منهج الصحابة رضي الله عنهم في الرد على الشبهات

منهج الصحابة رضي الله عنهم في الرد على الشبهات





ردود عمر بن الخطاب رضي الله عنه

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ أما بعد:إن الصحابة رضي الله عنهم خريجوا المدرسة النبوية، علَّمهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعلم وربَّاهم بتربية كان يتلقَّاها من ربِّه من فوق السماوات السبع، فنشئوا وترعرعوا على التعليمات القرآنية والإرشادات النبوية المطهرة، فكانوا أفضل الناس وصفوة الأخيار، وخير القرون والأمم والأجيال.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضي الله عنهم: ((خيرُ الناسِ قرني، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم، ثم يجيءُ قومٌ تسبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه))([1])، فهم الذين آمنوا ولم يلبِسُوا إيمانَهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، بتزكية الله I لهم وثنائه عليهم.

ملتزمين في ذلك بمنهج القرآن والسنة، متمثلين قولَ الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

فمنهجهم رضي الله عنهم في الردِّ على الشبهات كان مشتقًّا ومنبثقًا من القرآن الكريم والسنة النبوية، وتأتي فيما يلي أمثلة من ردودهم:

 

ردود عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

1- الشبهة:

"الاهتمام باللباس النفيس وركوب المركب الراقي من أسباب العزة والتمكين والرفعة".

(أ) قَدِمَ عمرُ بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء، بشأن الصلح مع أهلها على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، قد طبق رجليه بين شعبي الرحل بلا ركاب، ووطاؤه كبشٌ من صوف، وهو فراشُه إذا نزلَ، وحقيبتُه محشوة ليفًا، وهي وسادتُه إذا نام، وعليه قميصٌ من كرابيس قد رسم وتخرق جيبه.

فلما نزل قال: ادعوا لي رأسَ القرية، فدعوه فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني قميصًا، فأُتي بقميص كتان، فقال: ما هذا ؟ فقيل كتان، فقال: فما الكتان ؟ فأخبروه، فنزع قميصه فغسلوه وخاطوه ثم لبسه،، فقال له الجلومس: أنت ملك العرب وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل، فلو لبست شيئًا غير هذا وركبت برذونًا([2]) لكان ذلك أعظم في أعين الروم.

الرد:

رد عمر رضي الله عنه بعد ما سماع مقولتهم قائلًا: (نحن قومٌ أعزنا اللهُ بالإسلامِ، فلا نطلبُ بغيرِ اللهِ بديلًا)، ثم سارَ عمرُ من الجابية إلى بيت المقدس، وقد تعبت دابتُه، فأتوه ببرذون فجعل يهملجُ به، فقال لمن معه: احبسوا، احبسوا، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علَّمَ اللهُ من علمك، هذا من الخيلاء، ما كنت أظنُّ الناسَ يركبونَ الشياطين، هاتوا جملي، ثم نزل وركب على الجمل، ثم لم يركب برذونًا قبله ولا بعده([3]).

(ب)- ولما قَدِمَ عمرُ رضي الله عنه الشامَ عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره ونزع مُوقيه فأمسكها بيد، وخاضَ الماءَ ومعه بعيرُه، فقال له أبو عبيدة: (قد صنعتَ اليومَ صنيعًا عظيمًا عند أهلِ الأرضِ، صنعتَ كذا وكذا، قال: فصكَّ في صدره وقال: أو لو غيرك يقولُها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذلَّ الناسِ وأحقرَ الناسِ، فأعزكم اللهُ بالإسلامِ فمهما تطلبوا العزةَ في غيرِه يذلكُم اللهُ)([4]).

فهذه الردود فيها حقائق تاريخية ودلالات حسية، بيَّن من خلالها عمرُ رضي الله عنه حال العرب قبل الإسلام، وأن العزة والتمكين والرفعة لم تحصل لهم عن طريق الكِبر والغطرسة أو الجاه والترفع، وإنما حصلت بالإسلام فحسب، حيث قال: (إنكم كنتم أذلَّ الناسِ، وأحقرَ الناسِ، وأقلَّ الناسِ، فأعزكُم اللهُ بالإسلامِ، فمهما تطلبوا العزةَ بغيرِه يذلكُمُ اللهُ)، وهذ دليلٌ حسيٌّ مُشَاهَدٌ ومعلوم.

(2)-الشبهة:

"جاء في القرآن: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، فإن كانت الجنة عرضها كعرض السموات والأرض، فأين النار التي يتحدث عنها القرآن وصاحب القرآن؟!".

رد عمر رضي الله عنه:

قال لهم عمرُ رضي الله عنه: (أرأيتم إذا جاء الليلُ أين النهار؟! و إذا جاءَ النهارُ أين الليل؟!)، وهذا ردٌّ عقلي مفحم، فكما إنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليلَ إذا جاء النهارُ أن لا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النهار حيث شاء اللهُ عز وجل.

ومعلوم أن النهار إذا تغشَّى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش، كما قال تعالى: {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]، والنار في أسفل سافلين، فلا ينافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار والله أعلم([5]).

(3)-الشبهة:

"إلزام الناس بكل ما أمر الله به في كتابه على الوجه الكامل، وعدم صدور السيئات منهم".

روى ابن جرير بسنده، عن ابن عون، عن الحسن البصري: (أن أناسًا سألوا عبدَ الله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياءَ من كتابِ اللهِ عز وجل أمرَ أن يُعمل بها فلا يُعمل بها، فأردنا أن نلقى أميرَ المؤمنين في ذلك، فقدم وقدموا معه .. فلقى عمرَ رضي الله عنه.

فقال: متى قَدِمْتَ؟

قال: منذ كذا وكذا.

قال: أَبِإِذْنٍ قَدِمْتَ؟

قال الحسن: فلا أدري كيف ردَّ عليه.

فقال: يا أميرَ المؤمنين، إن أناسًا لقوني بمصرَ، فقالوا: إنا نرى أشياء في كتابِ اللهِ أمرَ أن يُعمل بها فلا يُعمل بها، فأحبُوا أن يلقوك في ذلك.

رد عمر رضي الله عنه على الشبهة:

قال: فاجمعْهُم لي.

قال: فجمعتُهم له - قال ابن عون: في بهو - فأخذ أدناهم رجلًا فقال: أُنْشِدُكَ اللهَ وبحق الإسلام عليك؛ أقرأت القرآنَ كله؟!

قال: نعم.

قال: فهل أحصيتَه في نفسك؟ - يعني: هل استقصيت العمل به في صحيح نيتك وتطهير قلبك ومحاسبة نفسك؟

قال: لا - ولو قال نعم لخصمه - أي: لأفحمه وألزمه الحجة.

قال: فهل أحصيتَه في بصرِك؟ فهل أحصيتَه في لفظِك - أي كلامك -؟ فهل أحصيتَه في أثرك - أي خطواتك ومشيك -؟

ثم تتبعهم حتى أتى على آخرِهم وهو يسألُهم: هل استقصيتُم العملَ بكتابِ اللهِ كلَّه في أنفسِكم وجوارحِكم وأقوالِكم أوفعالِكم، حركاتِكم وسكناتِكم، وهم يجيبون: اللهمَّ لا.

فقال عمر: ثكلتْ عمرَ أمُّه، أتكلفونه أن يقيم الناسُ على كتابِ اللهِ - أي بالصورة التي تفهمونها أنتم، ولم تقيموها في أنفسكم باعترافكم - قد علم ربُنا أن ستكون لنا سيئات ... وتلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].

ثم قال: هل عَلِمَ أهلُ المدينة؟ أو قال: هل عَلِمَ أحدٌ بما قدمتم؟ - أي: يقصد عمر رضي الله عنه هل انتشرت الشبهةُ التي جئتُم بها بين الناسِ في المدينةِ -.

قالوا: لا.

قال: لو علموا لَوَعَّظْتُ بكم)([6]).

وهكذا أزالَ عمرُ رضي الله عنه الشبهةَ باستدلاله العقلي والحسي، حيث جعلهم يعترفون بالواقع الذي هم عليه، يعرفونه ويحسون به وهو مخالف لما يطلبونه، ثم جاء بدليل نقلي صريح الدلالة على بطلان الشبهة.

 

الهوامش

([1]) رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، فضائل أصحاب النبي r ورضي الله عنهم، (3651)، ورواه مسلم، (2533).

([2]) البروذن: الدابة، ويطلق على غير العربي من الخيل والبغال، انظر: القاموس المحيط، ص(1522)، والمعجم الوسيط: مادة برذن، (1/48)، ومختار الصحاص: مادة (برذن)، ص(18).

([3]) البداية والنهاية، ابن كثير، (7/57،59،60،135).

([4]) المرجع السابق، (7/60).

([5]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (1/554)، وحياة الصحابة، الشيخ محمد يوسف الكندهولي، (3/29).

([6]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (1/665،666).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
منهج الصحابة رضي الله عنهم في الرد على الشبهات2.doc doc
منهج الصحابة رضي الله عنهم في الرد على الشبهات2.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى