تزكية النفس والرهبانية

تزكية النفس والرهبانية



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ثم أما بعد؛ الرهبانية هي المبالغة في العبادة بالانقطاع عن الناس وترك الدنيا ولذاها من النساء وغير ذلك، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف، من رهب، كخشيان من خشي[1]، فالدافع إلى الرهبانية الخوف والخشية من الله سبحانه.

وقد ابتدع النصارى هذه الرهبانية بقصد التقرب إلى الله عز وجل فرفضوا الزواج بالنساء واتخذوا الصوامع، ولكنهم لم يحافظوا على مقتضياتها من ذكر وعبادة وعفة، وإنما أصبحت طقوسا وشعائر خالية من الروح.

وقد قل تعالى مخبرا عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].

ولا شك أن كل دعوة لا تستقيم مع فطرة الإنسان لا يمكن أن تستمر ولا بد لها من انحراف، والاسلام دين الفطرة، ومنهجه في تزكية النفس يعتمد على تقوييم الغرائز وتوجيهها وليس على الغالئها وكبتها، ولذلك شرع الزواج وحض عليه، وجعله وسيلة لها دورها الكبير في تزكية النفس وإصلاح المجتمع.

ولقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لشدة حرصهم على التزود للآخرة والمسارعة إلى الطاعات يعرضون عن الزواج ويشددون على أنفسهم في العباددة ظنا منهم أن ذلك أقرب للتقوى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يردهم إلى التوازن والوسطية، ويرشدهم إلى البعد عن هذه الرهبانية التي تخالف هدي الاسلام.

وتلك بعض النماذخ للمنهج النبوي في التحذير من الرهبانية:

1-روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال:" جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.

فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"[2].

والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الربهانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصيام، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لإعفاف النفس وتكثير النسل[3].

2- وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته فيسأله عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا مذ أتيناه[4].

فما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألقني بها، فلقيه بعد فقال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم، قال وكيف تختم؟ قال: كل ليلة.

قال: صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر.

قال: قلت أطيق أكثر من ذلك.

قال: صم ثلاث أيام في الجمعة، قلت أطيق أكثر من ذلك.

قال: أفطر يومين وصم يوما، قلت: أطيق أكثر من ذلك.

قال: صم أفضل الصوم صوم داود صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كلس سبع ليال مرة، فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك أني كبرت وضعفت"[5].

وفي رواية أخرى للبخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو:" يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله قال: فلا تفعل، صم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا"[6]، والزور هو الزائر.

وفي هذا الحديث بيان للمنهج الاسلامي القويم في تزكية النفس، وأن الانشغال بالصيام وتلاوة القرآن وغيرهما من العبادات لا يجوز أن يطغى على واجبات الرجل تجاه أسرته ومجتمعه وأن من قضى أيام في الصيام ولياليه في تلاوة القرآن وأعرض عن الزوجة والأهل فقد استوجب التنبيه والإرشاد ليعود إلى التوازن بين الإفراط والتفريط، وهذا التوازن ادعى لاستمرار العمل وعدم انقطاعه لأنه سهل ميسور، ولذلك أحس عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عندما كبر بثقل ما ألزم به نفسه، فقال:" فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

فالواجب على المسلم ألا يشغله حق عن حق آخر، وألا يشق على نفسه ويعتزل أهله وينشغل عنها بكثرة النوافل لأن القيام بحقها أعظم وألزم.

وروى الترمذي والنسائي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال:" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل" زاد بعض رواته:" وقرأ قتادة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]"[7].

والمقصود بالتبتل: التفرد والانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعا إلى عبادة الله وهو أمر لم يرضه الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد من أصحابه ولم يأذن له فيه، وإنما كان يحثهم على الزواج وتكثير النسل.

وقد يقصد بالتبتل ترك الانشغال بالدنيا وعدم تعلق القلب بها والإخلاص في التوجه إلى الله سبحانه وكمال محبته، وهو ما رود ذكره في قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8].

فالتبتل هنا لا يعني رفض الدينا وترك الاستمتاع بها، وإنما يعني عدم الانشغال بها عن ذكر الله وطاعته[8].

وقد تميز المنهج الإسلامي في تزكية النفس بأنه جعل الزواج بشروطه وآدابه الشرعية رافدا من روافد التزكية وعاملا أساسيا من عوامل تطهير النفس وتحصينها، ولم يعده عائقا في طريق التزكية، ولا مشغلا عنها، وذلك إن كانت الزوجة صالحة تعين زوجها على طاعة ربه.

ولكن بعض الصوفية نظروا إلى الزواج على أنه أمر دنيوي بحت، ومن أقدم عليه فقد ركن إلى الدنيا وشغل عن ربه عز وجل.

وقد صرح بذلك الإمام الغزالي فقال:" اعلم أن المريد في ابتداء أمره ينبغي أن لا يشغل نفسه بالتزويج، فإن ذلك شغل شغل يمنعه من السلوك ويستجره إلى الأنس بالزوجة، ومن أنس بغير الله شغل عن الله، ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا يشغل قلبه جميع ما في الدنيا عن الله تعالى.

ثم نقل عن أبي سليمان الداراني قوله:" من تزوج فقد ركن إلى الدنيا".

وقوله:" ما رأيت مريدا تزوج فثبت على حاله الأول".

وقيل له مرة: ما أحوجك إلى امرأة تأنس بها، فقال:" لا آنسني الله بها".

أي أن الأنس بها يمنع الأنس بالله تعالى"[9].

ولكن الإمام الغزالي لم يجعل تلك الدعوة إلى تأخير الزواج عامة للجميع، وإنما بين أن الذي لا يقدر على حفظ شهوته وغض بصره فالنكاح له أولى لتسكن الشهوة، لأنه إذا لم يحفظ عينه لم يحفظ فكره وربنا وقع في بلية لا يطيقها[10].

ثم حدد مقياسا لموقف المريد من الزواج فقال:" إن كل ما يشغل عن الله تعالى فهو نقصان، فلينظر المريد إلى حاله وقلبه، فإن وجده في العزوبة فهو الأقرب، وإن عجز عن ذلك فالنكاح أولى به، ودواء هذه العلة ثلاثة أمور: الجوع وغض البصر والاشتغال بشغل يستولي على القلب، فغن لم تنفع هذه الثلاثة فالنكاح هو الذي يستأصل مادتها فقط"[11].

ونلمح من هذا القول أن الأصل في المريد ألا يبادر إلى الزواج، وأن يجاهد نفسه لتسكين الشهوة دون أن يشغلها بالزواج، فإن لم يقدر على ذلك بادر إليه كعلاج لما هو فيه من تأجج الشهوة.

والواقع أن الزواج ليس علاجا وتخليلة للنفس عن الرذائل فحسب، وإنما هو عامل من عوامل تحلية النفس بالفضائل ووسيلة من وسائل المنهج الاسلامي في تزكية النفس وإصلاح المجتمع وتقوية الروابط فيه بإقامة الأسر المسلمة وتنشئة الأجيال الصالحة والفرق كبير بين أن يكون الزواج علاجا لا يأخذ به إلا من اشتدت حاجته إليه، وبين أن يكون سنة نبوية وهديا إسلاميا، ويستحب المسارعة إليه، وهذا ما صرحت به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما أسلفنا عند الحديث عن أهمية الزواج في تزكية النفس، وكما رأينا قبل صفحات من إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم عى من ترك الزواجبدعوى الانقطاع للعبادة، وقوله صلى الله عليه وسلم:" من رغب غن سنتي فليس مني"...

وعلى الرغم من هذا الموقف من الإمام الغزالي إلا أنه شنع على من يظن أن تزكية النفس لا تكون إلا بإماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية، وحذر من فعل الذين أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم حتى هلك بعضهم وفسد عقل بعضهم الآخر، ومرض بعضهم وانسد عليه الطريق في العبادة، وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا اصل له فوقع في الإلحاد، وعاد بعضهم إلى الشهوات، وسلكوا مسلك الإباحة، وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد فلا حاجة لعبادتهم!!

ثم عقب على ذلك ببيان موقف الاسلام وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية وإنما يقمع منا ما يخرج عن الشرع، ويبقى ملازما لمراقبة الشهوات حتى لا يجاوز حدود التقوى[12].

وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يحذر من التشدد في الدين وتكليف النفس المشاق والإرهاق، وفقول عليه الصلاة والسلام "هلك المتنطعون"[13]، أي المتشددون على أنفسهم في غير موضع التشدد.

ويقول أيضا:" إن هذا لادين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة"[14]

ومن أراد التشدد في الدين عجز عن ذلك ولم يبلغ مقصده كما أن المسافر إذا لم يسترح في الطريق الطويل قد ينقطع عن المسير.



الهوامش:

[1] ينظر: لسان العرب لابن منظور (1/437)، وروح المعاني للألوسي(27/190)، والاعتصام للشاطبي (1/288).

[2] رواه البخاري كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح (6/116)، ورواه مسلم مختصرا في النكاح رقم (1401).

[3] ينظر فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/105).

[4] لم يطأ لنا فراشا كناية عن جماعه لزوجته منذ أن تزوجها، ولم يفتش لنا كنفا كناية أخرى عن عدم الجماع، لأن الكنف هو الستر، فتح الباري(9/96).

[5] رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب  في كم يقرأ القرآن (6/113).

[6] رواه البخاري، كتاب الصوم، باب الجسم في الصوم، (2/245).

[7] رواه الترمذي في النكاح، باب ما جاء في النهي عن التبتل رقم (1082)، وقال حديث صحيح، والنسائي في النكاح، باب النهي عن التبتل (6/59).

[8] الاعتصام للشاطبي (1/338)، وتفسير الفخر الرازي(30/178).

[9] إحياء علوم الدين (3/101).

[10] إحياء علوم الدين (3/101).

[11] إحياء علوم الدين (3/104).

[12] إحياء علوم الدين(3/230).

[13] رواه مسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وظهور الفتن في آخر الزمان رقم (2670).

[14] رواه البخاري (39)، ومسلم (2186).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
تزكية النفس والرهبانية.doc doc
تزكية النفس والرهبانية.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى