حكم تهنئة الكفار بأعيادهم... أمين بن عبدالله جعفر

حكم تهنئة الكفار بأعيادهم... أمين بن عبدالله جعفر



أمين بن عبد الله جعفر
الحمد لله الواحد الأحد، الصمد الذي لم يلد ويولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنَّة حقٌّ، والنار حقٌّ... أما بعد:
فهذه ورقاتٌ قلائل في بيان حكم تهنئة الكفار بأعيادهم، كتبتها على إثر تفشي هذه الضلالة الشنيعة في أوساط طوائف من أبناء المسلمين، وظهور فتاوى عن عددٍ ممن ينتسب للعلم وينتمي للفتيا ممن أباحوا ذلك وجوّزوه، بل لم يقف الأمر عند بعضهم إلى هذا الحدّ حتى ادعى استحباب ذلك ونَدَبَ إليه، وهذا من بلايا هذا الزمان ورزايا هذا العصر، والذي كأنما النبي صلى الله عليه وسلم عناه بقوله: (سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة.  قالوا: ومن الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة). وفي لفظٍ (السفيه) وفي لفظٍ (الفويسق). خرَّجه أحمد وابن ماجة والطبراني والحاكم.

حقاً إننا لفي زمانٍ جثمت فيه علينا السنون الخداعات = فصُدِّق فيها الكاذب، وكُذِّب فيها الصادق، وخُوِّن فيها الأمين، وأؤتُمن فيها الخائن، ونطقت الرويبضة، ووسد الأمر لغير أهله، واتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلّوا، إلا ما رحم ربك، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
 
 
بيان حكم تهنئة الكفار بأعيادهم:
الأعياد جمع عيد، وسمي العيد عيداً لأنَّه يعود بعود الزمان أو المكان، وللأعياد في دلائل الوحي وأحكام الشريعة الإسلامية خصوصيةٌ مغايرةٌ لسائر قضايا العادات، ولبيان هذه الخصوصية سنستعرض جملةً من الأحاديث النبوية الواردة في الأعياد:
 فمنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما. قال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أبدلكم الله خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر". خرَّجه أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي في سننهما.

وحديث عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لكلِّ قومٍ عيداً، وهذا عيدنا". خرَّجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق: عيدنا أهل الإسلام". خرَّجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي.

وحديث ثابت بن الضحاك قال: نذر رجلٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ ينحر إبلاً ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنَّه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله". خرَّجه أبو داود في سننه.

فمن خلال نصوص السنَّة النبوية هذه نخلص إلى الحقائق التالية:
-أنَّ العيد في الشريعة الإسلامية ليس مجرد عادةٍ اجتماعيةٍ بحتة لا علاقة للدين بها، بل الدين يحكمها زماناً ومكاناً؛ ولهذا منع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ما سوى أعياد الإسلام بمانعٍ قويٍ حاسم، فقال: "أبدلكم الله خيراً منهما"، والإبدال يقتضي إحلال البدل محلَّ المبدل، وزوال المبدل تماماً، وإذا زالت الأعياد التي كانوا يحتفلون بها في جاهليتهم، وهي من ضمن نسيجهم الاجتماعي فلئن تزول الأعياد التي للأمم المخالفة للمسلمين دينياً وعقائدياً من باب أولى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان للناس في الجاهلية أعيادٌ يجتمعون فيها، ومعلومٌ أنَّه بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ محى الله ذلك عنهم، فلم يبق شيءٌ من ذلك .
ومعلوم أنَّه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد؛ لأنَّ المقتضي لها قائمٌ من جهة الطبيعة التي تحب ما يصنع في الأعياد -خصوصاً أعياد الباطل- من اللعب واللذات، ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد، فإنَّ العادة طبيعة ثانية، وإذا كان المقتضي قائماً قوياً، فلولا المانع القوي؛ لما درست تلك الأعياد.
وهذا يوجب العلم اليقيني، بأنَّ إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كان يمنع أمته منعاً قوياً عن أعياد الكفار، ويسعى في دروسها وطمسها بكلّ سبيل.) [اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 499)]

حكم صلى الله عليه وسلم حكماً عاماً وهو قاعدةٌ دينيةٌ شرعيةٌ أنَّ ما سوى أعياد الإسلام من أعياد أهل الجاهلية وما في حكمها من أعياد الأمم الأخرى كأعياد اليهود والنصارى أنَّها معصيةٌ لله تعالى، حيث قال في حديث ثابت بن الضحاك: "أوف بنذرك، فإنَّه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله"، عقب سؤاله: "أكان فيها عيدٌ من أعياد الجاهلية؟ فقالوا: لا"، ولو أجابوا بنعم؛ لمنعه من الوفاء بنذره، ولكانت مشاركته بالذبح لله في عيدٍ من أعياد الجاهلية معصيةً لله.  

-أنَّ الأعياد بعامّةٍ من الشعار والشعائر التي تتميّز بها الأمم بعضها عن بعض، وكذلك الحال في أعياد أهل الإسلام فهي من الشعائر التي يتميز بها المسلمون عن غيرهم، "فلكلِّ قومٍ عيد وهذا عيدنا" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فالعيد شعيرةٌ من جملة الشعائر والشرائع الإسلامية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأعياد من جملة الشرائع والمناهج والمناسك، التي قال الله سبحانه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإنَّ الموافقة في جميع العيد موافقةٌ في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقةٌ في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخصّ ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقةٌ في أخصّ شرائع الكفر، وأظهر شعائره.

 ولا ريب أنَّ الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه، وأمّا مبدؤها فأقلُّ أحواله: أنْ تكون معصية.) [اقتضاء الصراط المستقيم (1/528)]  
ولهذا كان من ثمار تلك الحقائق ذلكم الموقف الفقهي الصارم من علماء المسلمين تجاه أعياد غير المسلمين، حيث لم يُجوّز علماء المسلمين لأهل الذمة من اليهود والنصارى أنْ يُظهروا أعيادهم في بلاد المسلمين، كما نصّوا على تحريم مشاركة المسلمين لهم في أعيادهم والفرح والسرور معهم بها ولو بقبول هداياهم التي ما أهدوها إلا بمناسبة عيدهم، ومنعوا من معاونتهم على إقامة أعيادهم بأيّ نوعٍ من أنواع المعونة ولو قلَّ حتى ببيعهم أو إكرائهم ما يستعينون به على إقامة أعيادهم، وحرموا تهنئتهم بهذه الأعياد وقد حكى ابن القيم رحمه الله تعالى اتفاق أهل العلم على ذلك.
وعمدتهم في ذلك إضافةً إلى ما سلف ذكره من أحاديث نبوية قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}، والزورُ في تفسير جماعةٍ من السلف من التابعين وغيرهم: أعياد المشركين.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "منْ تشبه بقومٍ فهو منهم" خرَّجه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه من حديث ابن عمر، ومن التشبه بهم مشاركتهم أعيادهم، وتهنئتهم بها كما يُهنأ بعضهم بعضاً، فيشابههم ويشاركهم بالتهنئة.
وكذا ما قاله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اجتنبوا أعداء الله في عيدهم". خرَّجه البخاري في التاريخ الكبير ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى، والاجتناب أنْ يكونوا هم وأعيادهم في جانب ويكون المسلمون في جانبٍ آخر، فلا مشاركة ولا سرور وفرح ولا معاونة ولا تهنئة ولا غير ذلك، بل مجانبةٌ تامةٌ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: (لا يحلُّ للمسلمين أنْ يتشبهوا بهم في شيءٍ مما يختص بأعيادهم، لا من طعامٍ ولا لباسٍ ولا اغتسالٍ ولا إيقاد نيرانٍ ولا تبطيل عادةٍ من معيشةٍ أو عبادةٍ أو غير ذلك. ولا يحلُّ فعل وليمةٍ ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك. ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينةٍ. وبالجملة ليس لهم أنْ يخصوا أعيادهم بشيءٍ من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم.
... وتخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء. بل قد ذهب طائفةٌ من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الكفر.
... وكذلك نهوا عن معاونتهم على أعيادهم بإهداءٍ أو مبايعةٍ، وقالوا: إنَّه لا يحلُّ للمسلمين أنْ يبيعوا للنصارى شيئاً من مصلحة عيدهم لا لحماً ولا دماً ولا ثوباً، ولا يعارون دابةً، ولا يعاونون على شيءٍ من دينهم؛ لأنَّ ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم.) [مجموع الفتاوى (25/ 329 -332)]

وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: (وكما أنَّهم لا يجوز لهم إظهار [عيدهم]، فلا يجوز للمسلمين ممالأتهم عليه، ولا مساعدتهم، ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله. وقد صرح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم.) [أحكام أهل الذمة (3/ 1245)]

وقال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى-: (فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم... وأيُّ منكرٍ أعظم من مشاركة اليهود والنصارى في أعيادهم ومواسمهم.) [تشبه الخسيس بأهل الخميس للذهبي - رسالة منشورة في مجلة الحكمة (4/ 193 – وما بعدها)]

وأمَّا بخصوص تهنئة الكفار بأعيادهم فقد قال ابن القيم: (وأمَّا التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل: أنْ يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إنْ سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أنْ يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثيرٌ ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصيةٍ أو بدعةٍ أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه.) [أحكام أهل الذمة (1/ 441)]

اعتراضٌ وتفنيد
لقد قرأت لبعض عصريينا مقالاً يجوّز فيه تهنئة الكفار بأعيادهم، ويردُّ فيه الإجماع الذي حكاه ابن القيم رحمه الله تعالى على تحريم تهنئة الكفار بأعيادهم، بدعوى أنَّه لا مستند له من الكتاب والسنَّة، فلم يرد في القرآن ولا في السنَّة دليلٌ خاصٌ على تحريم تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية، وكذلك لم ينصَّ أحدٌ من أهل العلم لا من الصحابة ولا التابعين ولا أتباع التابعين ولا الأئمة الفقهاء المتبوعين = أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد لم ينصَّ أحدٌ على تحريم تهنئة الكفار بأعيادهم نصّاً صريحاً.
وأقول: هذا التقرير لم يوفق فيه كاتبه للصواب، وبيان ذلك كما يلي:
إنَّ مسائل العلم والفقه والدين إمَّا أنْ تكون وفاقية أو خلافية، وهذه المسألة باتفاق من يُنازعنا فيها من المعاصرين لم ينقل فيها عن علماء الإسلام وفقهاء الملة خلافٌ، فلا تخلو إذن من كونها وفاقية، وإذا كانت وفاقية: فالعلماء فيها إمَّا أنْ يكونوا قد اتفقوا على جوازها، وهذا لمْ يقله أحدٌ فيما أعلمه، حتى من ينازع من المعاصرين لم أعلم أحداً منهم إلى الساعة تجرَّأ وادعى الإجماع على الجواز، وإمَّا أن يكون علماء المسلمين قد اتفقوا على تحريمها والنهي عنها، وهذا ما حكاه الإمام ابن القيم رحمه الله، حيث قال: (التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل: أنْ يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه.) وهو الحقُّ الذي لا ريب فيه ولا مرية، وذلك لأمور:

1/ أنَّ الإمام العلاّمة المحقق ابن القيم حكى الإجماع على ذلك وتتابع العلماء والفقهاء في عصره والأعصار التي بعده إلى زماننا هذا على إقراره وعدم الاعتراض عليه، ولو كان في حكايته الإجماع أدنى مغمز لانبرى غير واحدٍ من العلماء لنقده وبيان غلطه، ولما تتابعوا على السكوت عليه، خاصةً إذا استصحبنا الحال التي كان عليها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه من بعده وخاصةً ابن القيم الذي يُعدُّ من أبرزهم، وما كانوا عليه من الاضطهاد والتضييق والمنافرة والمضادّة والعداوة والبغضاء من قبل علماء عصرهم ومن بعدهم للاختلاف والتنافر العقدي والفقهي، فلو أنَّ ثمت غلطاً فيما حكاه ابن القيم من إجماع ما تركوها له ولطاروا بها كلَّ مطار.

2/ أنَّ القول بتحريم تهنئة الكفار بأعيادهم هو الأوفق لدلائل الوحي في ميزان التعامل مع الكفار بعامّة وفيما يتعلق بشعائرهم الدينية بخاصة، وهو الأقرب لمقاصد الشريعة في هذا الباب = باب التمايز والمخالفة والمباينة والمغايرة للكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وإقامة الفوارق بين ملة وأمة الإسلام وسائر الملل والأمم والتي أرسى دعائمها وأسس قواعدها الإسلام، وهو المتطابق تماماً مع منهج الإسلام في الأعياد = أعياد المسلمين وأعياد الأمم الأخرى، والذي سبق شرح جملةٍ منه في مقالٍ سابق.

3/ أنَّ الوحي = كتاباً وسنَّة محكمٌ متقنٌ لا اختلال فيه ولا اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}، وأحكام الشريعة أحكامٌ مطردةٌ مستقيمةٌ، ونظامها نظامٌ بديعٌ دقيق، كونها صدرت عن الحقّ المبين المستقيم الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا}، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
فهذه الشريعة المحكمة المستقيمة لا تجمع بين المختلفات، ولا تفرق بين المتماثلات، فما كانت الشريعة الإسلامية لتحرم أمراً وتبيح ما هو أغلظ منه، أو تنهى عن فعلٍ وتبيح ما يماثله ويجامعه في علة المنع، وقس على هذا..

ومن ذلك ما نحن بصدده هاهنا فما كانت الشريعة الإسلامية لتأتي بالنهي عن شهود أعياد الكفار، وعدّها زوراً ومعصيةً، وتحرم مشاركتهم فيها بأيّ نوعٍ من أنواع المشاركة، بل ومحصل أحكامها الدعوة إلى مقاطعة أعياد الكفار حسيّاً ومعنوياً، ثم تأتي لتبيح تهنئتهم بها، وإدخال الفرح والسرور عليهم بمناسبتها، سبحانك ربي إنَّ هذا لاختلافٌ كبير.

4/ أنَّ مما يُبيّن من هو باقٍ على الأصل فيُطالبُ مخالفه بالدليل النظر إلى واقع الحال، حيث إنَّ أرض العرب كان فيها يهودٌ ونصارى، وكان اليهود في المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده حتى أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وكان في اليمن يهود وفي نجران نصارى وفي البحرين فرسٌ، ومن المعلوم أنَّ هؤلاء كانت لهم أعيادٌ يتخذونها، ومن المعلوم أيضاً أنَّ المقتضي لما يفعل في العيد من المشاركة الحسية من الأكل، والشرب، واللباس، والزينة، واللعب، والراحة، ونحو ذلك، ومن المشاركة الوجدانية من الفرح والسرور وتبادل التهاني قائمٌ في النفوس كلّها إذا لم يوجد مانعٌ، خصوصاً في نفوس الصبيان والنساء وأكثر الفارغين من الناس.
ثم من كانت له خبرةٌ بالسيرة علم يقيناً أنَّ المسلمين على عهده صلى الله عليه وسلم ما كانوا يشركونهم في شيءٍ من أمرهم، ولا يغيرون لهم عادةً في أعياد الكفار، بل ذلك اليوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين يومٌ من الأيام لا يخصونه بشيءٍ أصلاً.

فلولا أنَّ المسلمين كان من دينهم الذي تلقوه عن نبيهم منع ذلك والكفُّ عنه، لوجب أنْ يوجد من بعضهم فعل بعض ذلك؛ لأنَّ المقتضي إلى ذلك قائمٌ كما تدل عليه الطبيعة والعادة، فلولا المانع الشرعي لوجد مقتضاه، وعلى هذا جرى عمل المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين([1]).

فمع وجود كلِّ هذه المقتضيات المتوافرة المتضافرة والبواعث الدافعة الداعية بكلِّ قوةٍ على وقوع التهنئة للكفار بأعيادهم التي تتكرر كلَّ عامٍ وعموم البلوى بذلك على المسلمين المخالطين والمتاخمين للكفار، مع وجود كلّ تلك المقتضيات والبواعث الداعية لوقوع التهنئةِ وحصولها ولو مرةً واحدةً ولو عَرَضاً دون قصد، ومع ذلك كلّه لم يُنقل شيءٌ من ذلك.
أوليس في ذلك دليلٌ ساطع وبرهانٌ جليّ على عدم وجود شيءٍ من ذلك؛ لتمكن عقائد الإسلام ومقاصد الشريعة في نفوس المسلمين في هذا الباب من التمايز والمفاصلة والمجانبة والمغايرة والمخالفة للكافرين.   
وعليه؛ أفلا يدلُّ ما سبق ذكره على أنَّ العادة المطردة والأصل المستقرَّ والأمر المعهود عند المسلمين المنع التام عن مشاركة الكفار في أعيادهم أيّاً كانت تلك المشاركة ولو بمجرد تهنئتهم بعيدهم. وعندها نقول: من المطالب بالنقل في تهنئة الكفار بأعيادهم آلمانع أمْ المبيح؟!!

5/ أنَّ حال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء السلف الصالح في العلم والفقه والفتيا أنَّهم كانوا يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، ولا يُجيبون عن ذلك. وإذا سئلوا عن شيءٍ من ذلك يقولون: أكان هذا؟ فإنْ قالوا: لا، قال: دعوه حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا وتجشمنا الجواب عنه.
فلمّا لم تكن تلك المسائل حادثةً في حياتهم لم يُسألوا عن حكمها، ولما كانت تلك الأحكام مستقرَّةً في نفوس المسلمين لم يحتاجوا إلى بيانها على جهة الخصوص، واكتفوا ببيان الحكم الكليّ العام في المنع والنهي عن شهود أعياد الكفار.

6/ أنَّ علماء الإسلام وفقهاء الملّة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من السلف الصالح إذا بيّنوا حكم المسألة بياناً عاماً لم يحتاجوا أنْ ينصّوا على آحاد وفروع تلك المسألة فرعاً فرعاً، ولا أنْ يذكروا الجزئيات المتعلقة بتلك المسألة على جهة التخصيص جزئيةً جزئية، فيكتفون بذكر الأصل العام دون تعداد فروعه، وبيان القاعدة الجامعة دون التنصيص على جزئياتها، وربما يذكرون الفرع والفرعين لتكون مثالاً يُقاس عليها ما لم يذكر من نظائرها، إمَّا قياس تمثيلٍ، أو قياس الأولى.
فالسلف الصالح رضوان الله عليهم كان كلامهم قليلاً كثير البركة، يتكلم الواحد منهم باللفظ اليسير الذي يحوي من المعاني الشيء الكثير، فيوجز القول ويوسع المعنى.
ولأختم هذا المعنى بفتويين إحداهما للإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة: قال الإمام مالك: (ولا يُكري دابته منهم إذا علم أنَّهم إنَّما استكروها ليركبوها إلى أعيادهم.) [المدونة (3/ 435)]
والثانية لابن القاسم تلميذ الإمام مالك وراوية علمه في المدونة الكبرى: قال عبد الملك بن حبيب في كتابه "الواضحة": (سئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم؟ فكره ذلك مخافة نزول السخطة عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه. وكره ابن القاسم للمسلم يهدي للنصارى شيئاً في عيدهم مكافأةً لهم، ورآه من تعظيم عيدهم وعوناً لهم على مصلحة كفرهم، ألا ترى أنَّه لا يحل للمسلمين أنْ يبيعوا من النصارى شيئاً من مصلحة عيدهم؟ لا لحماً، ولا إداماً، ولا ثوباً، ولا يعارون دابةً، ولا يعاونون على شيءٍ من عيدهم؛ لأنَّ ذلك من تعظيم شركهم، ومن عونهم على كفرهم، وهو قول مالكٍ وغيره، لم أعلمه اختلف فيه.)
قال شيخ الإسلام عقب هذا النقل: فهذا كلُّه كلام ابن حبيب. [اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 18-20)]

فإذا كان مجرد كراء الدابة التي يركبونها للذهاب إلى أعيادهم نهى عنه الإمام مالك، ومجرد مشاركتهم الركوب في سفينةٍ تقلهم إلى أعيادهم يكرهه ابن القاسم ومالك وابن حبيب، بل يقول ابن حبيب: هو قول مالك وغيره، لم أعلمه اختلف فيه. أفيقول عاقلٌ بعد ذلك إنَّ هؤلاء الأئمة لا يرون بأساً بتهنئة الكفار بأعيادهم. سبحانك ربي هذا بهتانٌ عظيم. 

7/ أنَّه لما ضعفت أمة الإسلام وداخلوا النصارى وحصل عندهم من رقّة الدين ما أحدثوا معه هذه المعصية = تهنئة النصارى بأعيادهم مما حدا بالمتأخرين من فقهاء الإسلام وعلماء الملة أنْ ينصّوا على هذه المسألة بخصوصها ويبينوا حكمها، بل واحتاجوا إلى التفصيل الدقيق والتفريق المنضبط بين الأحوال التي تكون فيها التهنئة كفراً، والأحوال التي تكون فيها دون ذلك = مجرد معصيةٍ وفسق، كما أفتى البُلقيني -من فقهاء الشافعية المتأخرين- حين سُئل: (مسلمٌ قال لذميٍّ في عيدٍ من أعيادهم: عيد مبارك، هل يكفر؟ فأجاب: إنْ قاله المسلم للذميّ على قصد تعظيم دينهم وعيدهم بحقيقةٍ فإنَّه يكفُر، وإنْ لم يقصد ذلك، وإنما جرى ذلك على لسانه، فلا يكفُر بما قاله من غير قصد.) [فتاوى البلقيني (986)]

فحين تكون الحال الأولى كفراً فإنَّ الحال الثانية تكون معصيةً ولابدَّ، كمن يسب الدهر: إنْ أراد بالدهر خالقه وخالق ما فيه من أحداث كفر، وإنْ لم يرده فذاك حرامٌ ومعصية، وقلْ مثل ذلك في الحلف بغير الله تارةً يكون شركاً وكفراً أكبر وتارةً يكون شركاً أصغر ومعصيةً وفسوق، وكذا التشبه بالكفار تارةً يكون كفراً وتارة يكون فسقاً ومعصيةً، في نظائر عديدةٍ غير هذا.

وختاماً: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنَّ مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل، خصوصاً إذا كانوا مقهورين تحت ذلّ الجزية والصغار، فرأوا المسلمين قد صاروا فرعاً لهم في خصائص دينهم، فإنَّ ذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح صدورهم، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص، واستذلال الضعفاء، وهذا أيضاً أمرٌ محسوسٌ لا يستريب فيه عاقل، فكيف يجتمع ما يقتضي إكرامهم بلا موجب مع شرع الصغار في حقهم؟!) [اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 546)]
أقول: وكذلك تهنئتهم بأعيادهم يوجب سرور قلوبهم وانشراح صدورهم وقوة قلوبهم لمزيدٍ من استذلال المسلمين وامتهانهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
هذا والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين
حرر في 5/ جماد الأولى / 1441هـ
 
 
 
[1] - استفدت أكثر ذلك الكلام من شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (1/449-450).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
حكم تهنئة الكفار بأعيادهم doc
حكم تهنئة الكفار بأعيادهم pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى