فوائد الرجاء

فوائد الرجاء





الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد؛ إظهارُ العبوديةِ وَالفاقةِ وَالحاجةِ إلى ما يرجوه منْ ربِّه ويستشرفُه مِنْ إحسانِه، وَأنَّه لا يستغني عنْ فضلِه وَإحسانِه طرفةَ عين.

ومنها: أنه سبحانه يحبُّ مِنْ عبادِه أنْ يُؤمِّلُوه ويرجوه وَيسألوه منْ فضلِه؛ لأنَّه الملكُ الحقُّ الجوادُ، أجودُ منْ سُئِلَ، وأوسعُ منْ أعطى، وَأحبُّ ما إلى الجوادِ أن يُرجى ويُؤملَ ويُسألَ؛ وفي الحديثِ: ((مَنْ لَمْ يَسْأَل اللهَ يَغْضَب عليه))([1])، وَالسائلُ راجٍ وطالبٌ، فمنْ لمْ يرجُ اللهَ يغضبْ عليه، فهذه فائدةٌ أخرى منْ فوائد الرجاءِ، وهي التخلصُ به منْ غضبِ اللهِ.

وَمنها: أنَّ الرجاءَ حادٍ يحدو به في سيرِه إلى اللهِ، ويطيبُ له المسير ويحثُّه عليه، ويبعثُه على ملازمتِه، فلولا الرجاء لما سارَ أحدٌ، فإنَّ الخوفَ وحدَه لا يُحَرِّك العبدَ، وَإنما يحركُه الحبُّ، ويزعجُه الخوفُ، ويحدوه الرجاءُ.

ومنها: أنَّ الرجاءَ يطرحُه على عتبةِ المحبةِ، وَيلقيه في دهليزِها، فإنَّه كُلَّمَا اشتد رجاؤه وَحصلَ له ما يرجوه ازدادَ حبًّا للهِ تعالى، وَشُكرًا له، وَرضا به وعنه.

ومنها: أنَّه يبعثه على أعلى المقامات، وَهوَ مقامُ الشكرِ، الذي هو خلاصةُ العبوديةِ، فإنَّه إذا حصلَ له مرجوه كانَ أدعى لشكرِه.

وَمنها: أنَّه يُوجِبُ له المزيدَ مِنْ معرفةِ اللهِ وَأسمائِه وَمعانيها وَالتعلق بها؛ فإنَّ الراجي متعلقٌ بأسمائِه الحسنى، مُتعبدٌ بها، داعٍ بها؛ قالَ اللهُ تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، فلا ينبغي أنْ يُعَطَّلَ دعاؤه بأسمائِه الحسنى التي هي أعظمُ مَا يدعو بها الداعي.

فالقدحُ في مقامِ الرجاءِ تعطيلٌ لعبوديةِ هذه الأسماء، وَتعطيلٌ للدعاءِ بها، يقولُ العلامةُ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ - مقررًا تعلق الرجاءِ باسمِ المُحسن البَر، وَبالتالي فإنَّ التعبدَ بهذا الاسمِ للهِ عزَّ وجل وَالمعرفة باللهِ توجبُ للعبدِ الرجاءَ: (فذلكَ التعلقُ وَالتعبدُ بهذا الاسمِ وَالمعرفةُ باللهِ هوَ الذي أوجبَ للعبدِ الرجاءَ مِنْ حيثُ يدري أوْ لا يدري، فقوةُ الرجاءِ على حسبِ قوةِ المعرفةِ باللهِ وَأسمائِه وَصفاتِه وَغلبة رحمتِه غضبَه)([2]).

وَيقررُ فِي موطنٍ آخر أهميةَ تعلقِ الراجي بأسماءِ اللهِ الحسنى وَتعبده للهِ بها: (أنَّه يُوجِبُ له المزيدَ منْ معرفةِ اللهِ وَأسمائِه وَمعانيها، وَالتعلق بها، فإنَّ الراجي متعلقٌ بأسمائِه الحسنى مُتَعَبِّدٌ بها)([3]).

ومنها: أنَّ المحبةَ لا تنفكُ عن الرجاءِ - كمَا تقدمَ - فكلُّ واحدٍ منهما يمدُّ الآخرَ وَيقويه.

وَمنها: أنَّ الخوفَ مستلزمٌ للرجاءِ، وَالرجاءُ مستلزمٌ للخوفِ، فكلُّ راجٍ خائفٌ، وَكلُّ خائفٍ راجٍ، وَلأجلِ هذا حسن وقوع الرجاءِ فِي موضعٍ يحسنُ فيه وقوعُ الخوفِ؛ قَالَ اللهُ تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، قَالَ كثيرٌ منَ المفسرين: المعنى ما لكم لا تخافونَ للهِ عظمةً؟! قَالوا: وَالرجاءُ بمعنى الخوفِ.

وَالتحقيقُ أنَّه ملازمٌ له، فكلُّ راجٍ خائفٌ مِنْ فواتِ مرجوِّه، وَالخوفُ بلا رجاء يأسٌ وَقنوطٌ؛ قَالَ تعالى: {قُلْ للذين آمنوا يَغْفِرُوا للذين لا يَرْجُون أيامَ اللهِ} [الجاثية: 14]، قَالوا في تفسيرِها: لا يخافونَ وقائعَ اللهِ بهم، كوقائِعه بمنْ قبلَهم مِنَ الأممِ.

وَمنها: أنَّ العبدَ إذَا تعلَّقَ قلبُه برجاءِ ربِّه فأعطاه مَا رجاه؛ كانَ ذلكَ ألطفَ موقعًا وَأحلى عندَ العبدِ، وَأبلغَ منْ حصولِ مَا لم يرجُه، وَهذا أحدُ الأسبابِ، وَالحكمُ فِي جعلِ المؤمنين بينَ الرجاءِ وَالخوفِ في هذه الدارِ، فعلى قدرِ رجائِهم وَخوفِهم يكونُ فرحُهم في القيامةِ بحصولِ مرجوِّهم وَاندفاعِ مخوفِهم.

ومنها: أنَّ اللهَ I يريدُ منْ عبدِه تكميلَ مراتب عبوديتِه منَ الذلِّ وَالانكسارِ، وَالتوكلِ وَالاستعانةِ، وَالخوفِ وَالرجاءِ، وَالصبرِ وَالشكرِ، وَالرضا وَالإنابةِ وَغيرها؛ وَلهذا قَدَّرَ عليه الذنبَ وابتلاه بِه؛ لتكملَ مراتبُ عبوديتِه بالتوبةِ، التي هي منْ أحبِّ عبوديات عبدِه إليه، فكذلكَ تكميلُها بالرجاءِ وَالخوفِ.

ومنها: أنَّ في الرجاءِ مِنَ الانتظارِ وَالترقبِ وَالتوقعِ لفضلِ اللهِ، ما يُوجبُ تعلق القلبِ بذكرِه ودوام الالتفاتِ إليه بملاحظةِ أسمائِه وَصفاتِه، وَتنَقُّلِ القلبُ في رياضِها الأنيقةِ، وَأخذه بنصيبِه مِنْ كُلِّ اسمٍ وَصفةٍ - كمَا تقدَّمَ بيانُه -، فإذا فنى عنْ ذلكَ وَغابَ عنه؛ فاتَه حظُّه وَنصيبُه مِنْ معاني هذه الأسماءِ وَالصفاتِ.

إلى فوائد أخرى كثيرة، يُطَالِعُهَا مَنْ أَحْسَنَ تأمُّلَه وَتَفَكُّرَه في استخراجِها، وَبِاللهِ التوفيق([4]).



الهوامش:

([1]) رواه البخاري في الأدب المفرد، (654)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (2654).

([2]) مدارج السالكين، ابن القيم، (2/42).

([3]) المصدر السابق، (2/50).

([4]) مدارج السالكين، ابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة: الثالثة، 1416 هـ - 1996م، المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي، ص(2/52).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
فوائد الرجاء.doc doc
فوائد الرجاء.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى