الحياةُ الطيبةُ منْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ على الفردِ

الحياةُ الطيبةُ منْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ على الفردِ





المؤمنُ الصالحُ يسيرُ على هدى مِنْ ربِّه سبحانه، فلا يضلُّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرةِ، وحياتُه في الدارين طيبةٌ لا ضنكَ فيها، وذلكَ لأنَّه في الحياةِ الدنيا مطمئنُ البالِ لا يضطربُ ولا يقلقُ، وقدْ استنارَ قلبُه بنورِ الإيمانِ ومحبةِ الرحمنِ، ولذلكَ يُبَشَّرُ في الآخرةِ بالرضوانِ، وأما الفاجرُ والكافرُ ففي شقاءٍ دائم.

وفي ذلكَ يقولُ تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 123-126].

وتأملْ قولَ الإمامِ ابنِ كثير - رحمهُ اللهُ - في تفسيرِه لهذه الآياتِ: (فإنَّ له معيشةً ضنكًا في الدنيا، فلا طمأنينةَ له ولا انشراحَ لصدرِه، بلْ صدرُه ضيقٌ حرجٌ لضلالِه، وإنْ تنعمَ ظاهرُه ولبسَ ما شاءَ وأكلَ ما شاءَ وسكنَ حيثُ شاءَ، فإنَّ قلبَه ما لم يخلصْ إلى اليقينِ والهدى فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشكٍّ، فلا يزالُ في ريبةٍ يترددُ، فهذا منْ ضنكِ المعيشةِ)([1]).

فمنْ دسَّى نفسَه وأهانَها استحقَّ الهوانَ والشقاءَ، ومنْ أقفلَ قلبَه عنْ نورِ الهدايةِ جوزي بظلمةِ القلبِ واضطرابِه وعذابِه، وأما أهلُ الإيمانِ، الذين عمرتْ قلوبُهم بالمحبةِ الصادقةِ لربِّهم، وزكتْ نفوسُهم، فهمْ أهلُ الفلاحِ والحياةِ الطيبةِ.

وتأملْ وعدَ اللهِ سبحانه وبشارتَه في ذلكَ: يقولُ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقدْ ذكرَ المفسرون أقوالًا عديدةً في معنى الحياةِ الطيبةِ الواردةِ في الآيةِ الكريمةِ، فقالوا: هيَ الرزقُ الحلالُ الطيبُ في الدنيا، أوْ القناعةُ والرضا ونحو ذلكَ([2]).

ولكنَّ الإمامَ ابنَ القيمِ - رحمهُ اللهُ - له وجَّهَ الأنظارَ إلى معنى أعمقٍ، فقالَ: (الصوابُ أنها حياةُ القلبِ ونعيمُه وبهجتُه وسرورُه بالإيمانِ، ومعرفةِ اللهِ ومحبتِه والإنابةِ إليه والتوكلِ عليه، فإنَّه لا حياة أطيب منْ حياةِ صاحبِها، ولا نعيم فوقَ نعيمِه إلا نعيم الجنةِ، كما كانَ بعضُ العارفين يقولُ: إنَّه لتمرُّ بي أوقاتٌ أقولٌ فيها: إنْ كانَ أهلُ الجنةِ في مثلِ هذا إنهم لفي عيشٍ طيبٍ.

وإذا كانتْ حياةُ القلبِ حياةً طيبةً تبعتْهُ حياةُ الجوارح، فإنَّه مَلِكُها، ولهذَا جعلَ اللهُ المعيشةَ الضنكَ لِمَنْ أعرضَ عَنْ ذكرِه، وهيَ عكسُ الحياةِ الطيبةِ)([3]).

والواقعُ أنَّ الحياةَ الطيبةَ لا تقتصرُ على حياةِ القلبِ، وإنْ كانَ ذلك أعظمَ مجالاتِها، لأنَّها تشتملُ أيضًا جوانبَ الحياةِ المختلفةَ، كمَا صَرَّحَتْ به الأدلةُ مِنَ الكتابِ والسنةِ.

وبذلكَ يمكنُ استعراضُ أبرزَ مجالاتِ الحياةِ الطيبةِ التي ينالها المتقون على النحو التالي:

1- حياةُ القلبِ وسرورُه ونعيمُه:

وهوَ الذي أبرزَه الامامُ ابنُ القيم في قولِه السابقِ، وتؤكدُه الآيةُ التي حَثَّ فيها اللهُ سبحانه عبادَه الأبرارَ على الفرحِ والسرورِ بما أكرمَهم به مِنْ هذا الدينِ وهذا الكتابِ المبينِ، الذي يهدي إلى سعادةِ الدارين، قالَ تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

فالإيمانُ والقرآنُ أَجَلُّ ما ينبغي أنْ يفرحَ بِه الإنسانُ، وأما أعراضُ الدنيا وأموالُها فليستْ موضعًا للفرحِ؛ لأنها عرضةٌ للآفاتِ والزوالِ، كما أنَّ التزامَ الدينِ الحقِّ يشرحُ الصدرَ ويبسطُ النفسَ، وفي ذلكَ يقولُ اللهُ تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].

2 - التوفيقُ والتسديدُ في الأعمالِ:

مِنَ المنحِ الربانيةِ لأهلِ الإيمانِ في الدنيا أنَّه يوفقُهم لِمَا فيه الخيرُ ويسددُ خُطَاهُم، ويجعلُ لهمْ مِنْ أمرِهم يسرًا، ويباركٌ لهمْ في جهودِهم وأعمالِهم حتَّى تثمرَ أعظمَ الثمراتِ.

وفي ذلكَ يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].

ويقولُ تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2-3].

وفي الحديثِ عنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))([4]).

فأولياءُ اللهِ الصالحون، الذين اتقوا واعتصموا بحبلِه المتينِ، يتولاهم اللهُ سبحانه في جميعِ أمورِهم بالحمايةِ والتأييدِ، ويسددُ خُطَاهُمْ وأعمالَهم التي يقومون بها بكلِّ عضوٍ مِنْ أعضائِهم وجوارِحهم، ولا يَرُدُّ لهم دعوةً وَلَا سؤالًا.

وأمَّا أهلُ الضلالِ الذين نسُوا نفوسَهم ودنسوها بالمعاصي فهمْ أهلُ الخيبةِ والخذلان، كما وصفَهُمْ اللهُ سبحانه: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10].

3 - كسبُ محبةِ العبادِ ونيلُ ثقتِهم:

منْ أبرز مجالاتِ الحياةِ الطيبةِ لأهلِ الإيمانِ أنهم يكسبون ثقةَ العبادِ ومحبتَهم وتقديرَهم وودَّهم، ومصداقُ ذلكَ قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، أي: حُبًّا في قلوبِ عبادِه([5]).

وروى مسلم عَنْ أبي هريرة - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: ((قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ.

وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ))([6]).

وقدْ بيَّنَ الإمامُ المناوي المرادَ مِنْ قولِه - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ)) فيقول: (أي يُحْدِثُ له في القلوبِ مودةً، ويزرعُ له فيها مهابةً، فتحبُّه القلوبُ وترضى عنه النفوسُ، مِنْ غيرِ توددٍ منه، ولا تعرضٍ للأسبابِ التي تكتسبُ لها موداتُ القلوبِ مِنْ قرابةٍ أوْ صداقةٍ أوْ اصطناعٍ، كمَا يقذفُ في قلوبِ أعدائِه الرعبَ والهيبةَ إعظامًا له وإجلالًا لمكانتِه)([7]).

وفي ذلكَ يقولُ التابعي الزاهدُ محمد بن واسع - رحمهُ اللهُ تعالى -: (إذا أقبلَ العبدُ بقلبِه على اللهِ؛ أقبلَ اللهُ بقلوبِ العبادِ عليه)([8])، فاللهُ سبحانه يُكرمُ عبادَه الصالحين بأنْ يجعلَ لهم في قلوبِ العبادِ محبةً ومهابةً.

وقدْ تحدثَ الإمامُ ابنُ القيم عنْ هذه المهابةِ فقالَ: (المهابةُ أثرٌ مِنْ آثارِ امتلاءِ القلبِ بعظمةِ اللهِ ومحبتِه وإجلالِه، فإذا امتلأَ القلبُ بذلكَ حَلَّ فيه النورُ، ونزلتْ عليه السكينةُ، وَأُلْبِسَ رداءَ الهيبةِ، فاكتسى وجهُه الحلاوةَ والمهابةَ، فأخذَ بمجامع القلوبِ محبةً ومهابةً، فَحَنَّتْ إليه الأفئدةُ، وَقَرَّتْ بِهِ العيونُ، وأنستْ بِهِ القلوبُ، فكلامُه نورٌ، ومدخلُه نورٌ، ومخرجُه نورٌ، وعلمُه نورٌ، وإنْ سَكَتَ علاه الوقارُ، وإنْ تكلمَ أخذَ بالقلوبِ والأسماعِ)([9]).

هذه هيَ المحبةُ الحقيقيةُ التي لا تتقلبُ بتقلبِ أحوالِ الدنيا ومصالحِها، وأما ما يتظاهرُ به بعضُ الناسِ عادةً مِنْ محبةٍ لأهلٍ الفجورِ والمعاصي فهي محبةُ منافع وأهواءٍ، توشكُ أنْ تنقلبَ إلى خصوماتٍ وبغضاء، ولا يمكنُ لها أنْ ترقى إلى كسبِ الثقةِ والمهابةِ وَالتوقيرِ.

الهوامش:


([1]) تفسير ابن كثير، (3/168).

([2]) ينظر: تفسير الطبري، (14/170-171)، وتفسير ابن كثير، (2/585).

([3]) مدارج السالكين، ابن القيم، (3/259).

([4]) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، (7/190).

([5]) ينظر: تفسير القرطبي، (11/160).

([6]) رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب اللهُ عبدًا حببته إلى عباده، (263).

([7]) فيض القدير في شرح الجامع الصغير، الإمام المناوي، (2/204).

([8]) سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي، (6/121).

([9]) الروح، الإمام ابن القيم، ص(235).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
الحياةُ الطيبةُ منْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ على الفردِ.doc doc
الحياةُ الطيبةُ منْ ثمراتِ تزكيةِ النفسِ على الفردِ.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى