التوكل على الله من أخلاق المؤمنين

التوكل على الله من أخلاق المؤمنين






الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ إن مقتضى الإيمان بالله تعالى أن يكون المؤمن ذا خلق، ولقد وجدنا أن الإسلام ربط بين الإيمان والأخلاق والسلوك بوجه عام، والسلوك والأخلاق بوجه خاص ربطًا لا انفصام فيه، ونجد ذلك في نصوص كثيرة يصعب حصرها. فلفظ الإيمان إذا أطلق في القرآن والسنة يراد به ما يراد بلفظ البر، وبلفظ التقوى، وبلفظ الدين، فكل ما يحبه الله يدخل في اسم الإيمان، وأصل الإيمان هو تصديق بالقلب وعمل القلب، وإذا كان هذا حال القلب تصديق وعمل سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لأن الظاهر تابع للباطن لازم له فمتى صلح الباطن صلح الظاهر وإذا فسد فسد[1]. والإيمان شعب كثيرة، فلفظ الإيمان يطلق على سلوك، وأخلاق ...إلخ.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة والحياة شعبة من الإيمان"[2]. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخية ما يحب لنفسه"[3]، وغيرها من الأحاديث كثير. وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 43، 44] وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
ولهذا كان المسلمون الأوائل إذا سمعوا بنزول أمر أو واجب سارعوا إليه وإذا نزل تحريم أمر انتهوا عنه فمن هنا نستطيع أن نعرف مدى إيمان المرء بمقدار ما يتحلى به من مكارم الأخلاق، فعندما يطالب القرآن أتباعه بالتوكل، بذكر وصف الإيمان، فهو إشارة إلى أن الإيمان يقتضي التوكل، إلى أن من يؤمن هو من يتوكل على الله لا على غيره.
والإيمان في القرآن الكريم يقترن كذلك بالعمل الصالح لفظًا أو معنى ويراد به الإذعان والتصديق. قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277]، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9]، فإيثار صيغة أمر الغائب وإسنادها إلى المؤمنين؛ لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهاني، للإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى والخير وازع عن الإخلال بهما[4].
فالتوكل على الله خلق تعبدي يصل بين المرء وربه فهذه العباة الخلقية هدفها وغايتها السمو الخلقي بالمؤمن، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11]، ونرى أن الله تعالى قد ربى في أنبيائه جميعهم بخاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين على الخلق الحسن، والعبادة الحقة له سبحانه، وأعطاهم على ذلك الجزاء وأوفاهم بالمثوبة وأخبرهم بها، وهكذا كان على المؤن أن يتحلى ويقتدي بأفعالهم حتى ينال الثواب، فقد حث سبحانه وتعالى في كثير من آياته الكريمة إلى التوكل بأسلوب المثوبة المادية، والمعنوية لتحقيق منهج لغرس هذا الخلق العظيم، فالتوكل على الله يسطع شعاعه على جوارح العبد المؤمن، وقلبه أشد ما يكون تألقًا في الشدائد المحرجة، فالإنسان عندها ينسلخ من أهوائه، ويتبرأ من أخطائه، ويقف في ساحة الله أوابًا، يرجو رحمته ونصرته.
قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 122، 123]، إن الأمر بالتوكل جعل شرطًا لكمال الإيمان، وجعله سبحانه وتعالى من السمات الأساسية للمؤمنين الصادقين لذلك فإن وصف الإيمان من دواعي التوكل وموجباته[5]، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11]
إن التوكل على الله تعالى متعلقه واسع جدًا، وشامل لكل ما يطلبه الخلق من أمور دينيه، ودنيوية، فالتوكل على الله تعالى داخل في أمور الحرب والقتال، وهذا ما دلت عليه آيتا آل عمرا، فعلى كل محارب، ومقاتل أن يلزم نفسه بالتوكل على الله والرضى بمقدوره إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ويطمئن بوعد الله تعالى ويثق به، فالمؤمن يتوكل على ربه أن ينصره على ظالمه وعدوه وهذا من مكارم أخلاق المؤمنين؛ لأن مواطن التوكل كثيرة، والتوكل مطلوب في كل شؤون الحياة، فطلب النصر والفرج من الله والتوكل عليه هذا موطن، وموطن آخر في الإعراض عن الأعداء، وليكن التوكل رفيقًا وصاحب درب، وإذا تكالب الأعداء ونصبوا شباكهم فالتوكل له هنا مكان، فليكن التوكل أيها المؤمن لك، وعليك ليكون الله لك في شؤونك كلها صغيرها وكبيرها.
وفي آية المائدة يأتي التوكل بعد ذكر التقوى، فهي آية الإيمان الصحيح والعقل السليم الذي يدفع إلى كل خلق كريم؛ لأن التقوى "عند أهل الحقيقة هي الاحتراز بطاعة الله عن عقوبته وهي صيانة للنفس عما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك"[6]، فمن هنا فالتقي هو من يتوكل على ربه، ويعرف المؤمن من ذلك أن من كان تقيًا متوكلًا هو الأقوى إيمانًا وحبًا لله، وهو الأحرى بمزيد فضله، وعظيم أجره سبحانه وتعالى، وبهذا كان التقي ملازمًا للآداب والأخلاق الشرعية وبجانب كل ما يبعده عن الله تعالى.
ومن المهم هنا أن نشير إلى ارتباط التوكل مرة بالإيمان، ومرة بالتقوى فلا يعتقد أحد أن الإيمان غير التقوى، فالإيمان فعل وعمل وإقرار[7]، والتقوى هي الإخلاص في العمل[8]، فكل مؤمن على هذا تقي وكل تقي مؤمن، فالمتوكل مؤمن تقي، لأن في عمله يقر ويصدق ويخلص في توكله على ربه سبحانه وتعالى، إن إقبال الأنبياء والرسل الكرام والمؤمنين على التوكل ديدنهم، وكذلك الدعاء الذي هو من مضامين التوكل سمتهم فالفتح والنصر كله بيد الله تعالى، فالدعاء منهجهم عليهم الصلاة والسلام بعد أن شعروا من أقوامهم الكبر والعصيان لعبودية الله وحده والخضوع لرب العالمين.
فبدون التوكل على الله لا تستطيع أمة ولا جماعة ولا فرد أن تحقق هدفًا يفرضه الإسلام او تتخلص من أوضاع ظالمة[9] مثلا الإغترار بالرضاء، والاستهزاء بالإنذار واستعجال العذاب، والطغيان والتهديد، وإيذاء المؤمنين.

الهوامش:
[1] انظر لشيخ الإسلام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (7/179- 186)
[2] البخاري مع فتح الباري لابن حجر، ح9، مسلم (35) (1/63) كتاب الإيمان، وعند مسلم بلفظ آخر هو (الإيمان بضع وسبعون شعبة).
[3] البخاري مع فتح الباري لابن حجر، ح13، (1/13) _1/13)، ومسلم (45) (1/67) كتاب الإيمان.
[4] انظر لأبي السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، (2/15)
[5] انظر للألوسي، روح المعاني، مج (3-4) (4/43) انظر لأبي السعود، المصدر السابق، (1/408)
[6] الجرحاني، التعريفات، ص 90
[7] انظر للكفوي، الكليات، معجم في المصطلحات والفروق الفردية، قابلة على نسخة خطية عدنان درويش ومحمد المصري، (بيروت، مؤسسة الرسالة، طبعة أولى 1412هـ)، 5مج، (3/213- 217)
[8] الجرحاني، التعريفات، ص90
[9] سعيد حوى، الأساس في التفسير، 12مج (القاهرة: دار السلام طبعة الثانية، 1409هـ) (5/2499).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التوكل على الله من أخلاق المؤمنين doc
التوكل على الله من أخلاق المؤمنين pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى