التوبة النصوح

التوبة النصوح





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ فقد قال قتادة - رحمه الله - في تعريفها بأنها: (التوبة الصادقة الناصحة)، وباقي الأقوال ترجع إليه وتتفق معه، بل كلها ترجع إليه لأنها شرحٌ له، فإذا اجتمعَ الصدقُ والنصحُ في شيءٍ؛ فقد اجتمعت فيه كلُّ صفات الحسن والكمال.

وفي حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، يقول كعب: (فواللهِ ما أعلمُ أحدًا أبلاه اللهُ في صدقِ الحديثِ أحسنَ مما أبلاني، ما تعمدتُ منذ ذكرتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا).

وأنزل اللهُ عزوجل على رسولِه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117-119].

فكان كعب ومن معه صدقوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حين اعترفوا بخطيئتِهم، وظلمِهم لأنفسهم، وصدقوا في توبتِهم وندمِهم وأخلصوا فتابَ اللهُ عليهم، وكانت توبتُهم مضربَ المثلِ.

وهكذا كانت توبة ماعز رضي الله عنه، الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (أصبتُ حدًّا فَأَقِمْهُ عليَّ ... طَهِرْنِي!!)، صدق في اعترافه على نفسه، وصدق في توبته وندمه، وقَدَّمَ نفسَه للعذاب في الدنيا لينجو من عذابِ اللهِ تعالى في الآخرةِ، وهو صادقٌ مُصَدِّقٌ بوعدِ اللهِ تعالى؛ فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أنه تابَ توبةً لو قُسِّمَتْ عَلَى أَهْلِ المَدِينةِ لَوَسِعَتْهُم))([1]).

وهكذا توبة الغامدية - رضي الله عنها - وغيرهم، كانت توبتُهم صادقةً خالصةً وكانت نصوحًا، نصحوا بها أنفسهم، ونصحوا غيرَهم للتوبة الصادقة، وهيجوا مشاعر المسلمين للتوبة والإنابة إلى اللهِ مثلهم.

وإذا كان من يقرأ هذا الروايات عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في توبة هؤلاء جمعيًا - الثلاثة الذين خُلِّفُوا وماعز والغامدية وغيرهم - يقشعرُ بدنُه، وتتهيجُ عواطفُه، وتسيلُ دمعتُه، وتتحركُ نفسُه، ويلينُ قلبُه؛ فيحن إلى أن يتوبَ توبتَهم، وينيبَ إنابَتَهم، ويتطهرَ طهورَهم، ويلحقَ بركبِهم!!

إذا كان هذا حالنا بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان، فكيف بالذين رأوهم وسمعوهم وعاصروهم، كيف كان وُجدهم؟! وكيف كان حالهم؟! وماذا ذرفوا من دمعهم؟! لقد كانوا أشد بها تأثرًا، وأكثر لها طلبًا، وأحرص منا على اتباعهم وتقليدهم فيها!!

لقد كانت توبتُهم صادقةً، ولأنها كانت توبة صادقة بقي ذكرُها، وكُتِبَ لها الخلود والبقاء، ونصحت الأمةَ على مَرِّ العصور والأجيال.

وقد جمع ابنُ القيم بين هذه المعاني المختلفة، واستخلص منها كيفية التوبة النصوح، فقال: (النصح في التوبةِ يتضمنُ ثلاثة أشياء:

الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها، بحيث لا تدعْ ذنبًا إلا تناولته.

الثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد، ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرًا بها.

الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادمة في إخلاصها، ووقوعها لمحضِ الخوف من الله وخشيته، والرغبة فيما لديه، والرهبة مما عنده، لا كمن يتوبُ لحفظِ جاهه وحرمته، ومنصبه ورياسته، ولحفظِ حاله، أو لحفظ قوتِه وماله، أو استدعاء حمدِ الناس، أو الهرب من ذمِّهم، أو لئلًا يتسلطَ عليه السفهاءُ، أو لقضاءِ نَهْمَتِه من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه، ونحو ذلك من العلل التي تقدحُ في صحتها وخلوصها للهِ عز وجل)([2]).

(فالأول: يتعلق بما يتوبُ منه، والثالث: يتعلقُ بمن يتوبُ إليه، والأوسط: يتعلقُ بذاتِ التائب ونفسه، فنصحُ التوبةِ الصدقُ فيها والإخلاصُ وتعميمُ الذنوب بها، ولاريب أن هذه التوبة تستلزمُ الاستغافرَ وتتضمنه، وتمحو جميعَ الذنوب، وهي أكمل ما يكون من التوبة)([3]).

وابنُ القيم في هذه الضوابط التي وضعها للتوبة النصوح، لا يختلفُ مع ما ذهبتُ إليه البتة، فإن هذه المعاني الثلاثة التي ذكرها كلها موجودة في قول قتادة - رحمه الله -: أنها (التوبة الصادقة الناصحة)، ولا تخرج عنه، أو تزيد عليه، ولكنه بيان لها وتفصيل لما تضمنته من المعاني، وهذا يبعث العزن، ويبث الهمة، لتحقيق ذلك المعنى في نفس كل تائب.

 

الهوامش:

([1]) رواه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، (1695).

([2]) مدارج السالكين، ابن القيم، (1/309-310).

([3]) التخريج السابق.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التوبة النصوح.doc doc
التوبة النصوح.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى