الفرق بين التمني والرجاء وأقوال العلماء فيه

الفرق بين التمني والرجاء وأقوال العلماء فيه





الفرق بين الرجاء والتمني: (والفرق بينه وبين التمني؛ أن التمني يكونُ مع الكسلِ، ولا يسلك بصاحبِه طريقَ الجدِّ والاجتهاد، والرجاء يكون مع بذلِ الجهد وحسن التوكل؛ فالأول: كحالِ من يتمنى أن يكون له أرضٌ يبذرها ويأخذ زرعها، والثاني: كحال من يشقُّ أرضَه، ويفلحها، ويبذرها ويرجو طلوع الزرع؛ ولهذا أجمعَ العارفون على أن الرجاء لا يصحُّ إلا معَ العملِ)[1].

فالأماني لما يستحيل حدوثه غالبًا، وهي في كلام الله تعالى يكثر أن تكون من الشيطان، وفي باطل الأمور؛ إذ هي طلبٌ مع عدم بذل السبب، وقد مثَّل له صاحب الفروق بقوله: (أن يتمنى الإنسانُ أن اللهَ لم يخلقْه، أو أنه لم يفعل ما فعلَ أمس)[2].

فالخلاصة: أن العبد في هذه الحياة بين الطاعة والمعصية، فالطاعة يعملها ويرجو من الله قبولها، وأما المعصية يتوب منها فيرجو من الله قبولها، فهذا هو الرجاء الشرعي، فالرجاء هو توقُّعُ الخير من الله مع الأخذ بالأسباب.

والرجاء: (هو ارتياحُ القلبِ لانتظارِ ما هو محبوبٌ عنده)[3]، (لكن ذلك المُتَوقَّع لابد له من سببٍ حاصل)[4]، فإن (كان انتظاره لأجل حصولِ أكثر أسبابه؛ فاسمُ الرجاءِ عليه صادقٌ، وإن كان ذلك انتظارًا مع انخرامِ أسبابِه؛ فاسمُ الغرورِ عليه أصدقُ من الرجاءِ)([5]).

وقيل: (الرجاءُ ما قارنه عملٌ وإلا فهو أمنيةٌ، فالرجاء تعلُّقُ القلبِ بمطموعٍ يحصل في المستقبلِ مع الأخذ بالعمل المحصِّلِ له، وأقربُ منه طمعٌ يصحبه عملٌ في سببِ المطموعِ فيه لأجلِ تحصيلِه، فمن رجا أن يدركَ النعيمَ الحسي؛ فعليه بالجدِّ والطاعةِ والمسارعةِ إلى النوافل والخيرات، وإلا كان رجاؤه حُمقًا وغرورًا)[6].

إذًا؛ فالرجاء (إحسانُ الظنِّ باللهِ تعالى مع تقديمِ العمل الصالح، والإقبال على طاعةِ الله تعالى والتقرب إليه بالنوافل)[7]؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

وذُكِرَ في الرجاء (أنه حسنُ الظنِّ باللهِ تعالى في قبولِ طاعةٍ وُفِّقْتَ لها، أو مغفرة سيئةٍ تُبْتَ عنها)[8].

ونخلص من الأقوال السابقة إلى أن الرجاء هو ثقة من العبد بالله تعالى، وارتياحٌ قلبي لانتظار شيءٍ محبوب، يعمل باجتهاد لتوفير أسبابه، فهو توقعُ العبدِ رحمةَ الله ومغفرته وجزاءه الحسن للعبد على أعماله الصالحة أن يُدْخِلَه الجنة ويُنَجيه من النار.

(الرَّجَاء شُرِعَ للْمصْلحَة الدِّينِيَّة لَا للمفسدة، وَمَا شُرِعَ للْمصْلحَة الدِّينِيَّة لم يكن تَركه أحوط، وَتلك الْمصلحَة هِيَ قُوَّة دُعَاء الرَّغْبَة الممدوح فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}، وتضعيف مفْسدَة الْقنُوط المذموم بِالنَّصِّ والإجماع.

وَعدم الْكبر على العصاة المذموم بِالنَّصِّ فِي تَفْسِير الْكِبر، والتخلق بأعدل الأخلاق وأدلها على الإنصاف وَهُوَ تَغْلِيب الرَّجَاء على الْخَوْف فِي حق الْغَيْر، وتغليب الْخَوْف على الرَّجَاء فِي حق النَّفس، وَهَذَا هُوَ مُعظم الْمصلحَة فِيهِ، وَإِنَّمَا يلْزم الْفساد لَو عكسنا ذَلِك وجعلناه وَسِيلَةً إِلَى الْمعاصِي، وَأما مَعَ إِثْبَات الْخَوْف وترجيحه فِي حق النَّفس فَهُوَ سَبَب الصَّلاح للأخلاق والأعمال، وَسُنة الأنبياء والأولياء.

بَيَانُ ذَلِك أَن الْخَلِيلَ عليه السلام جادل عَن قوم لوط على جِهَة الرَّجَاء لفضلِ الله وَرَحمته؛ لَعَلَّه يمهلهم حَتَّى يتوبوا إليه، أَو غير ذَلِك مِمَّا كَانَ يسوغ وَيحْتَمل فِي شَرِيعَته عليه السلام، فمدحه اللهُ تَعَالَى بذلك وَقَالَ فِي ذَلِك: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}، مَعَ خَوفه على نَفسِه كَمَا تقدَّم، حَيْثُ قَالَ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}، وَلم يقلْ: "وَالَّذِي يغْفر لي"، وَكَذَلِكَ قَالَ: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}.

وكذلك قَالَ عِيسَى عليه السلام فِيمَن أشرك بِعبَادةِ الله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادُك وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُم فَإنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وَقَالَ إِبْرَاهِيم عليه السلام أَيْضًا: {وَمنْ عَصَانِي فَإنَّك غَفُورٌ رَحِيم}؛ فَدلَّ على أَن سَعَة الرَّجَاء لِلْخلقِ مَعَ التجويز لَا تخَالف الأحوط، وَأَنه لَا ذمَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَة، لِأَنَّهُ لَا أبعد من الذَّم والشبهة من مثل خَلِيل الله وروحه - عَلَيْهِمَا السَّلَام -؛ وَلذَلِك قَالَ عَليّ رضي الله عنه: الْفَقِيهُ كل الْفَقِيه مَنْ لم يُقَنِّط النَّاسَ من رَحْمَةِ اللهِ وَلم يُؤمِّنهم مكرَ اللهِ تَعَالَى)[9].


أقوال العلماء في الرجاء:

-قال أبو بكر الوراق[10]: (الرجاءُ ترويحٌ من الله تعالى لقلوب الخائفين، ولولا ذلك لَتَلَفَت نفوسُهم وذَهلَت عقولُهم)[11].

- وقال يحيى بن معاذ[12]: (إلهي أحلى العطايا في قلبِي رجاؤُك، وأعذبُ الكلام على لسانِي ثناؤُك، وأحب الساعاتِ إليَّ الساعة التي يكونُ فيها لقاؤُك)[13].

-  وقال الفضيل بن عياض[14]: (من خافَ اللهَ تعالى لم يضره أحدٌ، ومن خافَ غيرَ اللهِ لم ينفعه أحدٌ، ومن أطاعَ اللهَ لم يضره معصيةُ أحدٍ، ومن عصى اللهَ لم ينفعه طاعةُ أحدٍ)([15]).

-قال أبو عبد الله بن خفيف: (الرجاءُ ارتياحُ القلوبِ لرؤيةِ كرمِ المرجو)[16].

-وقال شاه الكرمي: (علامةُ صحةِ الرجاء: حُسن الطاعة)[17].

-وقال الإمام ابن عطاء الله السكندري: (الرجاءُ ما قارنه عملٌ وإلا فهو أمنيةٌ)[18].

- قال البيهقي - رحمه الله -: (وأفضلُ الرجاءِ ما تولَّد من مجاهدةِ النفسِ ومجانبة الهوى؛ قال اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218])[19].

إن أصحاب الرجاء والأمل لا تفزعهم العقباتُ والأكدار، ولا تدهشهم الإبتلاءات والمحن، هم الفئة التي تُعَوِّلُ عليها الأمة، والصفوة النقية التي ترفع اللواء؛ إذ الطريق محفوفٌ بالمَكارِه، والله تعالى يقول: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11].


الهوامش:

([1]) المصدر السابق، (2/27)، وانظر: كتاب الروح، ابن القيم، ص(474).

([2]) الفروق في اللغة، أبو هلال العسكري، ص(200).

([3]) إحياء علوم الدين، الغزالي، (4/198).

([4]) مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامة المقدسي، قدَّم له الأستاذ محمد أحمد دهمان، وعلَّق عليه: شعيب الأرنؤوط، ص(297).

([5]) المستخلص في تزكية الأنفس، سعيد حوى، القاهرة، دار السلام، ط 4، 1408هـ-1988م، ص(157).

([6]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، أحمد بن عجيبة، ط 3، ص(157)، بتصرف.

([7]) ركن الطاعة، محمود علي عبد الحليم، بيروت، دار التوزيع والنشر، ص(258).

([8]) نزهة الناظرين في الأخبار والآثار المروية عن الأنبياء، عبيد الضرير، 1373 هـ 1954 م، ص(254)، مصر، مطبعة مصطفى البابي، ط 3.

([9]) إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، ابن الوزير القاسمي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الثانية، 1987م، ص(363).

([10]) أبو بكر الوراق: هو محمد بن يحيى بن سليمان بن زياد المرزوي نزيل بغداد، روى عن عاصم بن علي الواسطي وأبي عبيد بن سلام، قال الدارقطني: صدوق، وقال الخطيب: ثقة، مات سنة ثمان وتسعين ومائتين، وكان كثير الحديث، وكان يورق لعمر بن بحر الحافظ، انظر: تهذيب التهذيب، ابن حجر، (9/450).

([11]) اللمع في تاريخ التصوف الإسلامي، الطوسي، (378 هـ)، ضبطه وصححه: كامل مصطفى الهنداوي، بيروت لبنان، دار الكتب العلمية، ط 1. 1421 هـ 2001 م، ص(57).

([12]) يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي، أبو زكريا، واعظ، زاهد، لم يكن له نظير في وقته من أهل الرأي، أقام ببلخ ومات بنيسابور (258 هـ 872 م)، له كلمات سائرة منها: "طلب العاقل للدنيا أحسن من ترك الجاهل لها"، "وكيف يكون زاهدًا من لا ورع له"، "تورع عما ليس لك ثم ازهد فيما لك"، انظر: الأعلام، الزركلي، (8/172).

([13]) منارات السائرين إلى حضرة الله ومقامات الطائرين، ابن شاهاور، (654 هـ)، تحقيق: عاصم إبراهيم الكيالي، بيروت لبنان، دار الكتب العلمية، ط 1، ص(174).

([14]) الفضيل بن عياض: هو أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي، أبو علي الزاهد المشهور، أصله من خراسان، سكن مكة، ثقة عابد إمام، مات سنة سبع وثمانين ومئة، روى عن الأعمش ويحيى بن سعيد، وروى عنه سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، كان من الخوف نحيفًا وللطواف أليفًا، كان كثير الحزن والبكاء من خشية الله تعالى.

([15]) تهذيب خالصة الحقائق، الفارابي، (1/301).

([16]) نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ الصوفية أصحاب المقامات العالية، عبد الله اليافعي، (768)، وضع حواشيه: خليل عمران المنصور، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية، طبعة أولى، 1412هـ، ص(167).

([17]) موسوعة الأخلاق الإسلامية، أبو عزيز، القاهرة، مصر، المكتبة التوفيقية، (3/30).

([18]) المصدر السابق، (3/30).

([19]) شعب الإيمان، البيهقي، تحقيق: أبو مهاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، بيروت، لبنان، دار الكتب العلمية، ط1،1421هـ، (2/8).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الفرق بين التمني والرجاء وأقوال العلماء فيه.doc doc
الفرق بين التمني والرجاء وأقوال العلماء فيه.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى