المتواتر من الأماكن المأثورة في مدونات التاريخ المكي الخاص

المتواتر من الأماكن المأثورة في مدونات التاريخ المكي الخاص





        الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد؛  نلحظ دعوى المؤلف أن بعض كتب المتأخرين خلت من ذكر الأماكن المأثورة، لأسباب فكرية تخيم على الوسط العلمي لا تحبذ مثل هذا[1].

          وهذا الكلام من معالي الدكتور دعوى بلا برهان، بل وفيه إجمال فهي تهمة لم يبرزها ولم يذكر دليله عليها، بل وكلامه يكاد يكون غامضا ولا يدري ما مقصوده منه، وهل قوله هذا صحيح، أم ليبرر لنفسه أمام القارئ الذي قد ينتقد نقله، بأن هناك مؤلفات في هذا الباب لم تذكر ما ادعى تواتره، إذ لو كانت متواترة لذكرت، فالمتواتر لا يستطيع أحد رده، فيوهم القارئ أن هؤلاء لم يقولوا ذلك لأجل هذه الأسباب الفكرية التي تخيم على الوسط العلمي وتمنعهم من ذكر ذلك، وهذا ليس بصحيح.

وهذا المبحث قد ملأه معالي الدكتور بالدعاوي التي لم يقم عليها دليلا واحدا، وبالمغالطات العلمية، وإليك تفصيلها:

          المغالطة الأولى:دعوى معالي الدكتور أن الأزرقي رحمه الله سلك مسلك التوثيق للأماكن وفحص الروايات ورد الزائف وإثبات الصحيح[2].

          مع أن الناظر إلى هذا الكتاب وبالأخص هذا الموضع الذي نقل منه معالي الدكتور وقد نقله بتمامه بعد صفحة من هذا النقل[3]، يجد أن منهج الأزرقي: هو ذكر للحدث بدون تمييز أو فحص، وأقصى ما يفعله الأزرقي ممن فحص هو أن يقول: ويقال، ويقال[4]، وقليلا ما يثبت أو ينفي مكانا، وذلك بناء على سؤاله لجده أو غيره هل ثبت ذلك المكان أو لا؟[5] فإذا نفى من سأله ذلك المكن فإنه ينفيه والعكس، ولا يتعارض لنقد سند الرواية[6]ولا من قريب ولا من بعيد، فهل هذا هو منهج المحققين؟

          ولعل معالي الدكتور قال هذا الكلام حتى يسلم له القارئ بأن ما سيذكره الأزرقي صحيح، وهذا من الإيهام والتضليل للقارئ وهو مجانب للمنهج العلمي.

          المغالظة الثانية: دعواه أن الأزرقي رحمه الله يثبت لديه مما لا شك فيه[7] وذكر ستة عشر موضعا.

          وإذا نظرنا إلى ما ذكره الأزرقي سنجد أن أكثر ما ذكره الأزرقي قال فيه: ويقال، ولم يثبت ولم ينف رحمه الله الله وأسلوبه واضح لكل من طالع كتابه ولو على وجه السرعة[8]، فإنه يعدد ويذكر، لا أنه يجزم بها، وهو لا يذكر سندا لأي موضع منها على الأعم الأكثر، ونظر معي إلى نص الأزرقي رحمه الله الذي عناه معالي الدكتور بقوله المتقدم واحكم، إذ يقول الأزرقي:" ومن ذلك مسجد في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي التي عند الصفا يقال لها دار الخيزران، كان بيتا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مختبئا فيه، وفيه أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومسجد بأعلى مكة عند الردم عند بئر جبير بن مطعم، يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وقد بناه عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وبنى عنده جنبذا يسقى فيه الماء، ومسجد بأعلى مكى أيضا يقال له مسجد الجن، وهو الذي يسميه أهل مكة مسجد الحرس، وإنما سمي مسجد الحرس، لأن صاحب الحرس كان يطوف بمكة، حتى إذا انتهى وقف عنده ولم يجزه، حتى يتوافى عنده عرفاؤه وحرسه، يأتونه من شعب بني عامر، ومن ثنية المدنيين، فإذا توافوا عنده رجع منحدرا إلى مكة، وهو فيما يقال له موضع الخط الذي خط رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ليلة استمع إليه الجن، وهو يسمى مسجد البيعة، يقال إن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع، ومسجد يقال له مجسد الشجرة بأعلى مكة في دبر دار منارة، بحذاء هذا المسجد مسجد الجن، يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم شجرة كانت في موضعه، وهو في مسجد الجن، فسألها عن شيء، فأقبت تخط بأصلها وعروقها الأرض حتى وقفت بين يديه، فسألها عما يريد، ثم أمرها فرجعت حتى انتهت إلى موضعها،[ومسجد بأعلى مكة عند سوق الغننم عند قرن مسقلة، ويزعمون أن عنده بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن عنده بايع النبي صلى الله عليه وسلم الناس بمكة يوم الفتح،حدثننا أبو الوليد، قال: وحدثني جدي، عن الزنجي، عن ابن جريج، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم، أن محمد بن الأسود بن خلف الخزاعي أخبره أن أباه الأسود حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قرن مسقلة بالمعلاة، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم جاء الرجل والنساء والصغار والكبار"فبايعهم على الإسلام والشهادة، قال: قلت: وما الشهادة؟ قال محمد بن الأسود: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"].

          ومسجد الرر، وهو المسجد الذي يسميه أهل مكة مسجد عبد الصمد بن علي، كان بناه، ومسجد بعرفة عن يمين الموقف، يقال له مسجد إبراهيم، وليس بمسجد عرفة الذي يصلي فيه الإمام، ومسجد يقال له مسجد الكبش بمنى، قد كتبت ذكره في موضع ذكره  منى"[9].

          ففي هذا المقطع فقط كرر الأزرقي لفظة"يقال" تسع مرات ولم يتعرض لها بنقد، مع أن لفظه"يقال" في اعتبار معالي الدكتور من صيغ التمريض كما مر معنا.

          ولكن العجيب بعد هذا البيان أن نرى معالي الدكتور يقول:" يلاحظ في السياق السابق دقة الإمام الأزرقي العلمية، وتحقيقه الصحيح من الروايات، وبيان ما تصح نسبته إلى التاريخ النبوي الشريف، والتثبت منه كما هو مشهور، ومعروف عنه، فقد انتشر كتابه هذا بين الناس بسب دقته، وتنوع أخباره وصحة أسانيده"[10].

          فإذا ما قارنت بين قول معالي الدكتور والنص الذي نقلته لك من كلام الأزرقي، تعجبت من قول معالي الدكتور، وعلمت أنه من باب المبالغة غير المقبولة، ولعلها من باب التزكية التي ينتج عنها تضليل القارئ، ليسلم بتواتر هذه الأماكن وهي في حقيقة لأمر غير متواترة، بل وبعضها مجهول كما حكى ذلك الأزرقي بقوله:"يقال".

          فكيف يدعي معالي الدكتور بعد هذا أن الأزرقي رحمه الله يثبت لديه مما لا شك فيه؟ فهذا تقرير عار عن الدليل، وتحليل عليل لا تقبله العقول.

          فأتمنى من معالي الدكتور أن يتنازل عن فكرة"تواتر الأماكن" التي جعلته يلوي أعناق النصوص التاريخية ويحمل كاتبيها ما لا يريدون، وإني أدعوه إلى التحقيق وتصحيح التاريخ لا إلى تعميق الأخطاء التاريخية قد تضل بسببها الأجيال القادمة.

          المغالطة الثالثة: تدليسه على القارئ وتجنيه على الأزرقي رحمه الله فإن معالي الدكتور قال: ورد لديه موضوع الآثار الإسلامية التاريخية تحت عنوان:" ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة..."[11]، ثم سردها معالي الدكتور ستة عشر موضعا.

          وبالرجوع إلى الكتاب تبين أن الأزرقي ذكر هذه المواضع حتى مسجد بذي طوى[12]، أي أحد عشر موضعا فقط، وأما وغار حراء وغار ثور فذكر الأزرقي كل واحد منهما تحت عنوان آخر جديد: وهو" ذكر حراء وما جاء يه"[13]، وذكر بينهما بابا آخر وهو" ذكر طريق النبي صلى الله عليه وسلم من حراء إلى ثور"[14]، وهي ليست عند الأزرقي من المواضع التي يستحب فيها الصلاة، ولم يشر معالي الدكتور في سرده إلى هذا لا من قريب ولا من بعيد، ويستحب فيها الصلاة، وهذا تجني عظيم على الأزرقي، لا يليق بمثل معالي الدكتور أن يفعله، إذ هو مجانبة للأمانة العلمية.

          المغالطة الرابعة:إن صنيع معالي الدكتور يدل على أن الأزرقي رحمه الله مهتم بموضوع الآثار وأن ذكرها تحت عنوان" ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة..." يدل على ذلك.

          وعند الرجوع إلى الكتاب[15] وجدت أن عدد صفحات الكتاب كاملا في الطبعة التي بين يدي"661"صفحة، وذلك بعد حذف مقدمة المحقق وجميع الفهارس، وأن هذا العنوان" ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة..." عبارة عن أربع صفحات فقط، وهذا يدل على أن الأزرقي لم يكن مهتما تماما بالمواضع التي يستحب فهيا الصلاة أو أنها من الآثار التي يجب المحافظة عليها، إذ تبلغ النسبة أقل من 1% فكيف يهول معالي الدكتور من شأن الآثار وأنها احتلت مكانا في تاريخ الأزرقي؟ أخذ يدندن على هذا[16].

          المغالطة الخامسة: أنه لم يبين للقارئ لا من قريب ولا من بعيد أن جميع ما ذكره الفاكهي"من أنه يستحب الصلاة فيه"[17]، ليس عليه دليل مع أن معالي الدكتور يذكر أنه سلفي، وعادة اللفي التحاكم إلى الدليل والتمسك به، وترك كل ما لا دليل عليه.

          وكان عليه التنبيه على مثل هذا الخطأ الذي وقع فيه كل من الأزرقي والفاكهي، إذ الأفضلية لا بد في إثباتها بنص من الوحي صحيح، وإلا لادعى من شاء ما شاء.

          والعجيب أن الأزرقي والفاكهي لم يذكرا الصلاة خلف المقام، والصلاة بالحجر وهذان الموضعان مما ثبت به النص على استحباب الصلاة فيهما بمكة، ولم يعقب معالي الدكتور على ذلك مع وضوح الأمر، ومن تأمل الكتاب يجده قائما على النقولات بدون أدلة.

          المغالطة السادسة:عقد معالي الدكتور مقارنة بين كتابي الأزرقي والفاكهي[18] ليخرج بالأسماء المتفق عليها بينهما في الذكر في الكتابين، وهذا عمل لا إشكال فيه، وإنما الإشكال جاء في النتيجة التي استنبطها، إذ يقول:" هذه مجموعة الأماكن متفق على أنها مأثورة متواترة لم يحك فيها اختلاف بين العلماء حتى القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي"[19].

          وهذه النتيجة قطعا خاطئة وهي لا تعدو أن تكون دعوى لم يقدم عليها أي دليل، والدليل على خطأ هذه النتيجة وبعدها عن المنهج العلمي، أن معالي الدكتور حكم بتواترها بمجرد عدم حكاية الاختلاف بين العلماء حتى القرن الثالث الهجري، وهذا على خلاف الواقع، ومن أمثلة ذلك:

          1-أن أهل العلم بالسير ذكروا خلافا في موضع مولد النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال، فكيف يدعي عدم حكاية الاختلاف؟

          2-إن حكاية الاتفاق بين الأزرقي والفاكهي لا يعني اتفاق جميع العلماء حتى القرن الثالث، فأين النقل عن باقي العلماء؟ فعدم النقل ليس دليلا على الاتفاق، بل لا بد من حكاية الاتفاق من عالم معاصر معتبر مطلع، فحكاية الاتفاق أمر ليس بالسهل، وهذا ما لم يفعله معالي الدكتور.

          3-من المواطن المتفق عليها في الكتابين"مسجد بأجياد يقال له: المتكا"[20].

          ولم يذكره معالي الدكتور ولعله نسي أو سقط سهوا، لأن هذا مجافي للأمانة العلمية، إذ إن الأزرقي حكى أن هذا الموطن لا يثبت فيه قصة أن النبي صلى الله عليه وسلم اتكأ في ذلك الموضع، فالأزرقي أثبت المسجد ولم يثبت القصة.

          4-أن هناك من المساجد ما بني بعد القرن الأول، ومن أمثلة ذلك: مسجد بذي طوى الذي بنته زبيدة، فعدم حاية الخلاف عنه في القرن الأول لأنه لم يبن أصلا، فكيف يعد معالي الدكتور عدم حكاية الخلاف في المعدوم دليلا على التواتر وجودا.

          المغالطة السابعة: قول معالي الدكتور"لاشك أن هذه المجموعة عمن المؤلفين الثقات ومعظمهم من المحدثين والفقهاء، والقضاة، ورجال العلم حديثهم عما صح من الأماكن المأورة بمعناه الاصطلاحي يحقق التواتر في أجلى صوره، وأدق معانيه"[21].

          هي محاولة من معالي الدكتور لإثبات تواتر هذه الأماكن بأي طريق وأي أسلوب وأي عبارة وهي دعوى شرق بها معالي الدكتور من أول الكتاب إلى آخره، لم يزل يكررها، ويظن أنه بكثرة تكرارها سيجعل الارئ يسلم له بالتواتر، وفعلا قد تأثر بعض القراء من كثرة التكرار حتى ظن أن الأمر كما قال معالي الدكتور، ولكن الحقيقة أن هناك من القراء من تفطن لهذا الأسلوب، وأذ يبحث عن دليل لهذه الدعوى التي كررها معالي الدكتور أكثر من عشر مرات في كتابه، ولكن للأسف على كثرة تكرار الدعوى لم يذكر الدكتور دليلا واحدا على تواترها، بل معنى التواتر في واد ودعواه في واد آخر.

          إذ النتيجة التي ادعاها معالي الدكتور هنا بررها بأن العلماء الذين نقل عنهم في هذه المراضع ان حديثهم عما صح من الأماكن، وهذا خطأ علمي وفهم غير سليم، واستنباط غير دقيق، لأن حديثهم هنا لم يكن عما صح من الأماكن المأثورة، بل ينقلون ما ورد سواء صح أم لم يصح.

 



[1] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل ص (33).

[2] المرجع السابق (35).

[3] المرجع السابق (37).

[4] انظر: تاريخ مكة للأزرقي (2/600).

[5] انظر: تاريخ مكة للأزرقي (2/600-601).

[6] المرجع السابق (1/598-601).

[7] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل ص(35).

[8] انظر: تاريخ مكة للأزرقي (1/598-601).

[9] انظر: تاريخ مكة للأزرقي (2/600).

[10] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (46-47).

[11] انظر المرجع السابق (35-36).

[12] انظر: تاريخ مكة للأزرقي (2/598-601).

[13] المرجع السابق(2/602).

[14] المرجع السابق(2/604).

[15] المرجع السابق(1/600).

[16] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (33-47).

[17] المرجع السابق (47-51).

[18] المرجع السابق (51-52).

[19] المرجع السابق (52).

[20] انظر: الأزرقي(2/600)، الفاكهي (2/27).

[21] انظر: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة عرض وتحليل (73).

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
المتواتر من الأماكن المأثورة في مدونات التاريخ المكي الخاص.doc doc
المتواتر من الأماكن المأثورة في مدونات التاريخ المكي الخاص.pdf pdf

ذات صلة

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى