حال العبد بين الخوف والرجاء

حال العبد بين الخوف والرجاء





الحالة الأولى ـ حال استقامة العبد وصلاحه:

ينبغي أن يكون رجاؤه وخوفه سواءً؛ فلا يُغَلِّب جانبًا على جانب آخر، ويدل على ذلك ما يلي:

1- نصوصُ الكتاب والسنة:

إذ جاءت جامعةً بين الخوف والرجاء؛ يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، ويقول سبحانه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]، ويقول جلَّ ذكرُه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، ويقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الجنةُ أقربُ إلى أحدِكم من شِرَاكِ نَعْلِه، والنارُ مثلُ ذلك))[1].

2- أقوال السلف في الجمع بين الخوف والرجاء:

 قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (واللهِ لو قيلَ لا يدخل الجنةَ إلا رجلٌ واحدٌ؛ لرجوتُ أنْ أكونَ أنا هو، ولو قيلَ لا يدخل النارَ إلا رجلٌ واحدٌ لَخِفْتُ أَنْ أَكون أنا هو)[2].

وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: (خائفًا مستجيرًا تائبًا مستغفِرًا راغبًا راهبًا)[3].

وقال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: (ينبغي للمؤمنِ أنْ يكونَ رجاؤه وخوفُه واحدًا)[4]، قال ابنُ تيمية - رحمه الله -: (وهذا هو العدلُ)[5].

وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير - رحمه الله -: (لو وُزِنَ رجاءُ المؤمنِ وخوفُه ما رجح أحدُهما على صاحبِه)[6].

الحالة الثانية ـ حال دنوِّ الموت وقرب الأجل:

فعند لحظة الموت يحسن الظن بربه، ويغلِّبُ جانبَ الرجاء على الخوف، وقد ثبتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام قال: ((لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِنُ باللهِ الظنَّ))[7].

قال الحافظُ النووي - رحمه الله -: (فإذا دَنَتْ أماراتُ الموتِ غَلَّبَ الرجاءَ أو محَّضَه؛ لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثارِ من الطاعات والأعمال، وقد تعذَّرَ ذلك أو معظمه في هذا الحال، فاستحب إحسان الظنِّ المتضمن للافتقار إلى الله تعالى)[8].

فقد كان السلف يحبون (أن يُلَقِّنُوا العبدَ محاسن عملِه عند موته، لكي يُحْسِنُ ظنَّه بَرَبِّه)[9]؛ قال أبو شيبة الزبيدي: (خِفْتُ نفسي ورَجَوتُ ربي، فأنا أحبُّ أن أفارقَ من أخاف إلى من أرجو)[10].

ولما احتضر الربيعُ بن خثيم بكت ابنتُه فقال: (يا بنيه لا تبكِ، ولكن قولي: يا بُشرى، اليوم لقي أبي الخيرَ)[11].

ولما حضرت سفيانَ الثوري الوفاةُ قال لرجل: (أَدْخِل عليَّ رجلين، فأدخلَ عليه أبا الأشهب وحماد بن سلمة، فقال له حماد: يا أبا عبد الله أَبْشِر!! فقد أَمِنْتَ ممن كنت تخافه وتُقْدِمُ على من ترجوه، فقال: إي والله إني لأرجو ذلك)[12].

ولما احتضر بشرُ بن منصور السليمي ضَحِكَ، وقال: (أخرجُ من بين ظهراني من أخاف فتنتَه، وأُقْدِمُ على من لا أشكُّ في رحمتِه)[13].

وعن المعتمر بن سليمان قال: (قال أبي حين حضرته الوفاةُ: حَدِّثْنِي بالرُّخَصِ لعلي ألقى اللهَ عز وجل وأنا حسن الظن به)[14].

قال حيان أبو النضر: (قَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الأَسْقَعِ: قُدْ بِي إِلَى يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ بِهِ لَمَمٌ، قَالَ: فَقُدْتُهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ثَقِيلٌ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ ثَقِيلٌ قَدْ وُجِّهَ، وَقَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، قَالَ: نَادُوهُ، فَنَادَوْهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا وَاثِلَةُ أَخُوكَ، قَالَ: فَأَبْقَى اللَّهُ مِنْ عَقْلِهِ مَا سَمِعَ أَنَّ وَاثِلَةَ قَدْ جَاءَ.

قَالَ: فَمَدَّ يَدَهُ فَجَعَلَ يَلْتَمِسُ بِهَا، فَعَرَفْتُ مَا يُرِيدُ، فَأَخَذْتُ كَفَّ وَاثِلَةَ فَجَعَلْتُهَا فِي كَفِّهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ تَقَعَ يَدُهُ فِي يَدِ وَاثِلَةَ، ذَلِكَ لِمَوْضِعِ يَدِ وَاثِلَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَضَعُهَا مَرَّةً عَلَى وَجْهِهِ، وَمَرَّةً عَلَى صَدْرِهِ، وَمَرَّةً عَلَى فِيهِ.

قَالَ وَاثِلَةُ  أَلا تُخْبِرُنِي عَنْ شَيْءٍ أَسْأَلُكَ عَنْهُ؟ كَيْفَ ظَنُّكَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: أَغْرَقَتْنِي ذُنُوبِي وَأَشَفْتُ عَلَى هَلَكَةٍ، لَكِنِّي أَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ، قَالَ: فَكَبَّرَ وَاثِلَةُ وَكَبَّرَ أَهْلُ الْبَيْتِ بِتَكْبِيرِهِ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ ظَانٌّ مَا شَاءَ)))[15].

وبكر الصواف قال: (دخلنا على مالك بن أنس العشيةَ التي قُبِضَ فيها، فقُلنا: يا أبا عبد الله كيف تجدك؟ قال: ما أدري ما أقول إلا أنَّكم ستعاينون غدًا من عفوِ اللهِ ما لم يكنْ في حسابٍ، قال: ثم ما بَرِحنَا حتى أغمضناه)[16].

 

الهوامش:

([1]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، (6488).

([2]) الإبانة الكبرى، ابن بطة العكبري، (2/750).

([3]) الزهد، وكيع بن الجراح، (2/545).

([4]) مسائل الإمام أحمد، ابن هانئ، (2/172)، ذكره ابن رجب الحنبلي في التخويف من النار، ص(31).

([5]) الإنصاف، المرداوي، (2/463).

([6]) الزهد، أحمد بن حنبل، ص(342).

([7]) رواه مسلم، كتاب الجنة وصفتها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، (2877).

([8]) شرح صحيح مسلم، النووي، (17/206).

([9]) شعب الإيمان، البيهقي، (2/7)، المحتضرين، ابن أبي الدنيا، ص(39).

([10]) حسن الظن بالله، ابن أبي الدنيا، ص(83).

([11]) أورده ابن أبي شيبة في مصنفه، (7/147)، وأبو نعيم في الحلية، (2/107).

([12]) محاسبة النفس، ابن أبي الدنيا، ص(76).

([13]) حسن الظن بالله، ابن أبي الدنيا، ص(66).

([14]) أورده ابن الجعد في مسنده، (199)، والبيهقي في شعب الإيمان، (2/7)، وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله، (37).

([15]) رواه أحمد في مسنده، (25/398)، وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله، (16)، وإسناده حسن.

([16]) حسن الظن بالله، ابن أبي الدنيا، (78)، وذكر ه ابن فرون في الديباج المذهب، (1/28).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
حال العبد بين الخوف والرجاء.doc doc
حال العبد بين الخوف والرجاء.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى