مجاهدة النفس على الطاعة في رمضان

مجاهدة النفس على الطاعة في رمضان





الكاتب: محمد بن عبد الله المقدي
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ رمضانُ قال: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائمٌ، مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي)([1]).
رمضانُ فرصةٌ عظيمةٌ لترويضِ النفسِ، فالصائمُ مأمورٌ بأن لا يرفثَ ولا يجهلَ ويضبطَ أخلاقَه، حتى وإن قاتله أو شاتمه أحدٌ فليذكِّر نفسَه بتلك الحقيقةِ، ويقول: إنِّي صائمٌ، وفي الصيامِ يعوِّدُ الإنسانُ نفسَه على تركِ بعضِ المباحات لله، فيتركُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه لله تعالى، فيفطمُها على هذه المحبوباتِ وهي أصلُ مجاهدةِ النفسِ.
فـ(أصلُ مجاهدةِ النّفسِ فطمُها عن المألوفاتِ، وحملُها على غيرِ هواها، وتمامُ المجاهدةِ أن يكونَ متيقّظًا لنفسِه في جميعِ أحوالِه، فإنّه متى غفلَ عن ذلك استهواه شيطانُه ونفسُه إلى الوقوعِ في المنهيّات)([2]).
ورمضانُ فرصةٌ عظيمةٌ للصبرِ والمصابرةِ، ومجاهدةِ النفسِ، فالشياطينُ مصفدةٌ، والنفسُ منكسرةٌ، والروحُ متأثرةٌ، والناسُ من حولِك صيامٌ قيامٌ، إذًا فالأجواءُ والظروفُ كلُّها مهيئةٌ للابتعادِ وهجرِ المعاصي.
وقال المناوي: (إنما شُرعَ الصومُ؛ كسرًا لشهواتِ النفوسِ، وقطعًا لأسبابِ الاسترقاقِ والتعبدِ للأشياءِ، فإنَّهم لو داوموا على أغراضِهم لاستعبدَتْهم الأشياءُ، وقطعتُهم عن اللهِ، والصومُ يقطعُ أسبابَ التعبدِ لغيرِه، ويورثُ الحريةَ من الرقِّ للمشتهياتِ؛ لأنَّ المرادَ من الحريةِ أن يملكَ الأشياءَ لا تملكُه، فإذا ملكته فقدْ قلبَ الحكمةَ، وصيرَ الفاضلَ مفضولًا، والأعلى أسفلًا)([3]).
فالصائمُ يلتزمُ ثلاثين يومًا بالانقطاعِ عن الطعامِ والشرابِ والشهوةِ طواعيةً وبإرادتِه، ويتحكمُ في انفعالاتِه، فلا يردُّ على سبابٍّ وإهانةٍ، بل يتترَّس بقوله: إنِّي صائمٌ، وهي مدةٌ طويلةٌ كافيةٌ لإحداثِ التغييرِ المنشودِ إذا صدقت النوايا.
وإذا كان علماءُ النفسِ يشيرونَ إلى أن استمرارَ المرءِ على السلوكِ نفسِه من 6 إلى 21 مرةً يغرسُ الفعلَ في النفسِ ويحوِّلُه إلى سلوكٍ، فإنَّ بركةَ الزمانِ اليومَ بِتَفَتُّحِ أبوابِ الجنةِ وتغليقِ أبوابِ النارِ، وضعفِ العدوِّ بتصفيدِ الشياطينِ حتى لا تصلَ إلى ما كانت تصلُ إليه قبلَ رمضان، وعمومِ العفوِ ليشملَ عتقاءً كلَّ ليلةِ، كلُّ هذه بمثابةِ عواملَ مساعدةٍ فعالةٍ تجعلُ النتيجةَ أروعَ والتغييرَ أدومَ.
فيا أيها المسلم، بدلْ اهتمامَك وروض نفسَك، فإن النفسَّ لن ترضى إذا لم تروضْ؛ {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41].
وقد مدحَ صلى الله عليه وسلم كلَّ من روضَ نفسَه فقال في شأنِ من يغضبْ سريعًا: (لَيْسَ الشَّدِيْدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيْدُ الَّذِيْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)([4])، فالذي يستطيعُ أن يروضَ نفسَه هو المستحقُّ للمدح.
ومجاهدةُ النفسِ من أنواعِ الجهادِ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ للَّهِ)([5])، فالنفسُ إذا كانت تهوى وتشتهي، والمرءُ ينهاها ويزجرها كانَ نهيُه إياها عبادةً لله تعالى يثابُ عليها.
والمرءُ إلى جهادِ نفسِه أحوجُ منه إلى جهادِ الكفار، فإنَّ هذا فرضُ كفايةٍ، وجهادُ النفسِ فرضُ عينٍ، ومَنْ جاهدَ النفسَ لا يكون محمودًا فيه إلا إذا غَلَب، بخلاف جهادِ الكفارِ، فإنه كما قال جل وعلا: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74].
وقد سارَ عمر رضي الله عنه على دربِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مجاهدةِ النفسِ وترويضِها ومحاسبتِها، فقال: (حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرضِ الأكبرِ على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]) ([6]).
فمنْ حاسبَ نفسَه قبلَ أن يحاسبَ خفَّ في القيامةِ حسابُه، وحضرَ عند السؤالِ جوابُه، وحسنَ منقلبُه ومآله، ومن لم يحاسبْ نفسَه دامت خسارتُه، وطالت في عرصاتِ القيامةِ وقفاتُه، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاتُه.
ومحاسبةُ النفسِ المؤمنةِ سمةٌ للمؤمنِ الصالحِ، والكيسُ من دانَ نفسَه وعملَ لما بعد الموت، والعاجزُ من أتبعَ نفسَه هواهَا وتمنى على اللهِ الأماني.
أخي القارئ: لابدَ في هذه الحياةِ من مجاهدةِ النفسِ، فالنفسُ أمارةٌ بالسوءِ، وقدْ تغرُّ الإنسانَ هذه الحياةُ الدنيا ومتاعُها وزخارفُها. فهكذا خلقَها الله تعالى، كثيرةُ الأمرِ لصاحبِها بالسوءِ، تستثقلُ تكاليفَ الإيمانِ، وتتوقُ إلى هواها من أصنافِ الشهواتِ، وأنواعِ الملذاتِ، من حلٍّ أو حرامٍ، فهي كالطفلِ الصغيرِ الذي لا يدري أن مصلحتَه في فطامِه عن رضاعِه.
وبجانبِ ذلك فقد خلقَ الله تعالى عند هذه النفسِ استعدادًا للتزكيةِ والتطهرِ، فكما أن فيها قبضةً من طينٍ، ففيها أيضًا نفخةً علويةً من روحِ ربها جل وعلا، تشدها دومًا إلى بارئِها وخالقِها، فهي وسطٌ بين الملاكِ الذي هو خيرٌ خالصٌ، وبين الشيطانِ الذي هو شرٌّ خالصٌ.
ومن ثَمَّ؛ فقد وصفَها خالقُها وصفًا دقيقًا، وقال لنا فيها: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10].
فكما خلقَ اللهُ تعالى في النفسِ نوازعَ الشرِّ التي تشدُّها إلى الأرضِ، خلقَ فيها نوازعَ الخيرِ التي تشدُّها إلى السماءِ، وتَرَكَ للإنسانِ الخيارَ في الانضمامِ إلى أحدِ الفريقينِ، فريقِ الفلاحِ الذي زكَّى نفسَه وطهرَها بطاعةِ الله، وفريقِ الخيبةِ والخسرانِ الذي أهانَها ودسَّاها بمعصيةِ الله.
ولا يتمُّ للسالكِ إلى الله انتسابُه إلى حياةِ النورِ حتى يأخذَ بحجزِ نفسِه عن شهواتِها، ويفطمُها عن ملذاتِها، وينصرُ ربَّه على نفسِه، فيستحقُّ من بعدِها أن يكونَ ممن رحمهم الله.
فأماتَ أنفسَهم الأمارةَ بالسوءِ، وأبدلَهم بها أنفسًا مطمئنةً، تهوى طاعةَ ربها ومراضيه، وتنفرُ من معصيتِه ومساخطِه، لتسمعَ النداءَ العلويَّ الجليلَ في ساعةِ الرحيلِ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30].
فما أحرانا بالمحاسبةِ مع أنفسِنا، وما أحرى وأحقُّ أن يقفَ المسلمُ مع نفسِه بذلك مذكرًا لها، ومحاسبًا إيَّاها عما أسلفته بحقٍّ وصدقٍ معاتبًا لها: وَيْحَكِ أيتها النفس! ما دورك؟! وما أشدُّ غفلتَك وسِنَتَكِ؟! ما موقفُكِ من فرائضِ الإسلامِ، وشرائعِ الدينِ وقضاياه، وما يتطلبُه من جدٍّ وتضحياتٍ؟ قال مالك بن دينار: رحم الله عبدًا قال لنفسِه: ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟ ثم ذمَّها، ثم خطمَها، ثم ألزمَها كتابَ الله تعالى فكانَ لها قائدًا.
فلنجعلْ من رمضانَ وقفةً مع النفسِ، ومحطةً لترويضِها، فنعوِّدُ حواسَّنا على الطاعةِ، نعوِّدُ العينَ على النظرِ في المصحفِ، ونمنعُها من النظرِ إلى المحرماتِ، نعوِّدُ آذانَنا على سماعِ القرآنِ وعلى سماعِ العلمِ، ونمنعُها من سماعِ المحرماتِ، نعوِّدُ آلسنتَنا على إدمانِ الذكرِ والإكثارِ منه، ونعوِّدُه على الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، نروضُه أن يقولَ الصدقَ وأن يبذلَ النصيحةَ للمسلمينَ؛ لأن هذه الحواسَّ إنما هي منافذُ للقلبِ.
فالعينُ توصلُ إليه النظرات، والأذنُ توصلُ إليه الكلمات، واللسانُ يوصلُ إليه السيئات، والإنسانُ مسئولٌ عن جوارحِه وحواسِّه هذه يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فلابد من تروضِيها استعدادًا لأن تكونَ لينةً منقادةً لك في رمضان، ويسهلُ عليكَ فيه قيادها.
ولابد من الصبرِ على التمرينِ، واليقينِ من أن اللهَ سيفتحُ عليكَ مع مداومةِ الوقوفِ ببابِه، فالزم البابَ واصطبر، والله سبحانه وتعالى كريمٌ شكورٌ، إذا رآكَ تجاهدُ فيه وتروضُ نفسَك على طاعتِه فلن يُضَيِّعك بل سيعينُك ويوفقُك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
إنَّ أعجبَ الأشياءِ مجاهدةَ النفسِ ومحاسبتِها، لأنها تحتاجُ إلى صناعةٍ عجيبةٍ، وقدرةٍ رهيبةٍ، فإن أقوامًا أطلقوها فيما تحبُّ؛ فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن آخرين بالغوا في خلافِها حتى ظلموها ومنعوها حقَّها، وأثَّرَ لومُهم لها في تصرفاتِهم وتعبداتِهم، ومن الناسِ من أفردَ نفسَه في خلوةٍ وعزلةٍ أثمرت الوحشةَ بين الناسِ وآلت إلى تركِ فرائض، أو فضلٍ من عيادةِ مريض أو برِّ والد.
وإنما الحازمُ المحكمُ من تعلمَت منه نفسُه الجدَّ وحفظَ الأصولِ، فالمحققُ المنصفُ هو من يعطيها حقَّها ويستوفي منها ما عليها، وإن في الحركةِ بركةً، ومحاسبةُ النفس حياةٌ، والغفوةُ عنها لونٌ من ألوان القتل صبرًا.
إن العبدَ المسلمَ لن يبلغَ درجة التقوى التي هي غايةُ الصومِ حتى يحاسبَ نفسَه على ما قدمت يداه، وعلى ما يعقبُ عليه العزمُ في شئونِه في جميعِ الأمور، فينيبُ إلى اللهِ مما اجترحَ من السيئاتِ، ملتمسًا عفوَ الله ورضاه طامعًا في واسعِ رحمتِه وعظيمِ فضله.


([1]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم، رقم: (1894)، ورواه مسلم، كتاب الصيام، باب حفظ اللسان للصائم، رقم: (1151).

([2])فتح الباري (11/ 345- 346)، بتصرف واختصار.

([3]) فيض القدير، المناوي، (4/278).

([4]) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم الحديث: (6114)، ورواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، رقم 2609.

([5])رواه الترمذي (1621)، وصححه الألباني.

([6]) مختصر منهاج القاصدين، المقدسي (4/142).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
مجاهدة النفس على الطاعة في رمضان.doc doc
مجاهدة النفس على الطاعة في رمضان.pdf pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى