قاعدة كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود فهي بدعة

قاعدة كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود فهي بدعة







الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ هذه قاعدة عظيمة في تمييز البدعة، ذكرها العلامة الألباني في خاتمة كتابة: (أحكام الجنائز)[1]، ومثل لتلك القيود بقوله: "مثل المكان أو الزمان أو صفة أو عدد".
قلت: ومثل ذلك لو قيدت بغرض معين من أغراض الدين أو الدنيا لم يرد الشرع به؛ إذ العبد ليس له منصب التخصيص، بل ذلك إلى الشارع الحكيم، فمن فعله من العبيد فقد ضاهى الله في تشريعه، وذلك جور وظلم!
ولقد شرع الله لكثير من الأغراض صلوات معتبرة، كتخصيص ركعتين للتوبة، وركعتين للاستسقاء، وركعتين للاستخارة، وركعتين عند القدوم من السفر، وركعتي الطواف، ونحوها مما جاءت الشريعة به؛ وعليه فليس للعبد أن يقيس عليها فيشرع بهواه، ويخصص بمحض تقديره، فيكون ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، وهذا هو عين البدعة المتوعد صاحبها، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
"ووجه دخول الابتداع هنا: أن كل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من النوافق وأظهره، فهو سنة، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعًا.
ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها – ومن لا علم عنده – أنها سنة، وهذا فساد عظيم، لأن اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العمل بالسنة نحو من تبديل الشريعة، كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض، أو فيما ليس بفرض أنه فرض، ثم عمل على وفق اعتقاده فإنه فاسد، فهب العمل في الأصل صحيحًا، فإخراجه عن بابه اعتقادًا وعملًا من باب إفساد الأحكام الشرعية"[2].
لقد أكثر المولعون بالإحداث في الدين من تخصيص بعض الأغراض بصلوات معينة، إضافة إلى تقييد بعضها بأعداد وصفات متنوعة، هي من إملاءات الأهواء، والبعض منهم اغتر بما روي فيها من أحاديث؛ إما موضوعة أو ضعيفة.
ولا يغرنك استدلال بعضهم بالأحاديث الضعيفة لتقرير عبادة مبتدعة، اعتمادًا منهم على تساهل بعض العلماء في الاستدلال بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال؛ إذ ليس هذا موطنه، على تقدير صحته، وإليك البيان:
 
الاستدلال بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال
رد الشاطبي في كتابه (الاعتصام)[3] شبهة جواز إطلاق الاستدلال بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال بكلام ماتع! وننح ننقل ما ذكره ما ذكره من إيراد الشبهة وجوابه عليها بنصه؛ لما فيه من الفائدة:
"فإن قيل: هذا كله رد على الأئمة الذين اعتمدوا على الأحاديث التي لم تبلغ درجة الصحيح؛ فإنهم كما نصوا على اشتراط صحة الإسناد؛ كذلك نصوا أيضا على أن أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط في نقلها للاعتماد صحة الإسناد، بل إن كان ذلك؛ فبها ونعمت، وإلا؛ فلا حرج على من نقلها واستند إليها، فقد فعله الأئمة كـ مالك في الموطأ، وابن المبارك في " رقائقه "، وأحمد بن حنبل في " رقائقه "، وسفيان في " جامع الخير "، وغيرهم.
فكل ما في هذا النوع من المنقولات راجع إلى الترغيب والترهيب، وإذا جاز اعتماد مثله؛ جاز فيما كان نحوه مما يرجع إليه، كصلاة الرغائب، والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وليلة أول جمعة من رجب، وصلاة الإيمان، والأسبوع، وصلاة بر الوالدين، ويوم عاشوراء، وصيام رجب، والسابع وعشرين منه. . . . وما أشبه ذلك؛ فإن جميعها راجع إلى الترغيب في العمل الصالح، فالصلاة على الجملة ثابت أصلها، وكذلك الصيام وقيام الليل؛ كل ذلك راجع إلى خير نقلت فضيلته على الخصوص.
وإذا ثبت هذا؛ فكل ما نقلت فضيلته في الأحاديث؛ فهو من باب الترغيب، فلا يلزم فيه شهادة أهل الحديث بصحة الإسناد؛ بخلاف الأحكام.
فإذا؛ هذا الوجه من الاستدلال من طريق الراسخين لا من طريق الذين في قلوبهم زيغ، حيث فرقوا بين أحاديث الأحكام فاشترطوا فيها الصحة، وبين أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها ذلك.
فالجواب: أن ما ذكره علماء الحديث من التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم مع مسألتنا المفروضة، وبيانه: أن العمل المتكلم فيه إما أن يكون منصوصا على أصله جملة وتفصيلا، أو لا يكون منصوصا عليه لا جملة ولا تفصيلا، أو يكون منصوصا عليه جملة لا تفصيلا.
فالأول: لا إشكال في صحته؛ كالصلوات المفروضات، والنوافل المرتبة لأسباب وغير أسباب، وكالصيام المفروض أو المندوب على الوجه المعروف؛ إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غير زيادة ولا نقصان؛ كصيام عاشوراء، أو يوم عرفة، والوتر بعد نوافل الليل، وصلاة الكسوف.
فالنص جاء في هذه الأشياء صحيحا على ما شرطوا، فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والاستحباب، فإذا ورد في مثلها أحاديث ترغيب فيها أو تحذير من ترك الفرض منها، وليست بالغة مبلغ الصحة، ولا هي أيضا من الضعف بحيث لا يقبلها أحد أو كانت موضوعة لا يصح الاستشهاد بها؛ فلا بأس بذكرها، والتحذير بها والترغيب؛ بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح.
والثاني: ظاهر أنه غير صحيح، وهو عين البدعة؛ لأنه لا يرجع إلا لمجرد الرأي المبني على الهوى، وهو أبدع البدع وأفحشها؛ كالرهبانية المنفية عن الإسلام، والخصاء لمن خشي العنت، والتعبد بالقيام في الشمس، أو بالصمت من غير كلام أحد، فالترغيب في مثل هذا لا يصح، إذ لا يوجد في الشرع، ولا أصل له يرغب في مثله، أو يحذر من مخالفته.
والثالث: ربما يتوهم أنه كالأول، من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة في الجملة؛ فيسهل في التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة، فمطلق التنفل بالصلاة مشروع، فإذا جاء ترغيب في صلاة ليلة النصف من شعبان؛ فقد عضده أصل الترغيب في صلاة النافلة، وكذلك إذا ثبت أصل صيام؛ ثبت صيام السابع والعشرين من رجب. . . . وما أشبه ذلك.
وليس كما توهموا؛ لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم إثباته في التفصيل، فإذا ثبت مطلق الصلاة؛ لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص، وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام؛ لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك، حتى يثبت بالتفصيل بدليل صحيح، ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت بالدليل الصحيح.
وليس فيما ذكر في السؤال شيء من ذلك، إذ لا ملازمة بين ثبوت التنفل الليلي والنهاري في الجملة وبين قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة يقرأ في كل ركعة منها بسورة كذا على الخصوص كذا وكذا مرة، ومثله صيام اليوم الفلاني من الشهر الفلاني، حتى تصير تلك العبادة مقصودة على الخصوص، ليس في شيء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلاة أو الصيام.
والدليل على ذلك أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه على الخصوص؛ كما ثبت لعاشوراء ـ مثلا ـ أو لعرفة أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام، فإنه ثبت له مزية على الصيام في مطلق الأيام؛ فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها، بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية صيام النافلة؛ لأن مطلق المشروعية يقتضي أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف في الجملة، وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يكفر السنة التي قبله، فهو أمر زائد على مطلق المشروعية، ومساقه يفيد له مزية في الرتبة، وذلك راجع إلى الحكم.
فإذا؛ هذا الترغيب الخاص يقتضي مرتبة في نوع من المندوب خاصة، فلا بد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة؛ بناء على قولهم: " إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح "، والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لا بد فيها من الزيادة على المشروعات؛ كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية ما، فليلزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح، وهو ناقض لما أسسه العلماء.
ولا يقال: إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط؛ لأنا نقول: هذا تحكم من غير دليل، بل الأحكام خمسة، فكما لا يثبت الوجوب إلا بالصحيح؛ [فكذلك لا يثبت الندب والكراهة والإباحة إلا بالصحيح]، فإذا ثبت الحكم فاستسهل أن يثبت في أحاديث الترغيب والترهيب، ولا عليك.
فعلى كل تقدير: كل ما رغب فيه؛ إن ثبت حكمه ومرتبته في المشروعات من طريق صحيح؛ فالترغيب فيه بغير الصحيح مغتفر، وإن لم يثبت إلا من حديث الترغيب؛ فاشترط الصحة أبدا، وإلا؛ خرجت عن طريق القوم المعدودين في أهل الرسوخ، فلقد غلط في المكان جماعة ممن ينسب إلى الفقه، ويتخصص عن العوام بدعوى رتبة الخواص، وأصل هذا الغلط عدم فهم كلام المحدثين في الموضعين، وبالله التوفيق".
ومما تقدم يتبين أنه لا مجال للاستدلال بالأحاديث الضعيفة في إقرار ما سنذكره من صلوات بدعية، فضلًا عن أن تكون مثبتة بأحاديث موضوعة، أو أن تكون بلا دليل أصلًا!!

الهوامش:
[1] أحكام الجنائز، ص 242.
[2] من كلام الشاطبي في الاعتصام، 1/447، بتصرف يسير.
[3] الاعتصام، 1/289- 293.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
قاعدة كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود فهي بدعة doc
قاعدة كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود فهي بدعة pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى