الرئيسة - الاتباع دليل المحبة - اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء الوحيين
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء الوحيين

حقيقته، منزلته، مظاهره، عوائقه

بقلم: فيصل بن علي البعداني  

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم أحد أساسيات دين الإسلام ومسلماته، وقد تواترت النصوص الشرعية الصحيحة في بيانه، إلا أن ذلك لم يمنع انحراف طوائف من المسلمين عن سلوك الجادة فيه، حيث اضطربت فيه أفهام وزلت أقدام؛ مما جعل الحاجة لإيضاحه تعظم، والبيان يتوجب؛ ولذا فسأحاول في هذه الدراسة التعريج عليه لبيان بعض جوانبه، راجياً الله تعالى أن يوفق للخير ويصلح القصد.

الاتباع في اللغة:

مصدر اتبع الشيء إذا سار في أثره وتلاه، والكلمة تدور حول معاني اللحاق والتطلب والاقتفاء والاقتداء والتأسي.

يقال: اتبع القرآن: ائتم به وعمل بما فيه، واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم: اقتدى به واقتفى أثره وتأسى به.

الاتباع في الشرع:

هو الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاعتقادات والأقوال والأفعال والتروك، بعمل مثل عمله على الوجه الذي عمله صلى الله عليه وسلم؛ من إيجاب أو ندب أو إباحة أو كراهة، مع توفر القصد والإرادة في ذلك.

ويكون الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم في الاعتقادات: بأن يعتقد العبد ما اعتقده النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي اعتقده من ناحية الوجوب أو البدعية، أو لكونه من أسس الدين أو ناقضاً لأصله أو قادحاً لكماله... إلخ، من أجل أنه اعتقده صلى الله عليه وسلم، ويشمل الاعتقاد هنا: قول القلب وهو التصديق، وعمل القلب وهو الإخلاص والمحبة والتوكل والخوف والرجاء.. إلخ.

ويكون الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم في الأقوال: بامتثال مدلولها، وما جاءت به من معانٍ، لا أن تكرر ألفاظها وتردد نصوصها فحسب، فمثلاً: الاتباع لقوله صلى الله عليه وسلم: { صلوا كما رأيتموني أصلي } يكون بالصلاة كصلاته.

كما يكون الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم في الأفعال: بأن نفعل مثل فعله على الوجه الذي فعله من أجل أنه فعله.

فقولنا: ( مثل فعله ) لأنه لا تأسي مع اختلاف صورة الفعل وكيفيته.

وقولنا: ( على الوجه الذي فعله ) معناه: المشاركة في غرض ذلك الفعل ونيته؛ إخلاصاً، وتحديداً للفعل من حيث كونه واجباً أو مندوباً؛ لأنه لا تأسي مع اختلاف الغرض والنية وإن اتحدت صورة الفعل.

وقولنا: ( من أجل أنه فعله )  لأنه لو اتحدت الصورة والقصد ولم يكن المراد التأسي والاقتداء، فإنه لا يكون اتباعاً.

ويكون الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم في التروك: بأن نترك ما ترك على الصفة والوجه الذي ترك من أجل أنه ترك، وهي القيود نفسها في الاتباع في الأفعال.

والمراد باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم: اتباعه في كل ما جاء به من أوامر ونواهٍ في القرآن والسنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: { ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه }، { ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه}، قال عطاء: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: اتباع الكتاب والسنة.

المخالفة ضد الاتباع:

وتكون المخالفة في الاعتقاد والقول والفعل والترك، فأما المخالفة في الاعتقاد فتكون بأن يعتقد العبد خلاف ما اعتقده النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يُحِلّ إنسان ما عُلم بالضرورة تحريمه من دين الإسلام، أو يحرم ما علم بالضرورة حله من دين الإسلام، ومثل أن يبتدع في دين الله تعالى ما ليس منه؛ كالاحتفالات البدعية التي لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم، ومثل أن يعتقد أحد بأن المخالفين لشرع الله تعالى وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هم أولياء الله وأحباؤه.

والمخالفة في القول تكون بترك امتثال ما اقتضاه القول ودل عليه من وجوب أو حظر.

والمخالفة في الفعل تكون بالعدول عن فعل مثله مع كونه واجباً.

والمخالفة في الترك تكون بفعل ما ترك مع كونه محرماً. ولا تكون المخالفة في ترك المندوب وفعل المكروه؛ بل لا تكون إلا في ترك الواجب وفعل المحرم.

علاقة الاتباع بالزمان والمكان:

لا علاقة للزمان المخصص أو المكان المخصص بالفعل لمجرد وقوعه فيه إلا بدليل خارجي عن ذلك الفعل، فإن خصص المصطفى صلى الله عليه وسلم لنا بذلك الدليل الخارجي لذلك الفعل زماناً أو مكاناً خصصناه به؛ كتخصيص الطواف حول الكعبة، والاستلام بالحجر الأسود والركن اليماني -مع اختلاف في الصفة- والصيام الواجب بشهر رمضان، والوقوف بعرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة، وعيدي الفطر والأضحى بوقتهما المعروف، وأما ما فعله بحكم الاتفاق والمصادفة ولم يقصده لذاته -ولو تكرر ذلك- مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزل لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين على الأصوب بل مبتدعين، وقد ورد نهي الفاروق عمر رضي الله عنه في قوله الثابت: { إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً، فمن عرضت له الصلاة -أي: في موضع صلاته صلى الله عليه وسلم- فليصل أو فليمض }، وتؤكد هذا المعنى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: { نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج }، ولقد قرر كثير من أهل العلم هذا المعنى؛ كابن تيمية في الفتاوى، والآمدي في أحكامه حيث قال:... فلو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص فلا مدخل له في المتابعة والتأسي، وسواء تكرر أو لم يتكرر، إلا أن يدل الدليل على اختصاص العبادة به؛ كاختصاص الحج بعرفات، واختصاص الصلوات بأوقاتها، وصوم رمضان.

الأفعال النبوية من حيث الاتباع والتأسي:

تنقسم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من حيث الاتباع والتأسي إلى ثلاثة أقسام هي:

1- الأفعال الجبلية:

كالقيام والقعود والشرب والنوم وغير ذلك، وهي نوعان من جهة التأسي والاتباع:

أ- نوع جاء النص الخارج عن الفعل بإيجابه أو ندبه؛ كالأكل باليمين، والشرب ثلاثاً وقاعداً، والنوم على الشق الأيمن، فهذا يشرع التأسي والاقتداء به في ذلك.

ب- نوع لم يأت نص دال على مشروعيته، وهو باقٍ على الأصل من حيث الإباحة للجميع؛ وذلك لأن الأوصاف التي يطبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطالب برفعها ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها.

وهذا النوع محل خلاف بين أهل العلم في مشروعية التأسي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيه على جهة الندب على قولين:

القول الأول: أن التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا النوع مندوب، وقد كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل مثل ذلك، وإن كان قد فعله صلى الله عليه وسلم اتفاقاً ولم يقصده.

القول الثاني: أنه لا يشرع التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قول وفعل جمهور الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم الفاروق وعائشة رضي الله عنهما كما في كلامهما المتقدم.

ويلحق بالأفعال الجبلية: الأفعال التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العرف والعادة؛ كلبس الجبة والعمامة، وإطالة الشعر.. ونحو ذلك؛ إذ لا تدل على غير الإباحة إلا إذا ورد دليل على مشروعيتها.

2- الأفعال التي علم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم:

ذكر أهل العلم في باب خصائصه صلى الله عليه وسلم أموراً من المباحات والواجبات والمحرمات، بعضها متفق على حكمه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم، وبعضها الآخر فيه خلاف، فمن المباح له: الزيادة على أربع نسوة في النكاح، والنكاح بلا مهر، ونكاح الموهوبة، ومن الواجب عليه: وجوب التهجد وقيام الليل، ومن المحرم عليه: الأكل من الصدقة، وأكل ذي الرائحة الخبيثة كالثوم والبصل.

فهذه خصائص لا يشاركه فيها أحد، ولا يقتدى ويتأسى به فيها، قال الشوكاني: والحق أنه لا يقتدى به صلى الله عليه وسلم فيما صرح لنا بأنه خاص به كائناً ما كان، إلا بشرع يخصنا.

ويلحق بهذا ويرجع إليه: ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه دون بعض؛ كشهادة خزيمة، وأضحية أبي بردة، كما يلحق به ما خص به صلى الله عليه وسلم أهل بيته رضي الله عنهم؛ كالمنع من أكل الصدقة.

3- الأفعال التعبدية:

وهي الأفعال غير الجبلية وغير الخاصة التي يقصد بها التشريع، فهذه مطلوب الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم فيها، وهي الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...))[الأحزاب:21]^، إلا أن صفتها الشرعية تختلف من حيث الإيجاب أو الندب بحسب القرائن.

قواعد مهمة في الاتباع:

لتقرير ما سبق حول حقيقة الاتباع أذكر القواعد التالية:

1- مبنى دين الإسلام على الوحي والنقل الصحيح لا العقل والاستنباط، فما جاءنا من أمر ونهي في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب علينا قبوله والمبادرة إلى امتثاله فعلاً أو تركاً.

2- يتعين على المسلم البحث عن الحكم الشرعي والتثبت فيه قبل إتيان العمل في جميع شئون حياته، وتطبيق ذلك هو حقيقة الاتباع والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول الشاطبي حول ذلك: (كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل).

3- ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من جنس العبادات ولم يفعله مع وجود المقتضي لفعله على عهده صلى الله عليه وسلم، ففعله بدعة وتركه سنة؛ كالاحتفال بالمولد النبوي والإسراء والمعراج، والهجرة، ورأس السنة ونحوها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد }.

يقول الإمام مالك رحمه الله: { فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً }.

4- كل ما يحتاجه الناس في أصول الدين وفروعه، في أمور الدنيا والآخرة، من العبادات والمعاملات، في السلم أو الحرب، في السياسة أو الاقتصاد... إلخ. جاءت الشريعة ببيانه وإيضاحه؛ قال الله تعالى: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ))[النحل:89]^، وقال سبحانه: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً))[المائدة:3]^.

5- أن الاتباع لا يتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشرع في ستة أمور، هي:

أ- السبب: فإذا تعبد الإنسان لله تعالى بعبادة مقرونة بسبب غير شرعي فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثل إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب بالتهجد بحجة أنها ليلة الإسراء والمعراج، فالتهجد عبادة، لكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة؛ لكونه بني على سبب لم يثبت شرعاً.

ب- الجنس: فإذا تعبد الإنسان لله تعالى بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة؛ كالتضحية بفرس؛ لأن الأضاحي لا تكون إلا من جنس بهيمة الأنعام (الإبل، البقر، الغنم).

ج- القدر أو العدد: فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة أو ركعة في فريضة، فعمله ذلك بدعة مردودة؛ لأنها مخالفة للشرع في القدر أو العدد.

د- الكيفية: فلو نكس إنسان الوضوء أو الصلاة لما صح وضوؤه أو صلاته؛ لأن عمله مخالف للشرع في الكيفية.

هـ- الزمان: فلو ضحى إنسان في رجب أو وقف بعرفات في التاسع من ذي القعدة لما صح ذلك منه؛ لمخالفته للشرع في الزمان.

و- المكان: فلو اعتكف إنسان في منزله لا في المسجد، أو وقف بمزدلفة لا عرفات؛ لما صح ذلك منه؛ لمخالفته للشرع في المكان.

والأصل في العبادات بالنسبة للمكلف التعبد والامتثال دون الالتفات إلى الحِكَم والمعاني، وإن كانت ظاهرة في كثير منها، ولا يفهم من ذلك أن البحث عن الحِكَم والمعاني في العبادات التي دلت عليها القرائن ليس بمطلوب، كيف لا وقد ذكر الله تعالى شيئاً من ذلك مثل قوله: ((لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[البقرة:73]^.. ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))[البقرة:189]^.. ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))[البقرة:21]^، ولكن المراد: التحذير من التنطع في استخراجها، أو ربط القيام بالتنفيذ والعمل بمعرفتها، والأصل في العادات والمعاملات الالتفات إلى المعاني والبحث عن الحكم، وإن كانت قد لا تظهر في أشياء منها.

6- المشقة ليست مقصودة في الشريعة، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للشيخ الذي نذر أن يمشي وكان يهادى بين ابنيه: { إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب }  قال العز ابن عبد السلام مقرراً ذلك: (لا يصح التقرب بالمشاق؛ لأن القرب كلها تعظيم للرب (سبحانه وتعالى)، وليس عين المشاق تعظيماً ولا توقيراً).

منزلة الاتباع في الشريعة:

للاتباع منزلة عظيمة في الشريعة الإسلامية، ويتضح ذلك من خلال النقاط التالية:

1- الاتباع شرط لقبول العبادات:

لا قبول لعمل من الأعمال العبادية إلا بالاتباع والموافقة لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل إن الأعمال التي تعمل بلا اتباع وتأسّ لا تزيد عاملها من الله إلا بعداً؛ وذلك لأن الله تعالى إنما يعبد بأمره الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم لا بالآراء والأهواء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد }، قال الحسن البصري: (لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة).

2- الاتباع أحد أصلي الإسلام الأساسين:

الإخلاص وإفراد الله بالعبادة هو حقيقة إيمان العبد وشهادته بأن لا إله إلا الله، والاتباع والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو حقيقة إيمان العبد وشهادته بأن محمداً رسول الله، فلا يتحقق إسلام عبد ولا يقبل منه قول ولا عمل ولا اعتقاد إلا إذا حقق هذين الأصلين (الإخلاص والاتباع) وأتى بمقتضاهما؛ قال الله تعالى: ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً))[الكهف:110]، يقول ابن تيمية: (وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان. أحدهما: ألا نعبد إلا الله، والثاني: ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة، وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، ويقول ابن القيم: (فلا يكون العبد متحققاً بـ(إياك نعبد) إلا بأصلين عظيمين: أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني: الإخلاص للمعبود).

3- الاتباع سبب لدخول الجنة:

ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: { كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى }  وقال الزهري رحمه الله تعالى: (الاعتصام بالسنة نجاة).

4- الاتباع دليل محبة الله تعالى:

ويدل لذلك قول الله تعالى: ((قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))[آل عمران:31]؛ يقول ابن كثير: (هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين المحمدي في جميع أقواله وأفعاله).

5- الاتباع طريق تحصيل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة:

 أوجب الله تعالى على عباده محبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديم ذلك على محبة النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين؛ كما في الحديث: { لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين } ، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين قال: { يا رسول الله! لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي. فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر }.

ولا سبيل لتحصيل تلك المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتحقيقها إلا عن طريق الاتباع والحرص على الكمال فيه؛ يقول الخطابي حول هذا المعنى: (لم يرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار؛ لأن حب الإنسان لنفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه، قال: فمعناه: لا تصدق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسك وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك).

6- الاتباع سبيل امتثال الأوامر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتجنب الوعيد المترتب على ذلك:

أمر الله عباده بطاعة نبيه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ))[النساء:59]^، ورتب الوعيد الشديد على مخالفته، كما في قوله تعالى: ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ))[آل عمران:32].

ولا سبيل للعبد إلى امتثال تلك الأوامر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستجابة له وتجنب الوعيد الشديد على ذلك دنيا وآخرة، إلا بالاتباع والتأسي.

7- الاتباع من صفات المؤمنين اللازمة لهم:

ويدل لذلك قوله تعالى: ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ))[النور:52]، وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن أعرض عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرض بحكمه؛ قال الله تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65].

8- الاتباع علامة من علامات التقوى:

اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من علامات ودلائل تقوى القلب وصحة إيمانه؛ قال الله تعالى: ((ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ))[الحج:32]، وشعائر الله: أوامره وأعلام دينه الظاهرة، ومن أبرزها وأعلاها طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه.

من مظاهر الاتباع:

للاتباع مظاهر كثيرة من أهمها وأبرزها:

1- تعظيم النصوص الشرعية:

 ويكون تعظيم النصوص الشرعية بتقديرها وإجلالها، وتقديمها وعدم هجرها، واعتقاد أن الهدى فيها لا في غيرها، وتعلمها وفهمها وتدبرها والعمل بها والتحاكم إليها وعدم معارضتها، وقد كان هذا هو هدي أئمة الاتباع وسادته من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، وحدث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها، فقال أحد بنيه: إذن والله أمنعها، فأقبل عليه ابن عمر فشتمه شتمة لم يشتمها أحداً قبله قط، ثم قال: أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: إذن والله أمنعها }.

وحدث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: قال فلان وفلان كذا، فقال ابن سيرين: (أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: قال فلان وفلان كذا وكذا؟! والله لا أكلمك أبداً).

2- الخوف من الزيغ والانحراف عن الحق:

وقد كان ذلك واضحاً جليّاً لدى الصحابة رضوان الله عليهم؛ بل إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها -أبا بكر الصديق- كان يقول: (لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ)، وقد عقب ابن بطة على كلمة الصديق تلك فقال: (هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه من الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وأوامره، ويتباهون بمخالفته، ويسخرون بسنته؟! نسأل الله عصمةً من الزلل، ونجاةً من سوء العمل).

3- الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به ظاهراً وباطناً:

بحيث يجرد العبد متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكتفي بالتلقي عنه؛ فلا اعتقاد ولا عبادة ولا معاملة ولا خلق ولا أدب ولا نظام اجتماعي ولا اقتصادي أو سياسي.. إلخ، إلا عن طريقه وعلى وفق ما جاء به من أحكام وتعاليم في الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، بحيث تكون شريعته هي المهيمنة والرائدة.

4- تحكيم العبد للشرع وتحاكمه إليه:

 بحيث يُحَكّم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة ويتحاكم إليهما، ويجعل ذلك هو الميزان الذي يزن بواسطته الأقوال والأفعال والأحكام، فما وافقه قبله وعمل بما فيه، وما خالفه رده وإن قاله من قاله؛ قال الله تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ))[النساء:65]، وتحكيم العبد وتحاكمه إلى الشريعة وحرصه على أن تكون جميع شئونه خاضعة لها هو السمة البارزة والعلامة الفارقة بين المسلم الحريص على الاتباع للحق وبين من اتبع هواه بغير هدى من الله فضل وأضل، سواء أسمّي ذلك الهوى عقلاً أو ذوقاً أو مصلحة أو إماماً أو حزباً أو نظاماً.. إلخ.

5- الرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه:

عن العباس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً }.

فإذا رضي المسلم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً ورسولاً: لم يلتفت إلى غير هديه، ولم يعول في سلوكه على غير سنته، وحَكّمَه وحاكم إليه، وقبل حكمه وانقاد له وتابعه واتّبَعَه، ورضي بكل ما جاء به من عند ربه، فيسكن قلبه لذلك، وتطمئن نفسه، وينشرح صدره، ويرى نعمة الله عليه وعلى الخلق بهذا النبي صلى الله عليه وسلم وبدينه أيما نعمة، فيفرح بفضل ربه عليه ورحمته له بذلك؛ حيث جعله من أتباع خير المرسلين وحزبه المفلحين؛ قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ))[يونس:57، 58]، والرضا كلمة تجمع القبول والانقياد؛ فلا يكون الرضا إلا حيث يكون التسليم المطلق والانقياد الكامل ظاهراً وباطناً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.