المولد النبوي بين البدعة والسياسة

بقلم : رأفت صلاح الدين

     عندما تمسكت الأمة الإسلامية  بسنة النبي وخلفائه الراشدين، حكمت العالم وسادت، وتمكنت من ملك كسرى وقيصر، أما عندما تنكبت طريق الهداية وخالفت سنة نبيها  ، كان الجهل والهزيمة نصيبها، وانتشرت البدع والخرافات، واستطاع أعداء الإسلام أن ينفذوا من خلال ذلك، ومن أبرز البدع التى ظهرت فى واقع المسلمين واستغلها هؤلاء- بدعة الاحتفال بالمولد النبوى، وتمكنوا عن طريقها من رقاب المسلمين، لذا لا قيام للأمة مرة أخرى الا بنبذ البدع، وتفويت الفرصة على الأعداء .

    لذا نحاول فى هذه الورقات أن نتتبع تاريخ هذه البدعة والقائمين عليها، لنعرف من المستفيد منها، وكيف استغلها للنفاذ من خلالها لهدم أركان الدين . 

 

أول ظهور هذه البدعة :

    اتفق المحققون أن أول من احتفل بهذه البدعة هم العبيديون المنتسبون زوراَ وبهتانا لفاطمة رضي الله عنها، وذلك فى سنة 361هـ على يد المعز لدين الله(1)، و ينسبون أنفسهم إلى ولد عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-، وهم في الحقيقة من المؤسسين لدعوة الباطنية، فجدهم هو ابن ديصان المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وكان من الأهواز وأحد مؤسسي مذهب الباطنية، وذلك بالعراق، ثم رحل إلى المغرب، وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب، وزعم أنه من نسله، فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرافضة، ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فقبلوا ذلك منه، مع أن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق مات ولم يعقب ذرية، وممن تبعه: حمدان قرمط، وإليه تنسب القرامطة، ثم لما تمادت بهم الأيام، ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح، فغيَّر اسمه ونسبه وقال لأتباعه: أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق فظهرت فتنته بالمغرب. ودولة العبيديين قامت سنة 298هـ وقد مهد لقيامها داعية إسماعيلي يدعى أبو عبد الله الشيعي وحشد لنصرتها قبيلة (كتامة).

     قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ عن تلك الدولة العبيدية : ( ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد ). ثم ذكر فتوى علماء القرن الخامس عن حكام تلك الدولة، والتي جاء فيها : ( أن هؤلاء أدعياء خوارج ولا نسب لهم في ولد علي ابن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ، ولا يتعلقون بسبب، وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين، وأن هذا الحاكم بأمر الله وسلفه كفار فساق فجار ملحدون، زنادقه معطلون، وللإسلام جاحدون. ا.هـ(2).

     والدليل على أنهم أول من ابتدع هذه البدعة [انظر المقريزي في خططه (1/490) والقلقشندي في صبح الأعشى (3/498) والسندوبي في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي(69) ومحمد بخيت في أحسن الكلام (44) وعلي فكري في محاضراته(84) وعلي محفوظ في الإبداع(126)]. وليس هو الملك المظفر صاحب إربل كما يشيعه البعض لأن هذا أخذ هذه البدعة من الشيخ عمر الملا من كبار المبتدعة الصوفية وهو أخذها من العبيديين... وقد نقلها العبيديون إلى الحجاز عندما احتلوه فأشاعوه بين العامة هناك، ومن ذلك الوقت وهو يقام في الحجاز على أنه سنة حسنة،  ودليل على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ولنيل البركة... فهم يحتفلون فيه احتفالاً صاخباً، ويوزع فيه الحلوى والكعك، وتوزع هذه الحلوى على المشاهد والقراء والفقراء، ثم تقرأ الحضرة بحضرة الوالي، وتوزع الأموال، ثم يخطب فيهم الخطيب إلى أن يصل إلى ذكر النبي فيقول: وإن هذا يوم مولده إلى ما من الله به على ملة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم ينصرف الوالي وينصرف الناس(3).

      وتتابعت في دولتهم احتفالات أخرى اخترعوها لم تكن من قبل في الإسلام كالاحتفال بالهجرة، ورأس السنة الهجرية، وليلة الإسراء والمعراج، وغيرها كثير. وظلت هذه الموالد عند بني عبيد في مصر وبعض الشام، إلى أن انتهت دولتهم، وورثها من كانوا بعدهم، ولا يعرفها بقية المسلمين في شتى البقاع، بل أنكروها ولم يقبلوها تكملة القرن الرابع وطيلة القرنين الخامس والسادس؛ إذ انتقلت عدوى هذه الاحتفالات في أوائل القرن السابع من مصر إلى أهل إربل في العراق، نقلها شيخ صوفي يدعى عمر بن محمد الملا، وأقنع بها ملك إربل في العراق أبا سعيد كوكبري، ثم انتشرت بعد ذلك في سائر بلدان المسلمين، بسبب الجهل والتقليد الأعمى، حتى وصلت إلى ما نشاهده في العصر الحاضر من مظاهر احتفالية كبيرة ومتنوعة في سائر أرجاء العالم الإسلامي. إذًا كان الهدف الرئيس من إحداث هذه الموالد هدفًا سياسيًا لتثبيت حكم بني عبيد، ولم يكن لمحبة النبي { ولا لمحبة آل بيته فيه أي نصيب {(4) .

 

طقوس الاحتفال بالمولد:

     مع مرور الزمن بدأت تقنن هذه الطقوس حتى وصلت إلينا مظاهر متكاملة، تشمل الأمور العبادية – طبعا المبتدعة – كما تشمل الدنيوية من أكل وشرب ولهو...إلخ، ولنرجع إلى الوراء عدة قرون لنرى مظاهر الاحتفال فى بعض الأزمنة :

     يقول ابن خلكان  } 608 - 681{ هـ : فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات (طبقات القباب) حتى رتبوا فيها جوقاً. وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم... فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان... فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة. اهـ(5 ).

     ويقول الحافظ ابن كثير } 700 - 774{ هـ  في ترجمة أبي سعيد كوكبوري: ( وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً... إلى أن قال: قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى ... إلى أن قال: ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم ) اهـ(6 ).

     وتستمر الموالد على هذه الوتيرة في الحجاز فنرى مثلاً في العهد العثماني أن إقامة المولد مشابهة لما كان يفعل في عهد العبيديين؛ فإنه يعمل في المدينة بعد طلوع الشمس صبيحة الثاني عشر من ربيع الأول يقوم به أربعة من الأئمة في صحن الحرم الشريف فيرقى الأول على الكرسي المخصوص للقراءة ويقرأ الحديث وينزل بعد أن يدعو للسلطان ثم يرقى الثاني فيقرأ عن المولد والولادة ويدعو وينزل، ثم يرقى الثالث ويقرأ الرضاع، ثم يدعو وينزل، ثم يرقى الرابع ويقرأ الهجرة ويدعو وينزل وينصرف الجميع بعد أن يشربوا «الشربيت» ويأخذون «الحلاوة اللوزية» ... أما في مكة المكرمة فنجده يختلف بعض الشيء: ففي ظهر يوم الحادي عشر تطلق المدافع إعلاناً لهذه المناسبة، ومع صلاة المغرب التي هي بداية اليوم الثاني عشر من ربيع الأول يبدأ تجمع الناس بأعداد خيالية وتأتي النساء بملابس العيد في كامل الزينة وكذا الأطفال فيحدث في ساحة المسجد الكثير من الصخب، وتوزع الحلوى حتى في المسجد، وبعد الانتهاء من صلاة المغرب تضاء المصابيح في المسجد ... والإمام يتلو قصة المولد حيث يكون في مكان الصدارة شريف مكة والوالي التركي مع حاشيتيهما. وحينما تنتهي قراءة المولد نشاهد هرجاً كبيراً داخل المسجد فالكل يريد أن يرى الشريف ورجاله حيث يمشون بخطى وئيدة ويحملون القناديل المضيئة عبر «أسواق القشاشية» «وسوق الليل» إلى بناية القبة في الشعب (شعب علي) ... والدراويش من أهل الطرق الصوفية يقيمون حلقة الذكر والرقص، ويقرؤون شيئاً من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلال الليل تقام حفلات السمر في حين يقوم المتصوفة بتكوين حلقات يرددون فيها بصورة جماعية قصائد «البردة» «والهمزية» وأشعار المديح الأخرى [التي فيها من الشرك ما الله به عليم] ... أما في العهد السعودي فقد منعت هذه المظاهر البدعية والمجاهرة بإقامة المولد لما فيها من مخالفة لهدي النبي  إلا أنها لا تزال تقام إلى الآن من قبل متصوفة الحجاز ولكن سراً في منازل الموسرين، أو قصور الأفراح والاستراحات، وهي تعقد تحت شعار ذكر المولد النبوي الشريف وليس خاصاً عندهم بشهر ربيع الأول ولا باليوم الثاني عشر منه إلا أن له مزية خاصة، وهم يقيمونه عند وجود أية مناسبة من موت أو حياة أو تجدد حال(7 ) .

ويمثل حرص الصوفية على الاحتفال بالمولد الآن - في ظل محاربة السلطات السعودية للبدع والغائهم لهذه الاحتفالات المبتدعة -  نوع من الظهور السياسي، واثبات الوجود والحرص على البقاء والاستمرار مهما كانت الظروف .

     أما فى مصر فتقيم المشيخة الصوفية هذا الاحتفال الذي تحضره مواكب الشرطة ويحضره مندوب رسمي عن رئيس البلاد وتعزف فيه الموسيقى، وتنطلق المسيرة تحت الرايات طريقة بعد أخرى، في موجة من الانشاد مبتدئة من مسجد الجعفري مشيا على الأقدام بالشوارع، لتنتهي إلي المشهد الحسيني الذي يقف الجميع أمامه في خشوع لقراءة الفاتحة للنبي ثم تدبج الخطب وتلقى الأناشيد والأشعار، ويبدأ الحفل الشعبي من حيث انتهى الحفل الرسمي الذي تنقله الإذاعة والتلفزيون عادة... ويدخل كل " شيخ طريقة " خيمته، وتعقد حلقات الذكر أو الشطح والرقص والتدخين والانشاد والتشبيب إلى جنب المراقص وملاعب القمار وأماكن مشبوهة، وإذا ما قدر لإمرئ أن يرى أنواع الشر مجتمعة فما أحسب أنه سيجد مكانا يجملها مثل هذه المواطن التي تمارس فيها المعاصي على أنها طاعة والخرافة على أنها حقيقة والجهل على أنه علم. والحق أن الموالد من أخصب البيئات للمناكر الظاهرة والمستترة ففي ساحتها الواسعة ينتشر الرقعاء دون خجل ويختلط النساء والرجال في المأكل والمشرب وغيرها، حيث تكثر جرائم الزنا واللواط ويدخن الحشيش وتسمع الأغاني الخليعة والموسيقى الصاخبة، وتختفي روح الجد، وتفيض روح الفوضى وعدم النظام، كما تختفي النظافة من المساجد، وتضطرب أوقات الصلوات والجماعات، ودعك من أن أكثر الوافدين على هذه الساحات لهم عقائد غريبة !! وكل هذه الآثام ينتعش وجودها في هذا الجو الاحتفالي المبتدع الذي ما أنزل الله به من سلطان ومع هذا يدعي أهله أنهم يحبون النبي ويحيون ذكراه ! (8 ).

     يقول الأستاذ محمد رشيد رضا تعليقا على هذه الطقوس : " أن المسلمين رغبوا عما شرع الله إلى ما توهموا أنه يرضي غيره ممن اتخذوهم أنداداً وصاروا كالإباحيين في الغالب فلاعجب إذا عم فيهم الجهل واستحوذ عليهم الضعف وحرموا ماوعد الله المؤمنين من النصر لأنهم انسلخوا من مجموع ما وصف الله به المؤمنين ولم يكن في القرن الأول شيئ من هذه التقاليد والأعمال التي نحن عليها بل ولا في الثاني ولايشهد لهذه البدع كتاب ولاسنة وإنما سرت إلينا بالتقليد أو العدوى من الامم الأخرى، إذ رأى قومنا عندهم أمثال هذه الاحتفالات فظنوا أنهم إذا عملوا مثلها يكون لدينهم عظمة وشأن في نفوس تلك الأمم فهذا النوع من اتخاذ الأنداد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين وسقوطهم فيما سقطوا فيه ".أ.هـ (9 ) .

     ولعل مثل هذه المظاهر التي تفشو في كل الموالد ولم يسلم منها المولد النبوي تؤكد أن الحدث هو سياسي بامتياز إذ يراد منه تحقيق الرضا الشعبي، والظهور بمظهر المحب للنبي دون أن يكون في ذلك المشهد من أوله إلى آخره تعبير شرعي صحيح ومقبول عن ذلك الحب .. إذ وجد أرباب الطرق في ترك مثل هذه المنكرات أو السكوت عنها أوربما تشجيع البعض عليها هو نوع من إضفاء قدر من الشعبوية على المحتفلين حتى وإن كان في ذلك إسقاط بعض الشعائر مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو الوقوع في المحرمات وانتهاك الحدود الشرعية المرعية من جانب المؤمنين الصادقين، ولهذا لو فتشنا في الأسباب فسنجد أنه نوع من الاستغلال السياسي الذي يشترك فيه الجميع .

     ومن هنا يلاحظ الأهمية السياسية لابقاء هذه الاحتفالات على صورتها تلك والنفخ فيها حتى تكون أكثر زخما ولهوا والهاءا للشعوب، والظهور بمظهر الإحتفاء بشعائر الإسلام وهيهات !!.

 

وغير خاف على كل من له عقل سليم ما فى هذه الاحتفالة من المخالفة لشرع الله، وهى من البدع المحدثة، فلم يحتفل بها النبى r ولا صاحبته ولا التابعين - رجال القرون المفضلة -، وانما ابتدعها الرافضة الاسماعيلية العبيديون فى أواخر القرن الرابع الهجري المعروفة مآربهم من وراء ذلك، فكيف يتسنى لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتبع هؤلاء الذين يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض كما قال عنهم أبو حامد الغزالى رحمه الله.

     يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن الاحتفال بالمولد النبوي: (مع اختلاف الناس في مولده . فإن هذا لم يفعله السلف ، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا . ولو كان هذا خيرًا محضا ، أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله r وتعظيمًا له منا ، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره ، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان . فإن هذه  طريقة السابقين الأولين ، من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ). اهـ(10 ).

      هذا فضلا على اشتمال هذا الاحتفال على منكرات أخرى كاختلاط النساء بالرجال بل أدهى من ذلك وهو الشرك الأكبر؛ وذلك بالغلو في رسول الله r بدعائه وطلب المدد منه، واعتقاد أنه يعلم الغيب وغير ذلك، وقد قال r : «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» [أخرجه البخاري]. كذلك هذا المولد فيه مشابهة واضحة لدين النصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وقد نهينا عن التشبه بهم كما قال r ( ومن تشبه بقوم فهو منهم ). كذلك اشتماله على أنواع عظيمة من البذخ والتبذير وإضاعة الأموال وإنفاقها على غير أهلها.

 

 

 

 

 

المراحل التاريخية التى مر بها الإستغلال السياسي للمولد :

(أولا) الدولة العبيدية واستغلال المولد :

     سبب ابتداعهم هذه البدعة أن المسلمين في مصر والشام لم يرتضوا سيرتهم في الحكم، وطريقتهم في إدارة شؤون الناس؛لا سسيما وقد انتشرت البدع بل والشركيات على أيديهم،  فخاف بنو عبيد من ثورة الناس عليهم، فحاولوا استمالة قلوبهم، وكسب عواطفهم بإحداث الاحتفالات البدعية، فاخترع حاكمهم آنذاك المعز لدين الله العبيدي- مولد النبي وموالد أخرى مثل { موالد لفاطمة وعلي والحسن والحسين ولجماعة من سلالة آل البيت رضي الله عنهم وأرضاهم }.

     ومعلوم ما اكتنف نسب العبيديين من الغموض لذا حاولوا عن طريق هذه الإحتفالات التشغيب على الناس ولهوهم ، فلا يفكرون فى أنساب هؤلاء الدخلاء وأصولهم .

      وهذا مما يؤكد أن هذه البدعة منذ ظهورها إلى اليوم والهدف من ورائها هدف سياسي، إذ لولا الساسة لما قامت لها قائمة .

     قال المقريزي: ( وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة : النبوي، والعلوي، والفاطمي، والإمام الحاضر وما يهتم به وقدم العهد به حتى نسي ذكرها فأخذ الأستاذون يجددون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله ويرددون الحديث معه فيها ويحسنون له معارضة الوزير بسببها وإعادتها وإقامة الجواري والرسوم فيها فأجاب إلى ذلك وعمل ما ذكر) أ.هـ(11 ) .

 

(ثانيا) بعد عصر العبيدين :

      وقد استمر الهدف من إقامة الموالد لأسباب سياسية في عصر الأيوبيين والمماليك رغم اختلاف الظروف الاجتماعية. ولكن يبدو أن إدراك الأيوبيين لأهمية هذا العنصر في الترويج للفاطميين دعاهم إلى إدخال تغيير نوعي في هذه الاحتفالات، وهذا ما دعا الباحث "عرفة عبده علي" إلى القول: " في عصر الدولة الأيوبية، أبطلت كل مظاهر الاحتفالات الدينية، فقد كان السلطان صلاح الدين يوسف يهدف إلى توطيد أركان دولته لمواجهة ما يتهددها من أخطار خارجيـة واقتلاع المذهب الشيعي بمحو كافة المظاهر الاجتماعية التي ميزت العصر الفاطمي، ولا شك أن هذا السبب السياسي هو أحد الأسباب التي دعت صلاح الدين إلى محاربة هذه البدع، ولكن لا تظن أنه السبب الوحيد. واستمر هذا التوظيف حتى من حكام وسياسيين غير منتسبين للإسلام "(12 ) .

 

(ثالثا) الدولة العثمانية واستغلال المولد :

    العلاقة بين الخلفاء العثمانيين والتصوف علاقة قوية فالعثمانيون – أصحاب الدعم القوي للقبورية – اعتنقوا الإسلام على يد مشايخ الطرق الصوفية من قبل استقرارهم في آسيا الصغرى. حيث أن جل السلاطين كانوا صوفيين قبوريين، بل الخلافة العثمانية رغم ما قدمته للإسلام واستطاعت أن تحمى بيضة الإسلام قرونا طوالا إلا أنها للأسف الشديد كانت غارقة فى الخرافة، وهذا هو السبب الرئيسي فى محاربتهم لحركة الإصلاح التي قادها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومحاولتهم القضاء عليها، والسلطان عبد الحميد الثاني أشهر خلفاء بنى عثمان على جلالة قدره كان صوفيا قحا– ورغم جهوده المشكورة في الحفاظ على أراضي المسلمين ومحاولاته لوقف انهيار الخلافة الإسلامية – كان له من الخرافة نصيب! ، و كان قد قرب إليه ثلاثة من كبار المتصوفة في ذلك العصر وكان لهم مقام سام في السلطنة يومئذ مع نفوذ في جميع الدوائر وهم : الشيخ محمد ظافر المدني الشاذلي ( ت 1321 هـ ) والشيخ أحمد أسعد المدني ( ت سنة 1314 هـ ) والشيخ أبو الهدى الصيادي ( ت سنة 1328 هـ ) .

     جاء السلطان عبد الحميد إلى عرش السلطنة في ظروف عصيبة، والمؤامرات تحاك للأمة، والكوارث والمحن تحيط بها من كل مكان، ودعاة القومية والتفرقة يبثون دعواتهم في سائر البلاد، فدعا كما هو معروف إلى الجامعة الإسلامية، والرابطة الدينية، وكان اعتماده على الصوفية في دعوته إلى الجامعة الإسلامية لما رآه من انتشارها ونفوذها بين الناس، كما أن ذلك الاعتماد والتبني قد زاد من انتشار الصوفية وتغلغلها في أوساط المسلمين.

     وكان من أهم المظاهر التى تبين صوفية الدولة العثمانية هى احتفالاتهم بالمولد النبوي : ففي القرنين الماضيين كان يحتفل بالمولد حكام من المسلمين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه، لأن الاحتفال بالمولد صار عند الجماهير المسلمة من أعظم الواجبات التي لا يجوز التهاون فيها. كما كان يعتقد هؤلاء الحكام أنهم يستمدون مشروعيتهم من مثل هذه الاحتفالات .

     ( يذكر الجبرتي أنه نودى يوم الثلاثاء 11 ربيع الأول سنة 1230 هـ بزينة البلد ووقود القناديل، والسهر ثلاثة أيام بلياليها ... ويذكر أن السلاطين العثمانيين كانوا يحتفلون بالمولد النبوي في أحد الجوامع الكبيرة بالأستانة حسب اختيار السلطان، فلما تولى السلطان عبد الحميد في سنة 1293 هـ-1876 م، قصر حفلاته التقليدية على الجامع الحميدي، فعندما تحين الليلة الثانية عشر من ربيع الأول يحضر إلى الجامع عظماء الدولة وكبراؤها من الأمراء والعلماء والوزراء، وجميعهم بالملابس الرسمية والكساوي التشريفية وعلى صدورهم النياشين بأنواعها ثم يقفون في صفوف متراصة، ونظام تام، انتظارا لتشريف السلطان وفي هذه الليلة يخرج السلطان من قصر يلديز ممتطيا جودا مطهما بسرج من الذهب الخالص!! وقد حف الموكب به، ورفعت على رأسه الأعلام، ويسير وسط الجماهير المحتشدة، حتى يصل إلى الجامع، فيبدأ في رسوم المولد وفقراته، حتى تنتهي فيعود إلى قصره ... ويذكر ابن أبي الضياف أن الباي أحمد – حاكم تونس من قبل السلطان العثماني - احتفل بالمولد عام 1256 هـ ويقول : "وكان يوم المولد بحاضرتنا كمواسم السنة غير العيدين، ويزيد باجتماع الصبيان في الكتاتيب مفروشة يصلون على النبي r ثم يذكر أن الباي أمر بتنوير المآذن الحاضرة ليلة المولد وليلتين بعده، والزيت من عنده لا من أحباس الجوامع، وفي ضحى المولد تجتمع العلماء والأعيان بالجامع الأعظم، ويأتي الباي إليه من قصره راجلا، وأمامه سماطان من أمراء العسكر بلباس المواكب، يشق بهم سماطين من العسكر واقفين على أهبة نظامية. ثم يبدأ في قراءة المولد والأبيات، فإذا جاء ذكر قول الشاعر :                 فقم أيها الراجي لنيل سعادة

يقوم الباي وكل من كان في المسجد، ثم تنطلق المدافع من الأبراج والضواحي، ثم يكمل المولد، ثم يجلسون للدعاء، ويختم بالفاتحة، ثم يؤتى بماء السكر لسائر من في الجامع، ثم مياه الطيب، وينفض الموكب، وتستمر المدافع مترنمة صباح ومساء أيام المولد الثلاثة، ويكثر فيها العطاء والصدقات للفقراء الذين يحيون تلك الليلة بالقرآن العظيم، والأمداح النبوية - وقد يكون بعض ذلك تدينا فاسدا لكن ما من شك أنه لم يخل مطلقا من ظاهرة الاستغلال - ... ويذكر السلاوي أن حكام المغرب الأقصى كانوا يحتفلون بالمولد النبوي ويسمونه عيدا، يقول عن السلطان المولى الحسن بن محمد : وعيد بفاس عيد المولد الكريم " وكان ذلك عام 1290 هـ ... وفي عام 1292 هـ لما حضر عيد المولد الكريم احتفل السلطان أيده الله غاية الاحتفال، على عادة أسلافه الكرام قدس الله أرواحهم، وجعل في عليين غدوهم ورواحهم، وتشنفت الأسماع بالأمداح النبوية في الليلة المباركة بالمسجد المعد لذلك، وأنشدت قصائد لأدباء العصر (!) كسا السلطان ـ نصره الله ـ جميع الجيش والعسكر والكتاب، حتى الأمناء والطلبة .

   وكذلك كان ينادى للاحتفال بالمولد كل سنة فى عهد محمد علي واولاده وأحفاده الذين استمروا على رعاية شئون المولد ، وإحياء الاحتفال به طوال سني حكمهم ، مع أن غالبهم كان حربا على الإسلام ، وكان الواجب عليهم وعلى من حام حولهم من العلماء العمل على رفع راية الدين وأن يحكموا بما أنزل الله ، وأن يعلنوا الجهاد والاستنفار ضد الإحتلال الإنجليزى لتحرير البلاد والعباد .

    ... يذكر صاحب " الخطط التوفيقية " اهتمام الدولة المصرية في عهد خديويها توفيق بالمولد النبوي وبالأسرة البكرية المعنية بشؤون المولد، والمختصة بإقامته، فيقول: وللسادة البكرية في ظل الدولة المحمدية العلوية من العناية به في كل عام ما تتحدث بزائد شرفه الركبان ويفتخر به أهل الزمان على غيره من سائر الأزمان، لاسيما في عهد الحضرة الفخيمة الخديوية،وعصر الطلعة المهيبة التوفيقية، فإنه وصل فيها الاحتفال بأمر المولد النبوي الشريف إلى حده الأعلى، وبلغ الإعتناء بعلو شأنه المبلغ الأعلى، وذلك أنه في أوائل العشرة الأخيرة من شهر صفر الخير من كل عام تصنع بمنزلهم مأدبة فاخرة يدعى إليها كافة مشايخ الطرق والأضرحة والتكايا والوجوه والأعيان والذوات... ويقول صاحب"تاريخ المولد" : وقد اطرد الأمر على ذلك مدة الخديوي عباس حلمي الثاني، وأيام السلطان حسين كامل. ثم يذكر أيضا عناية الملك فؤاد الأول وابنه فاروق الأول بالاحتفال بالمولد وتشريفهما لحضوره، وأمر كل وزارة في دائرتها أن تحتفل بالمولد، وتعطيل الأعمال ذلك اليوم وجعله إجازة رسمية) (13 ).

  

  (رابعا) الإحتلال واستغلال المولد :

     من الملاحظات الجديرة بأن نقف أمامها كثيرا هى حالة الانتعاش الكبير التى تصيب الفرق المنحرفة فى ظل الاحتلال كالصوفية، ولا يختلف اثنان أن هذه الفرق هى المرتع الخصب الذى يرتع فيه الإحتلال، والذى يستطيع من خلاله أن يتمكن من البلاد والعباد ولقد ساهمت هذه الطرق بمنتهى الإخلاص فى هذا المجال، لقد أدرك الإنجليز أن الطرق الصوفية تلعب دوراً مهماً من خلال مزاولة أنشطتها بين الطبقة العامة من الشعب، فالصوفية بدعوتها الظاهرية إلى الزهد وترك مباهج الحياة والانصراف عن الدنيا، يمكن أن تضفي الصبغة الدينية على موقف الخنوع والخضوع للمحتل الأجنبي بخلفيات قدرية اتكالية استسلامية، ولهذا حرصت سلطات الاحتلال في مصر وغيرها على إطلاق يد الطرق الصوفية في ممارسة أنشطتها، وقد ساعد على ذلك سيطرة سلطات الاحتلال على وزارة الداخلية مما مكنها من السيطرة على تلك الطرق ومعرفة تحركاتها وأساليبها وتوجيهها إلى الوجهة التي تضمن للمحتل خدمات أكثر.

(استمر هذا حتى بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث احتضنت سلطات الاحتلال الأجنبي الطرق الصوفية في البلاد التي بسطت سلطانها عليها. وعمل بعض أولئك على رد الجميل للمحتلين، فكانوا يضفون الشرعية على وجودهم ويسوّغون للناس بقاءهم، ووصل الأمر إلى أن بعض مشايخ الصوفية في مصر، قاموا بجمع توقيعات أثناء ثورة 1919م تطالب ببقاء الإنجليز في مصر! وكان من هؤلاء شيخ الطريقة السمانية: محمد إبراهيم الجمل(14 )).

 

  وهل تعرف السبب الحقيقي في هزيمة "عرابي".. لقد شغل أهل الصوفية الجنود في التل الكبير في أذكار.. حتى نصف الليل.. ثم نام الجنود.. فدخل الإنجليز في الفجر!! (15 ).

  ... وخدمات الصوفية للاستعمار الفرنسي أيضاً معروفة ومن القصص ذات الدلالات القوية : 

   أن الشيخ أحمد التجاني الأكبر مؤسس الطريقة "التجانية" فى الجزائر تزوج في سنة 1870 بالفرنسية الانسة أوريلي بيكار (مدام أو أيّم التجاني بعدئذ) ، وقد أصدرت هي كتاباً فرنسياً في هذه الأيام أسمته: "أميرة الرمال" تعني نفسها، وقد ملأته بالمثالب والمطاعن على الزاوية التجانية، وذكرت فيه أن سيدي أحمد هذا إنما تزوجها على يد الكاردينال لافيجري على حسب الطقوس المسيحية، وذلك لأن قانون الزواج الفرنسي كان دينياً مسيحياً لا مدنياً، ولما توفي عنها سيدي أحمد هذا خلفه عليها وعلى السجادة التجانية أخوه سيدي علي!. ولما أنعمت فرنسا بوسام الشرف على هذه السيدة ، قالت الحكومة في تقريرها الرسمي ما نصه: لأن هذه السيد قد أدارت الزاوية التجانية الكبرى إدارة حسنة كما تحب فرنسا وترضى، ولأنها كسبت للفرنسيين مزارع خصبة ومراعي كثيرة، لولاها ما خرجت من أيدي العرب الجزائريين (التجانيين)، ولأنها ساقت إلينا جنوداً مجندة من "أحباب" هذه الطريقة ومريدها يجاهدون في سبيل فرنسا كأنهم بنيان مرصوص. واليوم تعيش هذه السيدة (أيم التجاني) في مزرعة لها كبرى في ضواحي مدينة بلعباس – وهران عيشة المترفين ذوي الرفاهية والنعيم، وهي الآن لم تقطع علاقاتها بالزاوية التجانية، بل لا تزال تسيطر عليها، وتقبض على أزمتها، ومع أن الأحباب التجانيين يتبركون بهذه السيدة ويتمسكون بآثارها ويتيممون لصلواتهم على التراب الذي تمشي عليه، ويسمونها "زوجة السيدين"، فإنها لا تزال مسيحية كاثوليكية إلى هذه الساعة، ومن العجيب أن إحدى وستين سنة قضتها كلها في الإسلام وبين المسلمين من (1870-1930)، لم تغير من مسيحيتها شيئاً، وهذا دليل على ما كانت تكنه في قلبها لهؤلاء الأحباب في رقابهم وأموالهم!! (16 ).

     ومن القصص ذات الدلالات أيضا : يقول الدكتور عمر فروخ: ذكر مصطفى كامل بطل الوطنية المصرية في كتابه (المسألة الشرقية) قصة غريبة في أذن القارئ العادي، قال : ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسا للقيروان في تونس : أن رجلاً فرنسياً دخل في الاسلام وسمى نفسه سيد أحمد الهادي، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماماً لمسجد كبير في القيروان، فلما اقترب الجنود الفرنساويون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل (سيد أحمد) الضريح، ثم خرج مهولاً بما سينالهم من المصائب، وقال لهم : إن الشيخ ينصحكم بالتسليم؛ لأن وقوع البلاد صار محتماً، فاتبع القوم البسطاء قوله ولم يدافعوا عن مدينة القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنساويون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881م (17 ).

   وهذه الأحداث تبين لنا بجلاء مدى قابلية الطرق الصوفية على أن تستغل من قبل أى قوة ، وبالتالى هذا مما شجع المحتل على الإهتمام بهذه الطرق والإهتمام كذلك بكل طقوسها وبدعها ، وكان من مظاهر هذا الاهتمام تشجيعها على مزاولة البدع، ومن هذه البدع الموالد ومن أهم الموالد مولد الرسول r ولعلنا نذكر بعض الأمثلة على ذلك :       

    يذكر الجبرتي أن الناس انكمشوا عن بدعهم خوفا من الفرنسيين ولكن ما إن سمح لهم الفرنسيون بها، بل شجعوها حتى تسارع الناس إليها ملهوفين عليها. وذكر أن نابليون بونابرت سأل الشيخ البكري عن عدم إقامة المولد النبوي بعد احتلال القاهرة، فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقف الأحوال، فلم يقبل نابليون بذلك وقال : لابد من ذلك، وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي معاونة منه في إقامة هذا المولد، وأمر بتزيين البلد كالعادة، واجتمع الفرنسيون يوم المولد، ولعبوا ميداينهم، وضربوا طبولهم ودبادبهم.وقد كان نابليون يواظب على حضور المولد النبوي بنفسه . وكما أمر الفرنسيون بإقامة المولد النبوي، وإعادة الشعائر المعطلة، فكذلك أعيد المولد الحسيني خوفا منهم، حيث قام الشيخ السادات بعمله، وقد حضر نابليون هذا المولد أيضا، بل كانوا يجبرون الناس ويقهرونهم على الاحتفال بهذه الموالد، ويغرمون من يأبى أن يحتفل بها، ويسمرون دكانه . إن المرء ليتسائل عن اهتمام الفرنسيين بإعادة هذه الموالد المبتدعة، وقهر الناس على الاحتفال بها، ودعمها بالمال. ويجيبنا الجبرتي على هذا التساؤل بما رآه الفرنسيون في هذه الموالد " من الخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات... لقد أدرك الفرنسيون ما يقع بسبب هذه الموالد من سلبيات، وما تستنفده من جهود وأموال، وتشغله من أوقات وتفكير، وما في ذلك من صرف للناس عن جهاد المحتلين ومقاومتهم، وهو ما لم يدركه الكثير من العلماء ممن شجعوا تلك الموالد، أو حتى غضوا الطرف عنها… وكذلك أدركوا ما لتلك الموالد من مكانة عظيمة في حياة الناس، لذا سارعوا بإعادتها، حتى يلهوا الناس بها، وتعود الأمور إلى مجاريها، وكأن شيئا لم يحدث، ويغلقوا على أنفسهم بابا واسعا من أبواب الثورة …وأخذ الفرنسيون يفكرون في ما يغطون به سخط الشعب المصري، ويقرب قلوب الناس إليهم، فرأوا أن من أجدى الوسائل التي قد تؤدي إلى ذلك إحياء الموالد، كما كانت في سالف الأيام. أما المسلمون فقد كانت هذه الموالد في حسهم من أعظم شعائر الدين التى يتقربون بها إلى الله عز وجل وإلى أصحاب الموالد أنفسهم، ويعتقدون وجوب إقامتها والمداومة عليها وبذل الغالي والنفيس لأجلها (18 ).

     حين دخلت القوات الصليبية الأمريكية والبريطانية إلى البلاد الأفغانية كان أول ما قاموا به أنهم فتحوا المزارات والأضرحة، وسمحوا للموالد أن تقام وروجوا لها. يقول أحد شيوخ الطرق واسمه (صوفي محمد) وهو في الستين من عمره لوكالة (رويتـرز): (إن حركة طالبان المتعصبة أغلقت المزارات وأوقفت الاحتفالات ومنعتنا من حلقات الذكر والإنشاد طوال فترة حكمها رغم أنها لم تتوقف حتى في وجود الحكم الشيوعي والاحتلال الروسي! وأنا سعـيد جداً بسقوط تلك الحركة المتعصبة، وأمريكا سمحت لنا بممارسـة طقوسنا وإقامة موالدنا، ونحن نشكر لها ذلك وبشدة) هكذا قال وهكذا فعلت أمريكا: فتحت الأضرحة وأقامت الموالد لإحياء البدعة ومحاربة السنة ولتشويه الإسلام ... وفي العراق أيضاً ـ في مدينة كركوك ـ أوضح عدد من أهالي المدينة أن مِن المتصوفة في المدينة مَن أخذوا يهادنون الاحتلال والحكومة المعينة خوفاً من الاعتقال، خاصة شيخ الطريقة الكستزانية ويدعى محمد الكستزاني والذي أعلن قبل أشهر أن الجهاد في العراق ينبغي أن تنطبق عليه عدة شروط قبل إعلانه منها: صفاء القلب وتحقيق الصلة بين العبد وربه. وهو ما أثار حفيظة المقاومة العراقية وأهالي المدينة على حد سواء(19 ). 

 

(خامسا) استغلال المولد فى العصر الحاضر :

     تمثل قضية المولد النبوي أحد أهم المرتكزات التي تركز عليها الصوفية في الترويج لأفكار على المستوى الشعبي وتكتسب بها زخما إعلاميا وسياسيا، ومن هنا كان الاحتفال بها لونا من الظهور بالمظهر الشرعي المتلبس بمحبة النبي r خاصة بعد أن نجحت الاتجاهات التجديدية في الحد من ظاهرة الاحتفال بموالد أصحاب الأضرحة ، وانصراف قطاع من الناس عن تلك الموالد بعد توفر ما يرغبون فيه من متع وشهوات وبوسائل عديدة ومتاحة ، ومن هنا يأتي التركيز على الاحتفال بالمولد النبوي كمدخل للاحتفال بموالد الأولياء المنسوبين حقيقة أو زورا إلى آل البيت .. وإذا كانت العلاقة بين الصوفية والساسة هى علاقة تبادل منفعة، ففى الوقت الذى تحاول فيه الحكومات استغلال الصوفية لتحقيق مآربها، تحاول الصوفية أيضا أن تتكسب من هذه العلاقة، بل هى المستفيد الأكبر من هذه العلاقة، كما أنها استطاعت أن تصل إلى الحكم فى بعض المناطق فوزير الأوقاف المغربي أحمد التوفيق هو صوفي، كما أن الشيخ أحمد الطيب في مصر - وهو خلوتي- أصبح رئيس جامعة الأزهر بعد أن كان مفتيا للديار المصرية،بل والمفتي الحالي للديار المصرية الدكتور علي جمعة والذي يعد أحد كبار المنظرين للصوفية والداعين لها عبر العالم ، وفي الجزائر نجد أن بوتفليقة قريب جدا من الصوفية، وهو ما برز في حملته الأخيرة.

  يقول الدكتور عمار حسن:« وفي الفترة الأخيرة في مصر ظهر جلياً تقرب الحكومة من المتصوفة وتقرب المتصوفة من الحكومة،بل السعي من الطرفين للتقارب؛ فقد خلقت الظروف الملائمة للتحالف ضد الجماعات الإسلامية أمام الرأي العام باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته عند المصريين؛ بينما هي تحتمي بالنظام ضد ممارسات الجماعات السلفية التي ترى تحريم رفع القباب على القبور وتحريم الطواف بها وعبادتها والتي تتعيش الجماعات الصوفية على بثها بين الناس والتي لولاها لتقوض ركن ركين من أركان التصوف، ومن هنا فقد حرصت السلطة السياسية على حضور الموالد والاحتفالات الصوفية، بل صار شيخ مشايخ الصوفية (أبو الوفا التفتازاني) ـ توفي ـ عضواً في الحزب الحاكم ورئيساً لعدة لجان داخل جهاز الدولة، بل حرص رئيس الدولة بنفسه على الصلاة في مساجد الأولياء مثل سيدنا الحسين والسيد البدوي»(20)  .

      وبعد صدام الثورة مع جماعة الإخوان المسلمين عام 1954 م أدرك النظام أنه لابد من إيجاد بديل يقدم للناس على أنه التدين الذي تقبله الدولة فأقدم عبد الحكيم عامر على إقالة شيخ مشايخ الطرق المنتخب " أحمد الصاوي " وعين ( محمد محمد علوان ) شيخ مشايخ الطرق الخلوتية شيخا عاما للطرق الصوفية منذ أن طبقت لائحة المجلس الصوفي الأعلى عام 1903 م وتم هذا في إطار نظام إصلاح الطرق الذي تولى عبد الحكيم عامر الإشراف عليه، وقد استسلمت جماهير الطرقيين للمصلح الجديد ( عبد الحكيم عامر ) واستكانت لتوجيهاته طوعا أو كرها خاصة بعد أن رأو كيف فعلت الثورة بأكبر وأقوى تجمع إسلامي في مصر وهم الإخوان ( 21).

 يقول شعراوي جمعة وزير داخلية مصر في عهد جمال عبد الناصر (حينما مات ناصر كان علينا وسط مشاهد الحزن ومشاعره الفياضة أن نعمل على وضع ترتيبات خاصة لحماية الجثمان؛ فقد وصلتنا معلومات تفيد بأن الطرق الصوفيه ستتكالب على النعش وتخطفه لتطوف به كافة مساجد وأضرحة أولياء الله الصالحين في القاهره) شعراوي جمعة وشهادته للتاريخ (22 ).

     والتاريخ يعيد نفسه، فلما جاء " السادات " من الصلح مع يهود استقبله شيوخ الطرق الصوفية في مصر في المطار، وكان عدد مندوبي الطرق 72 مندوبا !، فوقف الشيخ " محمد جميل غازي " رحمه الله على المنبر، وقال " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال " وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ط فاثنتان وسبعون في المطار وواحدة في القاهرة " !. (23 ).

     ويظهر هذا الإستغلال فى الاحتفال بالمولد النبوى، فيوم الاحتفال يكون عطلة رسمية في البلاد، ويقام بصفة رسمية في كل محافظة بمصر حيث تشرف عليه السلطات لضمان سيره بانتظام وأمان، فالجهات الحكومية هي التي كانت تمثل رسميا في هذه الاحتفالات، حيث كانت وزارة الأقاف ترعى الاحتفال السنوي الذي كان يحضره الملك في أيام الملكية، ثم أصبح يحضره الرؤساء في عهد الجمهورية، وفي العادة فإن الملوك والرؤساء يلقون في هذا اليوم خطبة، كما يحضره شيخ الأزهر وعدد من الوزراء والشخصيات العامة، وتوزع فيه جوائز على الفائزين في " مسابقة تقام احتفالا بالمولد النبوي " كما توزع فيه الجوائز التقديرية على بعض الحضور باسم تكريم العلم والعلماء، كما تقام احتفالات في كافة المدن ترعاها فرق من الشرطة. وفي وقتنا الحاضر تحتفل إذاعة القرآن الكريم في مصر بالمولد على مدى شهر كامل هو ربيع الأول. ومع أن كثيرا من البرامج لا غبار عليها إلا أن ارتباطها بموسم لم يقره الشرع يبقى نقطة مؤاخذة، إضافة إلى بعض البرامج والفقرات التي لا تخلو من غلو في شخصه r (24 ). 

 

أسباب الإستغلال السياسي لبدعة المولد : 

    من خلال العرض السابق لتاريخ ومظاهر الاحتفال بالمولد النبوى نلخص سريعا الأسباب التى أدت إلى سعى الأطراف المختلفة لاستغلال هذا الاحتفال سياسيا :

 

(أولا) بالنسبة للشيعة العبيدين :

1 – نشر العقائد الشيعية من خلال التذرع بحب آل البيت والارتباط بهم وهذا ما صنعه العبيديون من قبل،   ويفعله أحفادهم والمتأثرون بهم في كثير من البلاد اليوم.

2- كسب ولاء الناس، والتعمية علي تصرفاتهم القبيحة وكفرهم الشنيع. ففي أواخر عهدهم أنشأوا المشهد الحسيني عام 550هـ عندما شعروا بأن سلطتهم قد ضعفت ليجذبوا إليهم المصريين، وعهدوا إلى ابن مرزوق القرشي (564هـ) تربية مريدي الصوفية، فانتظم أتباعه في طوائف وطرق لنشر الدعوة الشيعية؛ إلا أن هذه التنظيمات انهارت بانهيار الدولة الفاطمية وتحول المشهد الحسيني إلى ضريح صوفي( 25).

3- نشر الفرقة بين صفوف المسلمين وإبعادهم عن العقيدة الصافية.

4- إضعاف المسلمين باستنزاف خيراتهم، ونشر المنكرات والفواحش بينهم.

5- اشغال المسلمين عن مقاومة أعدائهم، والهائهم عن الجهاد فى سبيل الله.

 

(ثانيا) بالنسبة للعثمانيين :

ا- التقرب إلى الشعوب وضمان ولائهم.

2- إلهاء الناس عن التفكر فى المظالم التى كان يمارسها الولاة الأتراك.

3- إضعاف شوكة المعارضين والمنافسين كالمماليك فى بعض الأوقات.فالإحتفال بهذه البدع يساعد على التفاف الشعب حول هؤلاء الولاة ، مما يزهدهم فى المعارضين لهم ، لاسيما إذا كانوا لايهتمون بهذه الخرافات. 

4- إلقاء طابع الهيبة والتدين على الدولة العثمانية.

 

(ثالثا) بالنسبة للأنظمة المعاصرة :

     حرص كثير من الحكام والسياسيين من قديم الزمان على توظيف الدين أو المظاهر الدينية في توطيد أركان حكمهم واستمرار نظمهم السياسية أو الترويج لها، وهكذا التقت مصالح السياسيين مع مصالح القائمين على الخرافة التي ألبسوها الدين كذباً وزوراً، وذلك للأسباب التالية :

1- تخدير الشعوب، والسيطرة عليها، واشغالهم عن تنحية شرع الله عن الحكم والمطالبة به. يقول الباحث عمار علي حسن: "واستعراض تاريخ مصر منذ الفراعنة وحتى الوقت الراهن يشير إلى أن كل مرحلة خلقت لنفسها الوسائل التي تجذب الجماهير من طقوس دينية وفلكلور شعبي... الخ، وذلك لدعم النظام السياسي القائم والتمكين لوحدة المجتمع واستقراره، وقد التقى الحكام مع أصحاب النفوذ الديني وغيرهم على هذه القاعدة، وكان المتصوفة من أصحاب السبق في هذا المضمار خاصة بعد الفتح الإسلامي لمصر، فالإسلام كدين لم يكن طيعاً في يد الحكام ليستخدموه في الأغراض السياسية؛ لذا بحثوا عن الرجال الذين يطوعون لهم النصوص لتتوافق مع مسلكهم في الحكم"(26 ).

2- الدعاية السياسية والتأثير على الجماهير. وإعطاء انطباع بتدين الأنظمة وعدم عدائها للدين. ففي زيارة هامة للرئيس الباكستاني (برفيز مشرف) إلى الهـند شملت إجراء محادثات مع رئيس الوزراء الهندي (مانموهان سينج). توجه الرئيس (مشرف) لولاية راجستان بغرب الهند لزيارة ضريح إسلامي بارز، ثم توجه إلى العاصمة دلهي .

 كما قام الرئيس الجزائري (عبد العزيز بوتفليقة) بزيارات مكثفة لعدد من زوايا وأضرحة (الأولياء والصالحين) المنتشرة في مختلف أنحاء الجزائر؛ لزيادة شعبيته لدى عدد كبير من الجزائريين الذين يتبركون بهؤلاء الأولياء، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في الثامن من إبريل (2004م).

3 – التعمية على بعض الممارسات والمظالم والفساد والإنحراف الغارقة فيه هذه الأنظمة. فبدلاً من أن ينشغل الإنسان المصري بالتفكير في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة، وبدلاً من أن يفكر في فقره وبلائه، وبدلاً من أن يفكر في طريقة للخلاص من وضعه السيئ بالثـورة على الحاكم؛ فإن الحاكم نفسه يعمل على شغل فكره من خلال تشجيعه للبدع والخرافات فيجد عالمه وخلاصه في رحاب هذه الطقوس؛ وهكذا انشغل المصريون كلهم في هذه الحقبة من الزمن بالطرق الصوفية وتركهم الحكام) ( 27).

4- قتل روح الجهاد فى الأمة، وتقديم البديل عن الدين الصحيح. فلقد كانت ثورة يوليو المصرية تنظر نظرة عدائية لأي نشاط إسلامي حر، باستثناء الطرق الصوفية؛ حيث اعتبرتها أداة لفريق الثورة الذي كان يستهدف فرض الاشتراكية الإلحادية لا في مصر وحدها، بل في المحيط العربي كله. وأصبح للطرق الصوفية مجلة تصدر عن مجلسهم الأعلى، وكانت شبه ناطقة باسم الحكومة، ومسوّغة لكل إجراءاتها الثورية الاشتراكية...لقد اتسع انتشار الصوفية في بدايات عهد الثورة، حتى إن المجلس الصوفي الأعلى لم يكن بمستطاعه وحده أن يشرف على أنشطة الصوفية، فدفعت السلطة بحزبها السياسي الوحيد في ذلك الوقت وهو "الاتحاد الاشتراكي" لكي يستغل احتفالات ونشاطات الصوفية ليوزع المنشورات ويطلق الشعارات وربما الشائعات للدعاية للنظام... وظلت السلطة مستمرة في دفع عجلة الصوفية للأمام على حساب الاتجاهات الدعوية الأخرى، حتى إنها صدّرت رجلاً من رجالها وهو "أحمد رضوان" وأقحمته لرئاسة مشيخة الطريقة "الخلوتية" التي كان تدعيم الحكومة لها أكثر من غيرها. وقد استمر الدعم الحكومي للطرقية بعد عهد عبد الناصر، حتى أصبحت الطرق الصوفية التي هى أكثر من سبعين طريقة، هي النشاط الديني الوحيد التابع لرئاسة الجمهورية رأساً، وله ميزانيته الخاصة في الدولة ...

5- إرضاء أعداء الإسلام، حيث يقدمون لهم اسلاما لا يعادى أحدا. ففي صيف (2001م) شنت الحكومة اليمنية هجمة شرسة على جميع المعاهد الدينية بحجة مكافحة الإرهاب، فقامت بإغلاقها عدا (دار المصطفى) بـ (تريم) وهي تتبنى النهج الصوفي. 

6- كسب ود الطرقيين واستمالتهم، حيث أنهم حشد قوي فى أي انتخابات. يقول الباحث عمار علي حسن: "كانت الصوفية على رأس القوى الدينية التي استخدمها النظام المصري في تبرير وتدعيم سياساته، فحرص المسؤولون على حضور موالد الصوفية واحتفالاتها، وخاصة المولد النبوي ومولد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي(28 ).

     وإمعاناً في تسويغ الصوفية وتلميع رموزها، تم تعيين أستاذ جامعي في منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية وهو أبو الوفا التفتازاني ، ثم عينت بعده محافظا ووزيرا سابقا هو أحمد عبد الهادي القصبي ، واعتبرت الصوفية هذا تكريماً زائداً لهم وعدّوه رداً كافياً على خصومهم الذين يتهمون الطرقية باللاعصرية والجهل مقارنة بالجماعات الإسلامية الأخرى(29 ).

     لقد أصبح منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية لا يتولاه أحد إلا بقرار جمهوري من الحاكم السياسي وليس وفقا للوائح التي ظلت سائدة تبعا للمجلس الصوفي الأعلى، وقد أعطت الثورة أحد أبرز رموزها من الضباط وهو " عبد الحكيم عامر " دور الاشراف على إصلاح نظام الطرق الصوفية بحيث تصبح أكثر ملائمة للعهد الثوري من جهة، وتتحول إلى أداة في يد الثوريين ضد بقية الأنشطة الدينية من جهة أخرى.

7- إعطاء الشرعية لهذه الأنظمة ولا شك أن الشرعية الدينية للدول والأنظمة – مثلها مثل الشرعيات الأخرى، كالشرعية التاريخية والدستورية والثورية – تعد إحدى أهم الدعائم التي تقوم عليها نظم الحكم،لا بد أن يدعمها حتى ولو شكلاً وظاهراً، وهذا ما يستغله القبوريون.

8- ضرب الاتجاهات الدينية المعارضة لهم. فرغم إعلان السياسيين العلمانيين أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، إلا أننا رأيناهم يدعمون القبوريين بانتهازية واضحة، باعتبارها مظهراً من مظاهر الدين يمكن ضرب الصحوة الإسلامية به، وذلك بسحب البساط من تحت أرجلها باعتبار الدين أرضيتها التي تنطلق منها. يقول الباحث عمار علي حسن: "النظام الحاكم كان معنياً بدرجة كبيرة أن يقدم نفسه في صورة المدافع عن الإسلام في وجه جماعات العنف والإرهاب ودعاة التطرف والخروج. فالاستراتيجية التي تبنتها الحكومة لم تكن مقابلة أفكار الجماعات الإسلامية بأفكار علمانية، ولكن كانت الخطة هي منافسة هذه الجماعات داخل مساحة الإسلام نفسها لتمييع الموقف وسد الطريق أمام هذه الجماعات، ولذا نجد أن الخطاب الذي واجه به نظام مبارك هذه الجماعات والحكومة ليس صراعاً بين الإسلام واللاإسلام، ولكنه صراع على تطبيق الإسلام الصحيح، والذي يرى كل منهما أنه هو الذي يمثله. على هذا الأساس خلقت الظروف الملائمة لتحالف النظام مع الصوفية ضد الجماعات الإسلامية، فالنظام يلتحف بها باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته لدى المصريين ليحسن صورته أمام الرأي العام بأنه يعرف حدود الدين، والصوفية تحتمي بالنظام من جماعات الإسلام السياسية التي تهدد الصوفية بحرق وتدمير الأضرحة وتسعى إلى تقويض أركان التصوف من منبعه، ومن هذا المنطلق استمر المسؤولون في حرصهم على حضور الحفلات الصوفية المختلفة في كافة أنحاء مصر"(30 ).

 

(رابعا) بالنسبة للمحتل : بريطانيا وفرنسا من قبل وأمريكا حاليا، فبعد أن ورثت أمريكا الإمبراطورية البريطانية حاولت جاهدة أن تسيطر على العالم، وأن تكون هى القوة القطبية الوحيدة، لذا عملت على إسقاط وتفكيك الاتحاد السوفيتي، فلم يبقى أمامها من عدو غير الإسلام، لذا هى تحاول جاهدة احتواء هذا المارد،لا سيما أن هناك اتجاهات تمثل نسبة كبيرة من المسلمين يسهل استمالتها، اتجاهات لها مشاريع سياسية خاصة، كالشيعة مثلا حيث حاولت أمريكا تقديم الإسلام الشيعى كبديل عن الإسلام السني. وهناك اتجاهات ليس لها أى مشروع سياسى، بل العكس إن تاريخها فى تدعيم قوى الاحتلال ونصرته غير خافية على أحد وهي الصوفية كما أسلفنا.

     لذا سعت أمريكا وبكل جد لكسب ولاء هذه الطرق ،ومثال ذلك حرص سيدى العارف بالله "فرانسيس ريتشاردونى" السفير الأمريكى فى القاهرة على حضور الموالد الدينية وخصوصاً مولد العارف بالله السيد البدوى للسنة الثانية على التوالى - واستقبال محافظ الغربية للسفير بالأناشيد الدينية ومنها طلع البدر- وهذا الأمر له دلالات؛ ينبغى إمعان النظر فيها – لا يعني ذلك أن كل الطرق الصوفية على درجة واحدة من الولاء للمحتل – وزاد الحرص بعد 11 سبتمبر حيث ظهرت التيارات الجهادية كعدو حقيقى يمكن أن يقوض هيبة أمريكا، وكانت أهداف أمريكا من وراء استغلال المولد كالتالى :  

1- إبراز الصوفية كبديل عن التيارات الأخرى، وأنها تمثل الإسلام الصحيح : وترتكز فكرة الاستبدال على وجود رغبة عامة وعارمة لدى الجماهير في التدين. وكان الحل أن ندع المسلمين يتدينون كما يريدون، لكن فلنقدم لهم نحن (التوليفة) المناسبة للتدين. وهذا الحل يكمن فى :

المتصوفة الجدد:  هناك دلائل كثيرة تشير إلى أن السياسة الأمريكية باتت تنظر إلى الصوفية المعدلة على أنها يمكن أن تمثل بديلاً مناسباً للتدين لدى عامة المسلمين، نقدم نموذجين للمتصوفة الجدد:

أولهما: الداعية علي الجفري، والثاني: الدكتور محمد هشام قباني المقيم في الولايات المتحدة.

فالأول ـ الجـفري ـ بـرز بقوة عن طريق مواعظه للنخبة الفـنية والطبـقة الغنيـة في مصـر، ثـم

عبر الفضائيات؛ وذلك بعد 11 سبتمبر، وبدا أن الطريق أمامه مفروش بالورود؛ ففي خلال وقت قصير زار الولايات المتحدة وطاف في تسع ولايات، وألقى دروساً ومحاضرات بعضها في جامعات أمريكية .

والنموذج الثاني : هشام قباني ـ من أصل لبناني ـ الذي أسس ما يسمى المجلس الإسلامي الأعلى، وهو منظمة صوفية في الولايات المتحدة، ويحظى الرجل بدعم كبير من الإدارة الأمريكية، ودُعي إلى البيت الأبيض والخارجية، وألقى محاضرات على مسؤولين في واشنطن إحداها كانت بعنوان (التطرف الإسلامي وخطورته على الأمن القومي الأمريكي).

ويبدي الدكتور هشام قباني عداء خاصاً للسلفية ممثلة في الدعوة الوهابية، ويُعتبر أحد مصادر المعلومات والتحريض ضدها في أمريكا، وهو يدعي أن 80 % من المساجد في أمريكا يسيطر عليها المتطرفون الوهابيون، ويتجول قباني في أنحاء العالم بحرية، وهو يعرض الصوفية كبديل واضح للوهابية فيقول مخاطباً من يعنيه الأمر: علِّموا الطلاب الصوفية، يجب أن يتعلم الطلاب كيف يصبحون محبين للسلام، وكيف يصبحون جزءاً من المجتمع الكبير؛ فالوهابية تحرض الطلاب على ألا يكونوا جزءاً من المجتمع الكافر،     ويعتقد استراتيجيون أمريكيون أن أتباع الصوفية ربما كانوا من بين أفضل الأسلحة الدولية ضد الإسلاميين المتشددين !وقد استرعى انتباه متخصصين أمريكيين الصراع بين الحركات الإسلامية السلفية وبين الطرق الصوفية، ولذلك قررت الإدارة دعم الصوفية ولكن بصورة غير مباشرة، وذكرت المجلة الأمريكية أنه في إحدى الدول العربية في شمال إفريقيا دعا قادتها في هدوء زعماء الصوفية المحليين، وقدموا لهم ملايين الدولارات كمعونة لاستخدامها كحصن ضد الأصولية المتشددة  (31 ).

2- محاربة فكرة الجهاد الإسلامى، والتى تعتبر فى رأيي أكبر ما يقض مضاجع الإمريكان أن يروا انبعاث حركات المقاومة والجهاد فى كل مكان. لذا يسعون إلى القضاء على حركات المقاومة فى كل مكان، كما يحدث فى فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وفى غيرها.

3- تمييع قضايا الولاء والبراء لدى المسلمين، وإبراز الأمريكان كمحبين للسلام، ومدافعين عن الإسلام الصحيح الذى يمثله الطرقيون .

4- استمالة الجهلاء وضعاف النفوس ليدوروا فى فلك المخططات الأمريكية للسيطرة على العالم الإسلامى، والقضاء على أى محاولة للنهوض مرة أخرى.

5- تحييد أكبر عدد من المسلمين فى قضايا الصراع المعاصر، والإيحاء بان صراعهم مع الإرهاب وليس الإسلام، ولما لا وهى تساعد التيارات الأكثر عددا من المسلمين.

6- محاربة التيارات السياسية الإسلامية وإفشال مشاريعها للوصول إلى الحكم، وتدمير المنهج السياسي فى الإسلام، وبيان أن الإسلام لا يصلح لا للحكم ولا للسياسة وأن المنهج الصحيح هو فى الانكباب على الموالد والشطح والخرافة التى تمثلها الصوفية .

 

           


1-  أبو تميم معد ابن المنصور أبي الطاهر بن القائم أبي القاسم محمد ابن عبيد الله المهدي قال‏:‏ ولى الأمر بعد أبيه سلخ شوال وقيل يوم الجمعة سابع عشر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة‏.‏ وأقام في تدبير الأمور إلى سابع ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وأذن للناس فدخلوا ومولده بالمحمدية على أربع ساعات وأربع أخماس ساعة من يوم الاثنين الحادي عشر من رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة‏.‏ ومدة أيامه ثلاث وعشرون سنة وخمسة أشهر وسبع عشر يوماً‏.‏ {اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء جـ 1 /المقريزى}  2- البداية والنهاية جـ 11.

3-  صوفيات حجازية حقائق شاملة عن صوفية الحجاز/   السيد أبوعبد الله المدني نقلا عن [الخطط للمقريزي (1/490)] .

4- تأصيلات عقدية / مجلة الجندي المسلم العدد 115بتاريخ 1/5/2004 .

5 - وفيات الأعيان (3/274) .

6 - "البداية والنهاية" (13/137)  .

7 - صوفيات حجازية حقائق شاملة عن صوفية الحجاز/  السيد أبوعبد الله المدني .

8 - حقوق النبي بين الإجلال والإخلال/مقال ظاهرة الاحتفال بالمولد النبوى وآثارها/ عبد الكريم الحمدان (صـ 169) .

 

9 - المنار (2/74-76).

10 - اقتضاء الصراط المستقيم /دار العاصمة (2/123) .

11- خطط المقريزى (1/432) .

12- دمعة على التوحيد صـ 178 .

13- نقلا عن ( الإنحرافات العقدية والعلمية) ( ص 387-394 باختصار ) .

14 - دمعة على التوحيد 204.

15 - الصُّوفِيَّةُ والوَجْهُ الآخَر  د. محمّد جَميل غَازي .

16- اعترافات خطيرة حور دور التصوف في خدمة المحتل/ مجلة الراصد الإلكترونية العدد 43 محرم 1428هـ .

17- دمعة على التوحيد ص77.

18- نقلا عن ( الإنحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين) ( ص 379 – 382 ) .

19- نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي/ محمد بن عبد الله المقدي مجلة البيان عدد 223 .

20- نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي .

21- دمعة على التوحيد حقيقة القبورية وأثرها في واقع الأمة ص 208 .

22 -  نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي .

23- دور الصوفية في الجهاد!! إحسان بن محمد بن عايش العتيبـي .

24- حقوق النبي 168 .

25- دمعة على التوحيد21 .

26- دمعة على التوحيد 177 .

27- نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي     محمد بن عبد الله المقدي مجلة البيان عدد 223 بتصرف .

28- دمعة على التوحيد 186 .

29- نفسه 210 .

30-  دمعة على التوحيد 187.

31- أحمد فهمي / عفوا : ممنوع دخول السلفية والسلفيين – مجلة البيان عدد221 .