هل يُعذر المبتدعة بجهلهم؟

هل يُعذر المبتدعة بجهلهم؟






الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ يستدلُ المبتدعةُ على أن أعمالَ الجهَّالِ من المبتدعةِ شركٌ وكفر، ولكنهم لا يعلمونَ أن ما يفعلونه شرك، بل لو عُرِضَ أحدُهم على السيف لم يقر بأنه شركٌ باللهِ تعالى ولا فاعلٌ لما هو شرك، بل لو علم أن ذلك شرك لم يفعله([1]).

الرد:

أولًا: إن الحكمَ بالكفرِ - والعياذ بالله - لا يُشتَرط فيه أن يعلم متلبسُه أنه كفر، فقد ذكر الشوكاني أنه تقررَ في بابِ الردةِ أنه لا يُعتبر في ثبوتِها العلمُ بأن ما فعلَه كُفرٌ، ثم قال: «وعلى كلِّ حالٍ فالواجبُ على من اطلعَ على شيءٍ من هذه الأمورِ الشركيات التي اتصفَ بها القبوريون أن يبلغهم الحجةُ الشرعيةُ، ويخبرهم بأن هذا هو عين ما يفعله المشركون في الجاهليةِ، فإذا علموا بهذا علمًا لا يبقى معه شكٌّ ولا شبهةٌ ثم أصروا على ما هم فيه، أخبرهم بأنهم إن لم يتوبوا فقد حلَّت دماؤهم وأموالُهم وانطبق عليهم حكمُ المشركين»([2]).

ثانيًا: والعلماءُ صرحُوا بأن كلمةَ الكفرِ إذا تكلَّم بها العبدُ عمدًا وإن كانت بغير الاعتقادِ – كفر - وممن صرَّح بذلك علماءُ الحنفيةِ، ففي أغلبِ كتبِهم في أبوابِ الردةِ نصوا على ذلك، وقالوا: لا يُعذرُ بالجهلِ، وقالوا: إن ذلك هو الأصح عندهم([3])، ومثلُ الحنفيةِ علماءُ المالكيةِ فقد صرَّحُوا بأن الجهلَ لا يُعذَر به عندهم([4])، وذهب إلى ذلك بعضُ علماءِ الشافعيةِ فيما إذا تهاون بعدم تعلُّمه([5]).

قال الإمام القرافي المالكي بعدَ أن ذكرَ الأدعيةَ المحرَّمةَ أو المكَفِّرة: «واعلم أن الجهل بما تؤدي إليه هذه الأدعيةُ ليس عذرًا عند اللهِ تعالى؛ لأن القاعدةَ الشرعيةَ دلَّت على أن كلَّ ما يمكن المكلفُ دفعه لا يكون حجةً للجاهلِ على اللهِ، فإن اللهَ تعالى بعثَ رسلَه إلى خلقِه برسالتِه وأوجبَ عليهم كافةً أن يعملوا بها، فالعلمُ والعملُ بها واجبان، فمن تركَ التعلمَ والعملَ وبقي جاهلًا فقد عصى معصيتين لتركه واجبين، وإن عَلِمَ ولم يَعْمَل فقد عصى معصيةً واحدةً بتركِ العمل.

وأما الجهلُ الذي يمكن رفعُه لاسيما مع طولِ الزمانِ واستمرارِ الأيامِ والذي لا يعلم اليوم يعلم في غد، ولا يلزم من تأخيرِ ما يتوقف على هذا العلمِ فسادٌ فلا يكون عذرًا لأحد؛ ولذلك ألحق مالكٌ الجاهلَ في العبادات بالعامدِ دونَ الناسي؛ لأنه جهلٌ يمكنه رفعُه فسقطَ اعتبارُه.

وكذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز حكايةً عن نوح صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود:47]، أي بجوازِ سؤالِه فاشترطَ العلمَ بالجوازِ قبلَ الإقدامِ على الدعاءِ، وهو يدلُّ على أن الأصلَ في الدعاءِ التحريم، إلا ما دلَّ الدليلُ على جوازه، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ يتخرَّجُ عليها كثيرٌ من الفروعِ الفقهيةِ»([6]).

هذا كلامُ القرافي المالكي وقد نقلَ بعض كلامه هذا ابنُ حجر الهيتمي الشافعي مُقَرِّرًا له([7]).

ثالثًا: ثم إن العلماء الذين أَعْذَرُوا بالجهلِ قيدوه بشرطِ عدم قيامِ الحجةِ، فأما إذا قامت الحجةُ الرساليةُ فلم يعذروه، كما أن الجاهلَ إذا كان مُعْرِضًا عن طلبِ الحقِّ ولا يُريدُ الحقَّ إذا تمكنَ منه فلا يُعْذَر، فقد ذكروا([8]) أن من الكفرِ كفرُ إعراضٍ، وكفرُ عنادٍ، وإنما الذي يُعذر من يريدُ الهدى ويؤْثِرُه ويحبُّه ولكنه غيرُ قادرٍ عليه، ولا على طلبِه؛ لعدم مُرْشِدٍ، وبعضُهم إنما أَعْذَرَ من المسائلِ الدقيقةِ الخفيةِ، وأما مثلُ هذه المسألةِ التي هي أصلُ الإسلامِ فلم يعذروا فيه بالجهل.

وقد تقدمت الإشارة إلى هذه المسألة.

رابعًا: ثم كون الجهلِ يُعْذَرُ به على القول به؛ لا يجعل الشركَ أمرًا جائزًا ومباحًا، ولا يبيح الدفاعَ عمَّن يفعلُ الشركَ ولا السكوت عن إنكارِه والرضا به، مثالُ ذلك لو أن رجلًا كان قريبَ عهدٍ بالإسلامِ وشربَ الخمرَ لجهلِه فهو معذورٌ، ولكن هذا لا يبيحُ لمن يراه أن يسكتَ عنه ولا أن ينكرَ على من ينكرُ عليه، كما أن هذا الشاربَ للخمرِ إذا عرفَ بتحريمِ الخمرِ في الإسلامِ ثم استمر؛ يكون عاصيًا، ومثلُ هذا ما نحن فيه، لا يصلح الاعتذارُ بمسألةِ الجهلِ عمن يدعو غيرَ اللهِ تعالى في ديارِ المسلمين، ويعيشُ بينهم، كما أنه لا يكون له عذرٌ بعد تعريفِه وإقامةِ الحجةِ عليه.

خامسًا: ثم إن العاقلَ ينبغي له الابتعادُ عن الشركِ وذرائعِه والاحتياطُ في ذلك حتى ولو كانت المسألةُ مختلفًا فيها، فإذا كان العلماءُ في المسائلِ الخلافيةِ في الفروع يأخذون بالأحوطِ، فكيف يكون الأمرُ في المسائلِ العقديةِ التي يدورُ الأمرُ فيها بين الخروجِ عن الملةِ والارتدادِ والخلودِ في النارِ، وإبانةِ الزوجةِ وعدم الإرثِ وغير ذلك، وبين كونه معصيةً لا تُخْرِجُ عن الإسلامِ؟! فالاحتياطُ فيها أوجب وأوكد بلا شك ولا ريب.



الهوامش

([1]) انظر في هذه الشبهة والجواب عنها: الدر النضيد: (23).

([2]) الدر النضيد: (34).

([3]) انظر الفتاوى البزازية: (3/347)، والبحر الرائق: (5/135)، والقتاوى الهندية: (2/376)، وجلاء العينين (ص:515).

([4]) انطر الشرح الصغير للدردير: (4/439)، وشرح عليش على مختصر خليل: (4/377).

([5]) انظر العلم الشامخ (ص:590)، وتنبيه الغبي: (23)، والعقد الثمين للفاسي: (2/176).

([6]) الفروق: (4/264-265)، واعترض عليه ابن الشاط في كون أصل الدعاء التحريم بأن الأصل في الدعاء الندب إلا ما دل الدليل على منعه. انظر البروق بهامش الفروق: (4/265).

([7]) الإعلام بقواطع الإسلام (ص:98).

([8]) طبقات المكلفين (ص:98-103)، وكشف الشبهتين (ص:85-89).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
هل يُعذر المبتدعة بجهلهم؟.pdf pdf
هل يُعذر المبتدعة بجهلهم؟.doc doc

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى