مفهوم اليقين في القرآن الكريم

مفهوم اليقين في القرآن الكريم




وردتْ مادة (يَقِنَ) في القرآن الكريم في عِشرين آية باشتقاقات مختلِفة، موزَّعة على أرْبعَ عشرةَ سورة([1])، وعند التأمُّل في هذه الآيات نجد أنَّ مفهوم (اليقين) يختلِف معناه باختلاف مظانِّه داخلَ النسق القرآني، ويُمكن تصفيفُ هذه المعاني كالتالي:
أ- اليقين: العِلم الجازم الذي لا يَقبل التشكيك؛ قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95]، وقال أيضًا: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51].
 فآيةُ الواقعة: جاءتْ تذييلًا لجميعِ ما اشتملتْ عليه السورةُ مِن المعاني المثبتة مِن (عظيمِ صفاتِه، وبديعِ صُنْعِه، وحِكْمتِه وعدلِه، وتبشيرِه النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه بمراتبَ من الشرفِ والسلامةِ، على مقادير درجاتِهم وإيمانِهم الجازم، وبنِعْمةِ النجاةِ مما يَصير إليه المشرِكون من سوءِ العاقبةِ)([2]).
وآية الحاقَّة: تحقيقٌ وتأكيد منه تعالى أنَّ هذا القرآن الكريم هو الحقُّ اليقين، الذي لاشكَّ فيه أنَّه من عند الله، لم يتقوَّلْه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، بل هو {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 43]، ليس بشِعْر ولا كَهَانة، و{إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48]، {وَإِنَّهُ لحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة: 50] المكذِّبين.
 2- اليقين: الموت؛ قال سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، يقوله تعالى ذِكْرُه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: (واعبُدْ ربَّك حتى يأتيكَ الموتُ، وهكذا قالَ مجاهدٌ، والحسنُ، وقتادة، وعبدُ الرحمن بن زَيْد بن أسلم، وغيرُه)([3]).
وفي الصحيح مِن حديثِ الزُّهريِّ، عن خارجةَ بن زَيْد بن ثابت: ((أنَّ أمَّ العلاء – امرأة من الأنصار - بايعتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أخبرتْه أنه اقتسم المهاجِرون قُرعةً، فطار لنا عثمانُ بن مظْعون، فأنْزلْناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي تُوفِّي فيه، فلمَّا تُوفِّي وغُسِّلَ وكُفِّنَ في أثوابه، دخَل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: رحمةُ اللهِ عليك أبا السائب، فشهادتي عليك: لقدْ أكْرَمَكَ اللهُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: وما يُدريكِ أنَّ اللهَ قَدْ أكرَمَه؟ فقلتُ: بأبي أنتَ يا رسولَ اللهِ، فمَن يُكْرِمْهُ اللهُ؟ فقال: أمَّا هوَ فقدْ جاءَه اليقينُ، واللهِ إني لأرجو لَه الخيرَ))([4]).
 والدليل على أنَّ اليقين في الآية هو الموت، قولُه تعالى إخبارًا عن أهْل النار أنَّهم قالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 43-47].
 والجمْع بيْن الآيتين حُجَّة على:
♦ أنَّ العبادة كالصلاة ونحوها واجبةٌ على الإنسان ما دام عاقلًا ثابتًا.
♦ تَخطِئة مَن ذَهَب من الملاحدة إلى أنَّ المراد باليقين المعرِفة، فمَتى وصلَ أحدُهم إلى المعرفةِ سقَطَ عنه التكليفُ عندهم، وهذا كُفْرٌ وضلالٌ وجهلٌ، فإنَّ الأنبياء - عليهم السلام - كانوا هم وأصحابهم أعلمَ الناسِ باللهِ، وأعرفَهم بحقوقِه وصفاتِه، وما يستحقُّ من التعظيمِ، وكانوا مع هذا أعبدَ الناسِ، وأكثرَ الناسِ عبادةً، ومواظبةً على فِعْل الخيرات إلى حين الوفاةِ)([5]).

 مراتب اليقين:

يقول الله تعالى في مُحكَم تنزيله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 1-8].
هذه السُّورةُ تحدَّثتْ عن انشغال الناس بمغريات الحياة وسفاسفها، وتَكالُبِهم على جمْع حُطام الدنيا ومغرياتها، (فيقولُ تعالى موبِّخًا إيَّاهم عن اشتغالِهم عما خُلِقوا له من عبادتِه وحْدَه لا شريكَ له، ومعرفته، والإنابة إليه، وتقديم محبَّته على كلِّ شيء: {أَلْهَاكُمُ} عن ذلك المذكورِ {التَّكَاثُرُ}، ولم يذْكرْ المتكاثَر بِه؛ ليشملَ ذلك كلَّ ما يَتكاثَرُ به المتكاثِرون، ويفتخرُ به المفتخِرون، من التكاثُرِ في الأموالِ والأولادِ، والأنصارِ والجنودِ، والخدمِ والجاه، وغيرِ ذلك مما يُقصدُ منه مُكاثَرةَ كلِّ واحدٍ للآخَر، وليس المقصود به الإخلاصَ للهِ تعالى.
فاستمرَّت غفلتكم ولهوتُكم {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، فانْكشفَ لكم حينئذٍ الغِطاء، ولكنْ بعد ما تعذَّرَ عليكم استِئْنافه، ودلَّ قولُه: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أنَّ البرزخَ دارٌ مقصودٌ منها النفوذُ إلى الدارِ الباقية؛ لأنَّ اللهَ سمَّاهم زائرين، ولم يُسمِّهم مقيمين.
فدلَّ ذلك على البعْثِ والجزاءِ بالأعمالِ في دارٍ باقيةٍ غير فانية، ولهذا توعَّدهم بقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}؛ أي: لو تعلمونَ ما أمامَكم عِلمًا يصلُ إلى القلوبِ؛ لَمَا ألهاكم التكاثُر، ولبادرتم إلى الأعمالِ الصالحةِ، ولكن عدم العِلْم الحقيقي، صيَّركم إلى ما ترون.
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}؛ أي: لتردنَّ القيامةَ، فلترونَّ الجحيمَ التي أعدَّها اللهُ للكافرين، {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}؛ أي: رؤية بصرية، كما قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53].
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} الذي تنعمْتُم به في دارِ الدنيا، هل قُمتُم بشُكْره، وأديتم حقَّ اللهِ فيه، ولم تستعينوا به على معاصيه، فيُنَعِّمُكُم نعيمًا أعْلى منه وأفضل؟! أمِ اغتررتم به، ولم تقوموا بشُكْرِه؟! بل ربَّما استعنتم به على معاصي اللهِ، فيعاقبكم على ذلك)([6]).

وفي السُّورة أيضًا ثلاثةُ درجات لليقين:
علم اليقين: وهو قَبول ما ظَهَر من الحق تعالى؛ مِن أوامره ونواهيه، وشَرْعه ودِينه الذي جاء على ألْسِنة رُسُله، فنتلقَّاه بالقَبول والإذْعان والانصياع لله جَلَّتْ قُدرتُه، وقَبول ما غاب من أمور المَعاد، والجنة والنار، وما قبلَ ذلك من بعْثٍ وصِراطٍ وميزانٍ وحسابٍ، وإثْباتِ الأسماء والصِّفات، فقَبول هذا كله هو عِلْم اليقين الذي لا يُخالِج القَلْبَ فيه ريبٌ ولا مِرْية، ولا تعطيلٌ أو نفي.
عين اليقين: ويُرَادُ به أنَّ المعارِف التي حصَلتْ سلفًا ترْتقي من درجة العِلْم الجازم بها، إلى دَرَجة النظر إليها بالأنظار، والكَشْف عنها بالأبصار، فتخرق بتلك المشاهدة سِتارَ العِلم، فيلامس هذا الأخيرُ القَلْبَ والبصرَ معًا.
حق اليقين: وهذه الدَّرجة تحصيلٌ لِمَا حصَل من العلم والمشاهدة.
 فالفَرْق بين مراتب اليقين كالفرق بيْن الخبر الصادِق والعِيان، وحق اليقين فوقَ هذا كله.
 وقد مثَّل ابنُ القيِّم لهذه المراتب الثلاث بقوله: (من أخبرَك أنَّ عنده عسلًا وأنتَ لا تشكُّ في صِدْقِه، ثم أراكَ إياه فازددتَ يقينًا، ثم ذُقتَ منه، فالأولُ علمُ اليقينِ، والثاني عينُ اليقينِ، والثالثُ حقُّ اليقينِ)([7]).
 فعِلْمُنا بالجنة والنار عِلْم اليقين، فإذا أُزْلِفتِ الجنة للمتقين، وشاهدَها الخلائق، وبُرِّزَت الجحيمُ للغاوين، وعايَنها الخلائقُ، فذلك عينُ اليقين، فإذا دخَل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، فذلك حينئذٍ حق اليقين، وهو ما كان عن ملابسة ومخالطة.
قال الشعراوي: (إنَّ اليقينَ هو تصديقُ الأمرِ تصديقًا مؤكدًا، بحيث لا يطفو إلى الذهن لِيُناقش من جديدٍ، بعد أن تكونَ قد علمتَه من مصادر تثقُ بصدقِ ما تَبلغك به.
أما عَيْنُ اليقين؛ فهي التي ترى الحدثَ فتتيقَّنه، أو هو أمرٌ حقيقيٌّ يدخلُ إلى قلبِك فَتُصدقُه، وهكذا يكونُ لليقينِ مراحل: أمرٌ تُصدِّقه تَصديقًا جازمًا فلا يطفو إلى الذهنِ لِيُناقَش من جديدٍ، وله مصادرُ عِلْمٍ مِمَّنْ تثقُ بصدقِه، أو: إجماعٌ من أناسٍ لا يجتمعون على الكذبِ أبدًا؛ وهذا هو "علم اليقين"؛ فإنْ رأيتَ الأمرَ بعينيك فهذا هو حقُّ اليقينِ)([8]).


الهوامش:
([1]) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد صدقي العطار، (حرف الياء)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 2010.
([2]) التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، (15/374).
([3]) تفسير الطبري، (17/12)، وتفسير ابن كثير، (4/553).
([4]) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميِّت بعد الموت إذا أُدرج في أكفانه.
([5]) تفسير ابن كثير، (4/554).
([6]) تفسير السعدي، (1/933)، مؤسسة الرسالة، ط 2000.
([7]) مدارج السالكين، ابن القيم، (2/129).
([8]) تفسير الشعراوي، ص(1885).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
مفهوم اليقين في القرآن الكريم doc
مفهوم اليقين في القرآن الكريم pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى