جلسة بين يدي الملك!... د. فريد الأنصاري

جلسة بين يدي الملك!... د. فريد الأنصاري




إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛..
الله أكبر
حينما ترفع رأسك خاشعًا بين يدي مولاك، ترفعه دون أن ترفع بصرك! فالملك ما زال قبلك، يرقبك من فوق عرشه العظيم، وأنت تنثر روح المحبة والإخلاص، والولاء الكامل؛ قائمًا، وراكعًا، وساجدًا، وجالسًا بين يديه، فاجلس إذن؛ دون أن تفارق عينك موضع سجودك! ولهيأة الجلسة بين السجدتين جمال آخر، وذوق جديد.
 
فقد كان النبي المعلم صلى الله عليه وسلم "يرفع رأسه من السجود مكبرًا"[1] ثم "يفرش رجله اليسرى، فيقعد عليها مطمئنًا"[2]، و"كان ينصب رجله اليمنى"[3]، و"يستقبل بأصابعها القبلة"[4]، ثم "يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه"[5]، و"كان يطيلها حتى تكون قريبًا من سجدته"[6] وأحيانًا "يمكث حتى يقول القائل قد نسى"[7]، فأي مقام هذا الذي يدخله النبي صلى الله عليه وسلم في جلسته تلك؟ وأي جمال هذا الذي يطيل مشاهدته تذوقًا، وتمليًا؟
 
هل تريد أن تعرف؟
يا أيها العبد الجالس أمام سيدك ومولاك! أنت الآن في مقام كريم، بين يدي رب كريم، ألم تر أن سيدك هو الملك العظيم، ذو العرش المجيد، قاسم الجبارين، ومذل المتكبرين، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم راويًا عن ربه: "العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني بشيء منهما عذبته"[8]، وفي رواية أخرى: "الكبرياء ردائي، فمن نازعني ردائي قصمته"[9].
 
فهذه صفوف الملائكة عنده خاشعة، وجلة: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، مولاك هذا، ذو الجلال والجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، يأذن لك الساعة بأن تجلس مطمئنًا بين يديه، وتسأله سؤال المحبين، وكان خليقًا بالعبد ألا يرى عند مولاه إلا واقفًا متمثلًا، يسمع أمره ونهيه، قارئًا خاشعًا، أو راكعًا معظمًا، أو ساجدًا منزهًا ومسبحًا للرب الأعلى.
 
ولكنه الله، الملك الكريم، يقبلك عنده جالسًا، تعبده بجلستك تلك، وكل عضو منك يدخل في سكون، وراحة، كاملين، فتغرف ما تشاء من أنوار الاستغفار، لتزرع غصنك بنشاط جديد، يمسح ما قد ناله من عناء أو عياء في سفاره، واقفًا، أو راكعًا، أو ساجدًأ... دون أن تتوقف عن المسير إلى الله في جلستك، فهو جلوس من غير توقف، كأنك على ظهر براق يطوي بك السماوات، وأنت ساكن بمقعدك المريح، فلتناج مولاك متأدبًا بخفقات المحبة والحياء، لما أفاض عليك من إنعام وتكريم.
 
"اللهم اغفر لي.. وارحمني.. واجبرني.. وارفعني.. واهدني.. وعافني.. وارزقني"[10]، تدعو.. وأنت تتملى هبة الملك الوهاب، ثم تنظر إلى نفسك في جلستك تلك، فتحس أنك بقدر ما تجد عظمة الهبة التي لا تحاط شكرًا؛ ولا بعدد أنفاس بني آدم، حمدًا، وثناء، وتسبيحًا، بقدر ما تشعر بهول التقصير في حق الله، فيستبد بك الحياء وتبكي:
 
"رب اغفر لي! رب اغفر لي!"[11]... حتى تذوب الأنفاس!
وتمضي في تأملاتك، ذاكرًا متفكرًا؛ حتى يغلبك نافح الشوق؛ فتضرب بجناحيك إلى المقام الأقرب مرة أخرى؛ ساجدًا لله الواحد القهار، تغرف من بعد التخلي جمال التحلي، كي تنهض بعد ذلك إلى ركعة أخرى قائمًا، وراكعًا، فساجدًا، فجالسًا، عبر مقامات من السفار في مملكة الله، ذات أذواق وأحوال.

الهوامش:
[1] متفق عليه، البخاري: (803)، ومسلم: (770).
[2] رواه مسلم، (240).
[3] رواه البخاري: (803).
[4] رواه النسائي بسند صحيح.
[5] رواه أبو داود والبيهقي بسند صحيح.
[6] متفق عليه.
[7] متفق عليه.
[8] رواه مسلم.
[9] أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، قال: الألباني: "وهو كما قالا".
[10] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي.
[11] رواه ابن ماجه بسند حسن، رقم: (897).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
جلسة بين يدي الملك!... د. فريد الأنصاري doc

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى