّصوف الفلسفي نجد ثمَّة القوَّة والفُتوَّة والفداء، وكلما تلبَّس بالخرافة والجهل وتفلسف في تصوُّفه وانشغل بالجمع والفرق والفَنَاء والبَقَاء والصَحْو والمحو، وانشغل بالقبور دعاءً واستمدادًا نجد الخُنُوع والتَّخاذل والضَعف والاستخذاء، والتأريخ بأدواره المختلفة شاهدٌ على ما نقول.
وكما يدندن البعض بقوله: لا يجوز أن نمحو تأريخ الصُّوفية بجرَّة قَلَم وأنَّهم جزءٌ مؤثِّر في الأُمَّة؛ نقول نحن كذلك: لا نستطيع أن نمحو حقائق التَّاريخ بجرَّةِ قَلَم، ولا نستطيع نسيان الويلات التي حاقَت بالأمة جرَّاء تسلُّط الصُّوفية على عقائدها وعباداتها، فها هي الكُتُب مزبورة لم تجفَّ أحبارها، وها هي مواقف القوم ننقلها كما هي من غير تزيّد ولا مبالغة، لنرى من هو الطَّرف الذي أساء للأمَّة عبر تغيِيبها عن واقعها وإشغالها بالقبر دون الصدر، وبالرقص دون الطُّمأنينة، ومن هو الذي رَاهَنَ ويراهن عليه أعداء الأمة لنرى أي الكفتين هي الخاسرة.
يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر: «إنَّ الحكومة الفرنسيَّة تُعظِّم زاوية من زوايا الطُّرق، أكثر من تعظيمها لثكنة جنودها وقوادها، وأنَّ الذي يحارب الطُّرق إنما يحارب فرنسا!!»([18]).
ويقول الشَّيخ إحسان إلهي ظهير / في كتابه البريلوية: (إنَّ الباحث والقارئ يندهش ويتحيَّر عندما يرى أنَّه لم تَقَمْ حَرَكةٌ في شبه القارَّة لمواجهة الاستعمار إلا وخالفها البريلوي وكفَّر زعماءها).
ثم يذكر / هذه الحادثة العجيبة التي كانت بالهند والتي سُمِّيت بحركة عدم الموالاة يقول الشَّيخ: (في سنة (1920م) لما رأى المسلمون الهنود أن الإنجليز لا يريدون أن يخضعوا لطلباتهم ويفوا بعهودهم ويغادروا بلادهم قاموا بإقدامٍ آخر، وهو أن يترك الهنديون المعاملات مع الإنجليز المستعمرين ويتجنبوا عنهم، ويعلنوا تَرْكَ ولائهم ويقاطعوا الحكومة الإنجليزيَّة مقاطعةً تامةً، لا يطاوعونهم ولا يشاركونهم في أمورهم ولا يشتركون معهم، ولا يقدمون لهم الجمارك والضَّرائب ولا يأخذون منهم المراعاة ولا يكلِّمونهم فيما بينهم، فعاونهم في ذلك طلَّاب الحُريَّة من الهندوس أيضًا على رأسهم غاندي.
 فتكونت ثورة عظيمة ضدّ الاستعمار لم يُرَ لها مثالٌ سابق، واشترك فيها جميع طوائف المسلمين وقادتهم وعلماؤهم، غير البريلويين فلم يشاركوا في هذه الحركة الوطنيَّة، بل عَكْس ذلك أنَّهم بادروا بإصدار فتاويهم ضدَّ القائمين بهذه الحركات مناصرةً للاستعمار ومساعدةً للمستعمرين رافعين الأصوات أن ترك موالاة الاستعمار الإنجليزي الغاشِم الكافر حرام، فقد كتب البرلوي كتيبًا مستقلًا قال فيه بكل صراحة: إنَّه لا جهاد علينا مسلِمي الهند بنصوص القرآن العظيم، ومن يقول بوجوبه فهو مخالف للمسلمين ويريد إضرَارهم)([19]).
يقول الكاتب الإنجليزي فرانسس رابنسن: (إن البريلوي كان عمله حماية الحكومة الإنجليزيَّة، فإنَّه أيَّد الحكومة في الحرب العالميَّة الأولى، واستمرَّ هذا التأييد للحكومة حتى أيام حركة الخلافة سنة (1921م) وعَقَدَ مؤتمرًا في بريلي وجمع فيه العلماء الذين كانوا يخالفون ترك موالاة الحكومة)([20]).
وهذا حسن أفندي القحي الصُّوفي شيخ مشايخ صوفيَّة داغستان الذي يصفونه بأنه (القُطب الربَّاني والغوث الصَمَدَاني العارف بالله وولي الله بلا نزاع) عقد في عام (1922م) مؤتمرًا دعا إليه (72) عالمًا، وفي نهاية المؤتمر أعدُّوا رسالة برقيةٍ ليرسلوها إلى زعيمِهِم لينين في موسكو في الكرملين مضمونُها ما يأتي: (إلى زعيم البروليتاريَّة العالميَّة لينين! نحن متأسفون على مرضك ومنتظرون لشفائِك، وإنَّنا واثقون من انتصارك ونحن معك، فإلى الأمام على طريق النَّصر)!([21]).
وقد بايع الجزائريون الأمير عبدالقادر الجزائري بعد دخول الفرنسيِّين الجزائر، فقادهم إلى جهاد الفرنسيين طيلة سبعة عشر عامًا، ولكنه استسلم في آخر الأمر، وسلم نفسه إلى الفرنسيين فنفوه إلى خارج البلاد، ثم أطلقوا سراحه بعد أن اشترطوا عليه أن لا يعود إلى الجزائر، ورتّبوا له مبلغًا من المال يأخذه كل عام، وزار باريس، ثم استقرَّ في دمشق حتى تُوفيَ بها([22]).
وحين انهزمت فرنسا سنة (1870م) (أظهر كمال الأسف وتزيَّن بنيشانها الأكبر([23]) إظهارًا لاعتراف مصادقتها، وتخلَّى عن ملاقاة النَّاس مدَّة..)([24]).
وحين قام ابنه محيي الدِّين بإعلان الجهاد ضدّ الفرنسيِّين مرةً أخرى، واتفق مع بعض زعماء القبائل في الجزائر، تبرَّأ عبد القادر منه، وكان ذلك سببًا في انفضاض القبائل عنه، وفَشَل حركته([25]).
وبعدما استقر بدمشق انشغل ببثِّ تراث ابن عربي، فقد أرسل الطيِّب الجزائري المالكي إلى (مدينة قونيّة لمقابلة الفتوحات المكيَّة على خطِّ مؤلِّفها العارف بالله الشَّيخ محيي الدِّين ابن عربي، وقرأها مع الشَّيخ المذكور هناك مرَّتين مقابلة، وبعد مجيئهما قرأناها جميعًا على الأمير مع التزامنا لإصلاح نسخنا على النُّسخة المقابلة على خطِّ المؤلِّف)([26]) كما ذكر ذلك البيطار في الحِلية.
وقد كانت فرنسا تفرض له راتبًا، يقول البيطار: (ثم لم يستقر به الأمر أيامًا حتى جاء عند خليل باشا بأمر السُّلطان المعظم يخبره بأنَّ مراد الدَّولة العليَّة أن تعيِّن له معاشًا يكفيه مع الاتساع هو ومن يلوذ به، فسُر المترجم لذلك، ووجَّه لأمير المؤمنين ما يليق من الدَّعوات غير أنَّه اعتذر بأن إمبراطور فرنسا قد عيَّن له ما يكفيه ويكفي من معه)!!([27]).
وبعد الجهاد والفداء (وفي أول رجب سنة (1279هـ) توجَّه إلى الحجاز من جهة البحر، فنزل بكل عزٍّ وإكرام إلى مكَّة، وبعد أيامٍ أخذ الطَّريقة الشَّاذلية عن العارف بالله الشَّيخ محمَّد الفاسي، واختلى مدةً في غار حراء، فبلغ مطلوبه ونال مرغوبه، وفُتِحت له كنوز الأسرار وكُشِفَ له عن رموز الأستار..)([28]).
وبعد الجهاد أيضًا: (وتوجَّه إلى فرنسا فاهتزَّ له القطر لقدومه وتحرَّك لاستقباله ركن العاصمة من حاكمه ومحكومه، ونال من القَدْر أعلاه ومن الاحتفال أجلاه وأولاه، وقابل الإمبراطور نابليون، وجلس معه ساعة وبذل له من الاحترام اتّساعه، ثم بعد أيامٍ رحل إلى لوندرا مملكة الإنكليز وحصل له من الدَّولة والأهالي كل قدْرٍ عزيزٍ، ثم بعد تمام اطّلاعه على تلك المحلَّات رجع إلى باريس وكان قد زِيدَ له في معاشه في كل سنة خمسون ألف فرنك، فصار جملة معاشه في كل شهر ستمائة ليرة فرنساوية اثنا عشر ألف فرنك)([29]).
وفي عام (1870م) حَمَل أحمد التجاني شكر الجزائريِّين للفرنسيِّين! وبَرْهن على ارتباطه بـفرنسا، فتزوَّج أوريلي بيكار، وبفضلها تحوَّلت منطقة كوردان من أرض صحراويَّة إلى قصرٍ مَنْيفٍ رائع، وهو أول مسلمٍ تزوج بأجنبيَّة([30]).
ومما يذكر أن مدام أوريلي بيكار قد أصدرت كتابًا أسمته أميرة الرِّمال، تعني نفسها، ملأته بالمثالب والمطاعن على الزَّاوية التجانية، ومسلِمي الجزائر، وذكرت أن أحمد التجاني قد تزوَّجَهَا على يد الكردينال «لا فيجري» على حسب الطقوس المسيحيَّة، وبقيت أوريلي على كاثوليكيتها، ولما توفي عنها زوجها خلفه عليها وعلى السّجّادة التجانية أخوه علي، فأطلق عليها لقب (زوجة السَّيدين)([31]).
وقد كافأتها السُّلطات الفرنسيَّة لقاء ما قدمته من خدمات بوسام جوقة الشرَّف، وقالت عنها في براءة التوجيه: «إنَّ هذه السَّيدة قد أدارت الزَّاوية التجانية إدارةً حسنةً كما تحبُ فرنسا وترضى، وساقت إلينا جنودًا مجندةً من أحباب هذه الطَّريقة ومريديها، يجاهدون في سبيل فرنسا كأنَّهم بنيانٌ مرصوص»([32]).
يقول محمَّد كرد علي في مذكراته: (العجيب ألَّا يطلع بسرِّ الطُّرق الصُّوفية ولا يفهم كتب القوم إلا الجهلة المتعبِّدون على نحو ما نرى في الطَّريقتين اللَّتين جاءت إحداهما -وهي القادريَّة- من الشَّرق وكانت اختراعًا إنكليزيًّا صِرْفًا، وجاءت الأخرى من الغرب وهي بضاعةٌ فرنسية مَحْضَة)([33]).
وقد نقل هذا الكلام عبد الرحمن الجيلالي صاحب كتاب تاريخ الجزائر العام مستنكرًا -وهو صوفيُّ المشرب- ثم علق قائلًا: (ولعلَّ كرد علي يقصد من قوله: أولئك المعروفين، ممن جاء أخيرًا من مدَّعي المشيخة الذين تزعموا هاتين الطَّريقتين اللَّتين أشار إليهما كرد علي، وكانوا فعلًا عملاء متعاونين لمصلحة الإنكليزي والفرنسي، فإن كان هكذا فنعم إذن)([34]).
يقول زعيم حزب الأمة السُّوداني الصَّادق المهدي-وهو من أحفاد أحمد المهدي صاحب الحركة المهديَّة في السودان-:
(الإسلام الصُّوفي منذ نشأته اتَّسم بإسقاط واجب الجهاد، وبالتَّخلي عن الإيجابيَّة الاجتماعيَّة فكان أشبه بحركة انطواء، مما سهَّل على جماعته التَّعايش مع نُظُم سياسيَّة فرضت سلطانًا على المجتمع، وهكذا كان حال الإسلام الصُّوفي في السُّودان في الغالب، لذلك عندما همَّ الغزو الثنائي غزو السُّودان، كان من سياسته محاربة التطرُّف (المهديَّة) بالصُّوفية، ولذلك شُجِعَتْ الطُّرق الصُّوفية تشجيعًا كبيرًا لاسيّما تلك التي عادت المهديَّة، لم يكن الحكم الاستعماري متخوفًا من الإسلام الصُّوفي؛ لأنه كان يتوقع إمكان التعايش معه وإمكان التحالف معه..).
ثم يقول: (لقد كان نظام الحكم الاستعماري مطمئنًا للفكر والنَّهج الصُّوفي)([35]).
ويقول محمَّد فهر شقفة: (ونرى من واجبنا خدمة للحقيقة والتاريخ أنَّ نذكر أن الحكومة الفرنسيَّة في زمن الانتداب على سورية حاولت نشر هذه الطَّريقة-التجانية-، واستأجرت بعض الشيُّوخ لهذه المهمة، فقدمت لهم المال والمكان لتنشئة جيل يميل إلى فرنسا؛ لكنَّ مجاهدي المغرب لفتوا انتباه المخلصين من أهل البلاد إلى خطر الطَّريقة التجانيَّة، وأنَّها فرنسية استعماريَّة تتستَّر بالدِّين، فهبّت دمشق عن بَكْرةِ أبيها في مظاهرات صاخِبَة)([36]).
إنَّنا حين نحاكم التَّصُّوف إلى التَّاريخ ليس معنى هذا أنَّ هذه المحاكمة تعدُّ فيصلًا هاهنا أو أنَّ هذا السُّلوك هو الصَّواب –محاكمة التَّصوف إلى التَّاريخ –إنَّ الصواب هو أن نحاكم التَّصوف إلى المنهج الرباني قربًا وبعدًا.
وأقول أخيرًا: إنَّنا بذكر ما مرَّ لم نكن متتبعين لخطأ ولا ناشرين لملامٍ قد غيب التاريخ أوصاله ولا باحثين عن رذيلةٍ نكشف بها ما تصرَّمت عليه السنون، ولكنا ننظر لبعض بني قومنا وقد أعيتهم الطَّريقة فصاروا يتمسَّحون بباطلٍ من القول بُغيَة تأليف قلوبٍ على حساب الحقيقة، وإنَّنا مع رحمتنا ببني قومنا وإشفاقنا عليهم إلا أنَّ رحمتنا بهم وإشفاقنا عليهم لا يجعلنا في موقف المبرر لضلالِ من ضلَّ، فالصُّوفية وإن كانت جزءًا من هذه الأمة إلا أنَّها لم تكن في يوم هي محطّ الصدارة والريادة، بل هي أولى بكل دعوةٍ حانيةٍ مشفقةٍ تتلمَّس موطن الضَّلال عندها بمبضع الطَّبيب تصلحه وتعالجه، مع دعواتٍ بالرَّحمة تترى تبلغ عَنَانَ السماء، لا أن نتشبث بموطن هدايةٍ لهم في جهادٍ أو موقف شرفٍ ومروءةٍ ناسين أو متناسين كمًّا هائلًا وإرثًا ضخمًا من الضَّلالة والإضلال.


الهوامش


([1]) الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر (1/538).

([2]) انظر: تاريخ ابن عساكر (4/174).

([3]) انظر: موقف فقهاء الشام وقضاتها من الغزو الصليبي (ص:60)، وما بعدها.

([4]) الأخلاق عند الغزالي (ص:25).

([5]) انظر: كتاب العلمانية (ص:518).

([6]) الطرق الصوفية في أفريقيا (ص:65).

([7]) روم لاوندو تاريح القرن العشرين (ص:142).

([8]) خبايا وأسرار في السياسة السودانية (ص:52).

([9]) الطرق الصوفية في إفريقيا (ص:230).

([10]) الصوفية والسياسة في مصر (ص:97).

([11]) انظر: حاضر العالم الإسلامي (2/399).

([12]) المصدر السابق (2/398).

([13]) الطرق الصوفية والزوايا بالجزائر تاريخها ونشاطها (ص:194) بتصرف يسير.

([14]) المصدر السابق (ص:200).

([15]) انظر: الحركة السنوسية في ليبيا (1/112).

([16]) انظر: السيد محمد رشيد رضا/ محمد أحمد درنيقة (ص:202).

([17]) انظر: الفروق بين أهل السنة والصوفية (ص:499).

([18]) الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا (ص:51- 52).

([19]) كتابه المحجة المؤتمنة، نقلًا عن البريلوية إحسان إلهي ظهير (41-42).

([20]) سيبتر زوم امنك اندين مسلمز (ص:443). نقلًا عن البريلوية للشيخ إحسان إلهي ظهير.

([21]) الفروق بين أهل السنة والصوفية (ص:559).

([22]) الأعلام (4/46).

([23]) وكان قد أهدي له لدى زيارته باريس عام (1867م).

([24]) الرحلة الحجازية (3/200).

([25]) أعلام المغرب العربي (1/216).

([26]) حلية البشر في أعلام القرن الثالث عشر (2/757).

([27]) نفس المصدر (2/896).

([28]) نفس المصدر (2/898).

([29]) حلية البشر (2/898).

([30]) الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا (ص:52).

([31]) المصدر السابق (ص:52)، التجانية (ص:61).

([32]) التجانية (ص:62).

([33]) (3/735).

([34]) انظر: تاريخ الجزائر العام (3/256) دار الثقافة بيروت.

([35]) انظر: العرش والمحراب (398).

([36]) التصوف بين الحق والخلق (ص:217).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
موقف الصُّوفية من الجهاد.doc doc
موقف الصُّوفية من الجهاد.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى