الفناءُ فِي اللهِ (وحدةُ الوجود) (5)

الفناءُ فِي اللهِ (وحدةُ الوجود) (5)





الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصحبِه وَمَنْ وَالَاه وَبعد ... المجموعةُ الثالثةُ: فتتضمنُ أقوالًا لأبي بكر الشبلي، تشهدُ عليه بأنَّه كانَ يقولُ بوحدةِ الوجودِ.

       أولُ قول: مفادُه أنَّ الشبلي سُئِلَ عنْ قولِه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]؛ فقَالَ: (لمنْ كانَ اللهُ قلبَه، وَأنشدَ:

لَيْسَ مِنِّي قَلْبٌ إِلَيْكَ مُعَنَّى                 كُلُّ عُضْوٍ مِنِّي إِلَيْكَ قُلُوبُ)([1]).

       وأقولُ: قولُه فيه تحريفٌ مُتعمدٌ للآيةِ؛ لأنَّه حرَّفَها عنْ سياقِها وَقوَّلَها ما لمْ تَقُلْ، وَفيه أيضًا القولُ بوحدةِ الوجود؛ لأنَّ العابدَ أو الصوفي الذي يصلُ إلى حالةٍ يكونُ فيها قلبُه هو الله، فهوَ قدْ أصبحَ ربَّا، ثمَّ إنَّ الرجلَ أكدَ ذلكَ عندما أنشدَ:

لَيْسَ مِنِّي قَلْبٌ إِلَيْكَ مُعَنَّى                 كُلُّ عُضْوٍ مِنِّي إِلَيْكَ قُلُوبُ

       فوصفَ نفسَه بأنَّه هوَ بذاتِه متحققٌ بذلكَ الحالِ، وَأنَّ جسمَه كلَّه هوَ الله وَليسَ خاصًّا بقلبِه فقط؛ لأنَّ جسمَه كلَّه قلوبٌ حَسْبَ زعمِه، وَقولُه هذا شاهدٌ قويٌّ على أنَّه يعتقدُ بخرافةِ وِحدةِ الوجودِ.

       القولُ الثاني: مضمونُه أنَّ أبا عبدِ اللهِ بن جابان قالَ: (دخلتُ على الشبلي فلمَا قمتُ لأخرجَ؛ كانَ يقولُ لي وَلمنْ معي إلى أنْ خرجنَا مِنَ الدارِ: مُرُوا أنَا معكُم حيثُ ما كنتُم، وأنتُم في رعايتِي وَكلاءَتِي)([2]).

       ففسَّرَ السراجُ الطوسي كلامَه بقولِه: (أرادَ بقولِه ذلكَ: إنَّ اللهَ تعالى معكُم حيثُ ما كنتُم وهوَ يرعاكُم)([3]).

       وَأقولُ:

       أولًا: إنَّ شرحَ السراجِ لكلامِ الشبلي هو تحريفٌ متعمدٌ لكلامِه، وَليسَ شرحًا وَلَا توضيحًا، وَإنما هوَ إخفاءٌ لما صرَّحَ به الشلبي بأنَّه هوَ اللهُ، فجاءَ السراجُ وَنسبَ ذلكَ إلى اللهِ مباشرةً، لأنَّه رأى أنَّ الشبلي كشفَ سرَّ أسرارِ الصوفيةِ الذي تضافرتُ جهودُهم على إخفائِه عن المسلمين قديمًا وَحديثًا، فَفِعْلُ السراجِ مرفوضٌ، فيه تضليلٌ وَتلبيسٌ، لكنَّه منْ جهةٍ أخرى شرحَهَ وبيَّنَ مقصودَه الشبلي، بأنَّه كانَ يعتقدُ بأنَّه هوَ اللهُ.

       وَثانيًا: إنَّ الشبلي أعلنَ صراحةً بأنَّه هوَ اللهُ؛ لأنَّ تلكَ الأفعال وَالصفات التي نسبَها إلى نفسِه لا يتصفُ بها إلا الله تعالى، وَيبدو أنَّه صرَّحَ بذلك لأنَّه كانَ مع أصحابِه في مأمنٍ مِن انكشافِ أمرِه، فالرجلُ مُدَّعي للربوبيةِ وَالألوهيةِ، وَهذا جنونٌ وَكفرٌ وَضلالٌ مبينٌ، لا يقولُه مسلمٌ وَلا عاقلٌ.

       وَالقولُ الثالثُ: ذكرَ السراجُ الطوسي أنَّ أبا بكر السلبي قالَ: (كُلُّ إشارةٍ أشارَ الخلقُ بها إلى الحقِّ، فهي مردودةٌ عليهم، حتى يشيروا إلى الحقِّ بالحقِّ، ليسَ لهمْ إلى ذلكَ طريقٌ)([4]).

وَأقولُ: كلامُه هذا باطلٌ شرعًا وَعقلًا وَعلمًا، وهوَ يتضنُ القولَ بوحدةِ الوجودِ؛ لأنَّه:

       أولًا: إنِّ في الشرع نصوصًا كثيرةً جدًّا أشارتْ إلى اللهِ تعالى بأنَّه مُرْسِلُ الأنبياءِ، وَمُنْزِلُ الكتبِ وخالقُ الكونِ، وَجعلتْ كلَّ ذلكَ أدلةً عليه.

       منها قولُه تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].

       وَقولُه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].

       وَقولُه تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86].

       َوقولُه تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10].

       وَقالَ تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].

       وَمعنى ذلكَ أنَّ اللهَ تعالى يُشارُ إليه وَيُستدلُ على وجودِه بمخلوقاتِه، وأنبيائِه وَكُتبِه، وَبأنوارِه الإيمانيةِ التي يفضيها على قلوبِ عبادِه المؤمنين الصالحين.

       وثانيًا: بما أنَّ اللهَ تعالى ليسَ كمثلِه شيءٌ، وَمُفَارِقٌ لمخلوقاتِه، وَلا يمكنُ رؤيته في الدنيا، فإنَّه لا يوجدُ دليلٌ للإيمانِ بِه وَإثباتِ وجودِه إلا بها، وَكُلُّ مِنْ ينكرُ هذا فهو إمَّا جاهلٌ وإمَّا صاحبُ هوى يُنكِرُ ذلك لغايةٍ فِي نفسِه، كأنْ يكون مِنَ القائلين بوحدةِ الوجودِ، لأنَّ الذي لا يرى لا يمكنُ أنْ نشيرَ إليه بذاتِه، أوْ نستدل على وجودِه بنفسِه، فبما أنه لا يُرى وَلا يُحس، وَلا يُتذوق فلا يمكنُ أنْ يُشارَ إليه بنفسِه.

       وَلَا يستطيعُ فعلَ ذلكَ إلا هو بنفسِه، وَهوَسبحانه يستطيعُ أنْ يشيرَ إلى نفسِه بنفسِه، وَهذا أمرٌ منطقيٌّ ينطبقُ على كلِّ كائنٍ لا يُرى وَلا يُحس وَلا يُتذوق، وبما أنَّ اللهَ كذلكَ فلا يمكنُ للشبلي ولا لغيرِه منَ الصوفيةِ أنْ يشيرَ إلى اللهِ باللهِ، وَمنْ زعمَ منهم أنَّه فعلَ ذلك فهوَ إمَّا مغالطٌ كذابٌ، وإمَّا أنه مريضٌ مهلوسٌ مُلَبَّسٌ عليه، وَإمَّا أنَّه مدعٍ لوحدةِ الوجود، فيكون هنا هوَ اللهُ فيشيرُ إليه بنفسِه، وهذا هوَ الذي قالَه الشبلي وَأمثالُه.

       وَالقولُ الرابعُ: عرَّفَ الشبلي التصوفَ بأنَّه: (هوَ العصمةُ عَنْ رؤيةِ الكونِ)([5]).

وقولُه هذا مضمونُه القول بوحدةِ الوجودِ؛ لأنَّ الصوفيَّ - كغيرِه منَ الناسِ - لابدَّ أنْ يرى الكونَ ما دامَ حيًّا، إنْ لمْ يرَه بعينيه فإنَّه يحسُّ بِه بحواسِّه الأخرى، وَبما أنَّ الشبلي قالَ بأن التصوفَ غايتُه أنْ يجعلَ الصوفيَّ يتلاشى وَينمحي وَيفنى عنْ ذاتِه وَعن الخلقِ، حتى يصبحَ معصومًا عنْ رؤيةِ الكونِ، فهذا يعني أنَّ الكونَ عندَه أصبحَ هوَ اللهَ، وَاللهُ هوَ الكونَ، وَالصوفي هوَ اللهَ أيضًا؛ بحكمِ أنَّه مِنَ الكونِ الذي هوَ الله، وَهذا معنى قولِ الصوفيةِ: "لا موجودَ إلا الله"، فمقولةُ الشلبي الملغزةُ مضمونُها القول بوحدةِ الوجودِ، عبَّرَ عنها بطريقةٍ غير مباشرةٍ.

       وَالقولُ الخامسُ: مفادُه أنَّ الشبلي سُئِلَ عنْ الزهدِ؛ فقالَ: (الزهدُ غفلةٌ؛ لأنَّ الدنيا لا شيء، وَالزهدُ في لا شيء غفلةٌ)([6]).

وأقولُ: قولُه هذا مضمونُه القولُ بوحدةِ الوجودِ؛ لأنَّه لمْ يذم الدنيا وَلَا حَذَّرَ منْ مفاتنِها، وإنما أكدَ بصراحةٍ مرتين أنَّ: (الدنيا لا شيء، وَالزهدُ في لا شيء غفلةٌ).

وبما أنه أنكرَ أنْ يكونَ للدنيا وجودٌ حقيقيٌّ، وبما أنَّه كانَ يعيشُ فيها وَيراها أمامَه، فهذا يعني أنَّه كانَ يعتقدُ - كغيرِه مِنَ الصوفيةِ - أنَّ ما نراه مِنْ كائناتٍ في الدنيا هي مجردُ أشباحٍ وَرسومٍ دالةٍ على اللهِ وَتجليات له، ولا وجودَ حقيقيَّ لها، وَإنما هيَ اللهُ، وَلا موجودَ في الحقيقةِ إلا هو، وهذا هوَ القولُ بخرافةِ وحدةِ الوجودِ كما يعتقدُ الصوفيةُ.

       وَالقولُ السادسُ: سُئِلَ الشبلي عنْ التوكلِ فقالَ: (أنْ تكونَ للهِ كَمَا لمْ تَكُنْ، وَيكونَ اللهُ تعالى لكَ كَمَا لمْ يَزَلْ)([7]).

وَأقولُ: كلامُه هذا يشبهُ قولَ سهل التستري الذي ذكرناه فِي المجموعةِ الأولى، ويتضمنُ القولَ بوحدةِ الوجودِ؛ لأنَّ القومَ يأخذون منْ موردٍ واحدٍ، وَمفادُه أنَّ الشبلي نصَّ على أنَّ غايةَ التوكلِ مَعَ اللهِ هوَ أنَّه يمحي الصوفي وَيجعلُه يتلاشى ويفنى عنْ ذاتِه وَمحيطِه، كمَا كانَ قبلَ أنْ يظهرَ إلى الوجودِ، وَفِي هذه الحالةِ يستشعرُ الربوبيةَ وَالأزليةَ، وَيصبحُ هوَ اللهَ الذي لا موجودَ إلا هوَ منذُ الأزلِ، وبهذا يكونُ الكونُ هو الله، وَاللهُ هو الكون، حَسْبَ زعمِ الصوفيةِ.

وَالقولُ الأخيرُ – السابع -: قالَ رجلٌ للشلبي: (مَا لي أراكَ قَلِقًا؟! أليسَ هوَ معكَ وَأنتَ معه)؟! فقالَ الشبلي: (لوْ كنتُ أنَا معه فاتَنِي، وَلكنْ محو فيمَا هوَ)، فشرحَ السراجُ الطوسي كلامَه بقولِه: (ليسَ مني شيءٌ، وَلَا بِي شيءٌ، وَلَا عنِّي شيءٌ، وَالكُلُّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ)([8]).

وَأقولُ: كلامُ الشبلي وَشرحُ الطوسي له يحملُ معنى واحدًا، هوَ القولُ بوحدةِ الوجودِ، وَمفادُه أنَّ الشبلي نفى الفرقَ وَأثبتَ الجمعَ، فذكرَ أنَّه تلاشى وَانمحى عنْ ذاتِه وَمحيطِه، وَفنى فِي اللهِ فناءَ المحوِ وَالمحقِ فأصبحَ هوَ الله، فالكلُّ مِنْهُ، وَبِهِ، وَلَهُ، على حَدِّ تعبيرِ الطوسي.



([1]) حلية الأولياء، أبو نعيم، (10/372).

([2]) اللمع، السراج الطوسي، ص(478)، وتلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(414).

([3]) اللمع، السراج الطوسي، ص(478).

([4]) اللمع، السراج الطوسي، ص(478)، وتلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص(414).

([5]) الرسالة القشيرية، ص(127).

([6]) اللمع، السراج الطوسي، ص(73).

([7]) المصدر السابق، ص(79).

([8]) المصدر السابق، ص(431-432).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الفناءُ فِي اللهِ (وحدةُ الوجود) (5).doc doc
الفناءُ فِي اللهِ (وحدةُ الوجود) (5).pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى