التعجيلُ بالتوبةِ

التعجيلُ بالتوبةِ





الحمدُ للهِ وَالصلاةُ وَالسلامُ على رسولِ اللهِ وَآلِه وَصَحْبِه وَمَنْ وَالَاه وبعد.. أَكَّدَ العلماءُ أهميةَ التوبةِ وَفرضيتَها وَعدم جوازِ التراخي فيها؛ فقالَ الإمامُ النووي - رحمهُ اللهُ: (اتفقوا على أنَّ التوبةَ مِنْ جميعِ المعاصي واجبةٌ، وَأنها واجبةٌ على الفورِ لا يجوزُ تأخيرُها سواء كانتْ المعصيةُ صغيرةً أوْ كبيرةً، وَالتوبةُ منْ مهماتِ الإسلامِ وَقواعدِه المتأكدةِ)([1]).

وَقَالَ الإمامُ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ -: (الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ فَرْضٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا، فَمَتَى أَخَّرَهَا عَصَى بِالتَّأْخِيرِ، فَإِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ بَقِيَ عَلَيْهِ تَوْبَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ تَوْبَتُهُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، وَقَلَّ أَنْ تَخْطُرَ هَذِهِ بِبَالِ التَّائِبِ، ولا يُنجي مِنْ هذا إلا توبةٌ عامةٌ مما يعلمُ مِنْ ذنوبِه ومما لا يعلمُ)([2]).

وَقَدْ يتساهلُ العبدُ فِي الصغائر وَلَا يبادرُ إلى التوبةِ منها تهوينًا لشأنِها، وإذا بتلكَ الصغائر تجتمعُ الواحدةُ منها تلو الأخرى، وَلا يزالُ يهونُ عليه أمرُها حتى يصرَّ عليها فتكونَ سببًا في هلاكِه.

وَمِصداقُ ذلكَ ما رواه سهل بن سعد - رضيَ اللهُ عنه - قَالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وسلم -: ((إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ))([3]).

فإنْ كانَ معظمُ النارِ مِنْ متسصغرِ الشررِ، فإنَّ كثيرًا مِنَ الكبائر لا يصلُ إليها العبدُ حتى يتهاونَ في الصغائر وَلا يبالي بها، يغترُّ بأماني المغفرةِ، فتجتمعُ تلكَ الصغائرُ، كما تجتمعُ الأعوادُ لتأجيجِ النارِ، وَتكونُ العاقبةُ أنْ يستقلَّ العبدُ شأنَ المعصيةِ، وَيخفَّ تأثيرُها فِي نفسِه، فيسترسلَ فيها، وَيتجرأَ على ربِّه، حتى يكونَ تبعًا لهواه وَأسيرًا لنفسِه الأمارةِ وَعبدًا للشيطانِ.

وَقَدْ بَيَّنَ الإمامُ ابنُ القيم خطرَ التسويفِ في التوبةِ، وَالاتكالِ على أماني المغفرةِ؛ فقالَ - رحمهُ اللهُ -: (إنَّ العبدَ يعرفُ أَنَّ المعصيةَ وَالغفلةَ مِنَ الأسبابِ المُضرةِ له في دنياه وَآخرتِه، وَلكنْ تغالطُه نفسُه بالاتكالِ على عفوِ اللهِ وَمغفرتِه تارةً، وَبالتسويفِ بالتوبةِ وَالاستغفارِ باللسانِ تارةً.

وَكثيرٌ مِنَ الناسِ مَنْ يظنُّ أنَّه لوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ثُمَّ قَالَ: "أَسْتَغْفِرُ اللهَ" زالَ الذنبُ، وَراحَ هذا بهذا، وَهذا الضربُ مِنَ الناسِ قَدْ تعلقَ بنصوصٍ مِنَ الرجاءِ وَاتكلَ عليها، وَتعلقَ بكلتا يديه، وإذا عُوتِبَ على الخطايا وَالانهماكَ فيها سَرَدَ لكَ ما يحفظُه منْ سعةِ رحمةِ اللهِ وَمغفرتِه وَنصوصِ الرجاءِ)([4]).

ولاشكَّ أنَّ هؤلاء يُخادعون أنفسَهم، فالذي يحفظُ نصوصَ الرجاءِ وَالرحمةِ وَيتكلُ عليها وَينسى نصوصَ التخويفِ وَالوعيدِ الشديدِ للعصاةِ؛ فكأنَّه ينظرُ بعينٍ واحدةٍ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الرجاءِ وَالرحمةِ مقرونًا بالتخويفِ وَالوعيدِ في مواضعَ كثيرةٍ مِنَ القرآنِ الكريمِ؛ منها قولُه تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49-50].

وَقولُه سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].

فالعاقلُ الذي يحسنُ الظنَّ باللهِ وَيرجو رحمتَه ينبغي عليه أنْ يُحْسِنَ العملَ، وَإلَّا فحسنُ الظنِّ مع اتباعِ الهوى عجزٌ، وَمَن اعتمدَ على العفوِ معَ الإصرارِ على الذنبِ فهوَ كالمُعَانِدِ.

وَفِي هذا يقولُ الحسنُ البصري - رحمهُ اللهُ -: (إِنَّ قومًا أَلْهَتْهُم أماني المغفرةِ حتى خرجُوا مِنَ الدنيا بغيرِ توبةٍ، يقولُ أحدُهم: "لِأَنِّي أُحْسِنُ الظنَّ بربِّي"، وَكَذِبَ، لوْ أَحْسَنَ الظنَّ لأحسنَ العملَ)([5]).

حاجةُ الأبرارِ إلى التوبةِ وَالاستغفارِ:

أهلُ الطاعةِ محتاجون إلى التوبةِ كمَا يحتاجُ إليها أهلُ الذنوبِ، ومنْ ظنَّ منهم أنَّه ليسَ عنده ما يتوبُ منه، أوْ أنه مستغنٍ عن التوبةِ فقدْ زَلَّ، فالتوبةُ لازمةٌ للعبدِ مِنْ جهاتٍ عدة([6]):

1- مِنَ الخللِ الذي يقعُ فِي الطاعاتِ وَالتقصير فيها.

2- مِنَ التقصيرِ وَالتفريطِ فِي شكرِ النعمةِ التي لا تُعَدُّ وَلَا تُحصى، ومهما كانَ العبدُ طائعًا فلنْ يؤدي حقَّها.

3- مِنْ غَلَبِ الهوى وَالميلِ إلى ما ترتاحُ إليه النفسُ مِنَ الطاعاتِ تجنبًا لمشقةِ طاعاتٍ أخرى.

4- مما قَدْ يشوبُ العملَ مِنَ الرياءِ.

وَقَدْ ألمحَ إلى ذلك الإمامُ ابنُ تيمية - رحمهُ اللهُ - فقالَ: (العبدُ دائمًا بَيْنَ نعمةٍ مِنَ اللهِ يحتاجُ فيها إلى شكرٍ، وَذنبٍ يحتاجُ فيه إلى الاستغفارِ، وَكُلٌّ مِنْ هذين مِنَ الأمورِ اللازمةِ للعبدِ دائمًا، فإنَّه لا يزالُ يتقلبُ فِي نِعَمِ اللهِ وَآلائِه، وَلَا يزالُ محتاجًا إلى التوبةِ وَالاستغفارِ، وَلهذا كانَ سيدُ ولدِ آدم وَإمامُ المتقين محمدٌ - صلى اللهُ عليه وسلم - يستغفرُ في جميعِ الأحوال)([7]).

كمَا بَيَّنَ الإمامُ ابنُ القيمِ حاجةَ الطائعين إلى الاستغفارِ؛ فَقَالَ - رحمهُ اللهُ -: (الرضا بالطاعةِ مِنْ رعوناتِ النفسِ وَحماقتِها، وَأربابُ العزائمِ وَالبصائر أشدُّ مَا يكونون استغفارًا عقيبَ الطاعاتِ، لشهودِهم تقصيرهم فيها، وَترك القيامِ للهِ بها كمَا يليقُ بجلالِه وَكبريائِه)([8]).

 

الهوامش:

([1]) شرح صحيح مسلم، النووي، (17/59).

([2]) مدارج السالكين، ابن القيم، (1/272-273).

([3]) رواه أحمد في مسنده، (5/331)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، (10/193)، وقال: رجاله رجال الصحيح، كما صححه السيوطي في الجامع الصغير، انظر: فيض القدير، المناوي، (3/127).

([4]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، ص(20).

([5]) الجواب الكافي، ابن القيم، ص(26).

([6]) ينظر: الجانب العاطفي من الإسلام، محمد الغزالي، ص(189).

([7]) مجموع فتاوى ابن تيمية، (10/88).

([8]) مدارج السالكين، ابن القيم، (1/175).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
التعجيلُ بالتوبةِ.doc doc
التعجيلُ بالتوبةِ.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى